الشنبلي الصحفي ضحية الشنبلي النقابي … بقلم: محمد الشيخ حسين
21 March, 2010
abusamira85@hotmail.com
اختار الأستاذ يوسف الشنبلي نماذج من تجربته الصحفية ودونها في كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان (صحافي بلا حدود).
جهد فردي يعادل جهد مؤسسة، يخدم الصحافة الحديثة ويوصلها بتجربة الحرية في تشكيل الوعي، حرية يتميز بها الواقع السوداني وطالعة من بند الحرية المتفرد في التكوين الثقافي للوطن الذي لا يزال جديدا.
الشنبلي قلم متميز وصحفي عريق، لكن شهرته الكبرى جاءت من سيرته النقابية الجهيرة التي لها فيها حكايات داخل وخارج السودان أقرب إلى أساطير الأولين.
غير أن هذه السيرة النقابية ذات الطبيعة النضالية، لم تكتف بالطغيان على السيرة الصحفية للشنبلي وحدها، بل سجنته في نكد قضايا المهنة وهموم توفير لقمة العيش له ولمنسوبيها، وله هنا حكايات وحواديت ينتهي الليل ولا تنتهي.
من حيث التركيبة الأسرية، نشأ يوسف محمد صالح في أسرة متوسطة في منطقة السجانة، أيام كان للطبقة الوسطى (شنة ورنة). والشنبلي لقب أطلق عليه رائد الحركة الوطنية الأستاذ أحمد خير المحامي.
إذن نحن أمام صحفي عجوز تتلمذ على يد الأستاذ أحمد يوسف هاشم وعاصر عمالقة من الصحفيين والسياسيين والكتاب منذ أن تفرغ لهنة البحث عن المتاعب (قبل الناس تعرف الناس).
الطريف أن الشنبلي الشايقي القح الذي تفتحت بواكير وعيه في السجانة لم يتمذهب شيوعيا شأن معظم أبناء جيله وحيه أو يتطرق اتحاديا بميول صوفية تستمد زادها من راجل كسلا سيدي الحسن (رضي الله عنه ونفعنا بجاهه)، والعبارة الأخيرة أوصى بها العلامة عبد الله الطيب إذ كان يؤثر أن يقرن اسم السيد الحسن بذاك الدعاء، ولتوصية العلامة خبر وقصة.
الحاصل أن الشنبلي أختار أن يسير في طريق القومية العربية العريض معجبا أو مؤمنا بعبارات براقة ومؤثرة ملأت حياة العرب في حقبة الستينيات مثل (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة من المحيط إلى الخليج).
يتخطى بك الشنبلي في كتابه (صحافي بلا حدود) بفصوله الأربعة عشرة حدود هذه الأيام، ينتشر رائحته في الشوارع الأزقة والساحات ويقتحم النوافذ إلى الغرف القصية، ينتقل بك مثل نهر النيل هادئا مرة ثم صاخبا مزمجرا وفي الحالين يحمل الخصب والنماء، لكن سرعان ما يفيض ويكتسح القرى والمدن. غالب ظني أن الشنبلي حين بدأ كل فصول هذا الكتاب بوصف لنهر النيل في إحدى حالاته كان موفقا في الاستهلال، لكن فات عليه أن النيل أحيانا يفيض ويهدم كل ممتلكات عاشقيه والمقيمين على ضفافه. ولعل المعنى الأخير يبدو جليا في فصلي الكتاب اللذان سرد فيهما تجربته المرة مع صحيفة (البيان) وتجربته المريرة مع صحيفة (الخبر)، وهنا يلزمني أن اعتذر للقارئ عن الاستطراد في هذين الفصلين، ذلك أن صراحة الشنبلي ودقته في الرصد ربما قادت ناشر هذه الصحيفة إلى المحاكم، خاصة في الاتهامات المباشرة لأشخاص ملء السمع والبصر بشهادة الزور أو خيانة الأمانة.
ولا تقلل الملاحظة السابقة من جهد الشنبلي في رفد مكتبة الصحافة السودانية بكتاب جيد احتوى على رصد جيد لتجارب صحفية حية في أنظمة سياسية مختلفة. وهو جهد مطلوب رغم بعض الهنات بضبط تواريخ الأحداث، إذ أن هناك شيء من الخلط بين تجارب صحفية حدثت قبل وبعد 25 مايو 1969.
دعك من هذا العناء، فالشنبلي النقابي (المناضل) طغى على الشنبلي الصحفي (المراقب) فضلا عن أن فكرة الكتاب نفسه كانت بلا حدود، وهنا أدعو القارئ أن يتعامل مع الكتاب بهذا الفهم. ولذلك كان من المفيد جدا أن يحدثنا عن تجربة قيام وكالة السودان للأنباء بعد تأميم الصحافة في أغسطس 1970م. صحيح أن الكتاب تعرض لملابسات الصراع بين الراحل الأستاذ عمر الحاج موسى بصفته وزيرا للإرشاد والرائد مأمون عوض أبو زيد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي السوداني حول تبعية الوكالة، فوزير الإرشاد يرى ضرورة تبعية الوكالة له بصفته جهة الاختصاص، في حين الأمين العام كان يريد أن يلحقها بالاتحاد الاشتراكي أسوة بالصحف. نقلنا الشنبلي وقد كان صحفيا رقما في هذه الوكالة إلى أجواء هذا الصراع في ملابسات الحديث عن تصفية تبعات انقلاب الراحل هاشم العطا، دون أن يستطرد في التجربة نفسها، خاصة أن المعاصرين لنشأة الوكالة يتفقون على أن عبقرية الأستاذ مصطفي أمين المؤسس الفعلي للوكالة قد جنبتها هذا الصراع بنقل تبعيتها إلى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي أعطى الوكالة وضعا مميزا استمر حتى انتهاء النظام المايوي في أبريل 1985. والشيء بالشيء يذكر فإن وكالة الأنباء السودانية (سونا) هي ليست وكالة أنباء السودان التي أسسها الراحل عبد الكريم المهدي قبل قيام ثورة مايو 1969م.
منذ البدايات الأولى ينقلنا الشنبلي إلى أهم مدرسة صحفية عرفتها الصحافة السودانية قامت على الاستقلال التام والتعبير عن قضايا الشعب واعتمدت على نفسها دون الدخول في براثن الأحزاب وصراعاتهما هي (السودان الجديد) لأبي الصحافة السودانية الأستاذ المرحوم أحمد يوسف هاشم، والتي صدرت شهرية ثم تحولت إلى نصف شهرية ثم إلى أسبوعية. وكانت تصدر في الثانية من ظهر كل اثنين وكانت تعتبر مسائية ثم صارت مرتين في الأسبوع الاثنين والخميس، وأخيرا أصبحت يومية من طبعتين الطبعة الأولى في السادسة صباحا وترحل إلى الأقاليم.
أما الطبعة الثانية فكانت تصدر للعاصمة بعد السادسة صباحا متضمنة آخر خبر تحت عنوان (الطبعة الثانية).
(السودان الجديد) هذه التجربة الصحفية الإنسانية الثرة، وهي الصحيفة الوحيدة التي راحت ضحية قرار تأميم الصحافة السودانية في أغسطس 1970م، لو أن الشنبلي الصحفي وهو القادر على ذلك استطرد في سرد مآثرها وأفضال صاحبها على مهنة الصحافة والمشتغلين فيها، لقدم فائدة جديدة لتأريخ الصحافة السودانية، لكن الشنبلي النقابي كان مستعجلا لسرد تجارب أخرى وتصفية معارك هدت حيله، بل جعلته يفقد حكمة العجائز ولا أقول إيمانهم في بعض السطور.
نسمات النيل صيفية والأرض على ضفتيه تكتسي باللون الأخضر أو الداكن الزرقة أو البنّي المتدرج أو الأصفر، ويمضي الشنبلي خمسين عاما في دهاليز وبلاط صاحبة الجلالة يلبس جلابية الببولين الأبيض ويعمل مع عمالقة الصحافة تراه يزامل الأستاذ محمد الخليفة طه (الريفي)، ذلك الشايقي الذي نشأ في قضروف سعد في صحيفة (الثورة) التي أصدرتها حكومة طيب الذكر الراحل الفريق إبراهيم عبود. و(الثورة) كانت أول صحيفة حكومية في السودان، لكنها كانت ناجحة من جهة الأداء المهني والتوزيع والتأثير في المجتمع، وهنا يقفز إلى ذهني سؤال فحواه لماذا تبدو صحافة الأنظمة الشمولية أكثر نجاحا من صحافة الأنظمة الديمقراطية؟ صراحة كنت اطمع أجد في دهاليز الشنبلي إجابة أو تبريرا يؤيد أو ينفي هذا السؤال.
أما وصف هذه الصحافة بأنها (محنطة) أو غير منتشرة أو مؤثرة شعبيا، فهو وصف لا يطابق حال هذه الصحافة سواء كان ذلك في حكومة الراحل إبراهيم عبود أو حكومات الراحل جعفر نميري.
ذات مرة نقلت ملاحظتي عن ازدهار الصحافة السودانية في الأنظمة الشمولية وتراجعها في الأنظمة الديمقراطية إلى أستاذنا الجليل علي شمو، فأجابني رغم تحفظه على ما سميته الصحافة الشمولية، بأن الصحافة القومية في عهدي عبود ونميري كانت صحافة ذات رؤى وأهداف محددة تخدم مهمة توفير الوعي وتتمتع بحرية واسعة لا تحدها سوى مسؤولية الصحيفة تجاه تجنب مخالفة القوانين، والقوانين نفسها كانت في حدود المعقول والمتفق عليه عالميا في تلك الأوقات.
وخلاصة حديث أستاذ الأجيال شمو أن صحافة الأنظمة الديمقراطية كانت تفتقر إلى وضوح رسالة الصحافة ودورها، ولذا تراجعت وتحولت من وسيلة من وسائل الوعي إلى أداة من أدوات الصراع والتناحر الحزبي، ولذا تراجع دورها.
وأهمية إعادة شهادة الأستاذ شمو هنا مبعثها أن تجربة الشنبلي في صحيفة (الخبر) هي خير دليل على عدم وضوح الهدف عند طرفي التجربة، ولذا دون الشنبلي هذه التجربة بكثير من المرارة لدرجة أن القارئ ربما تجرع معه هذه المرارة.
ومناسبة هذا الحديث أن الشنبلي كان بمقدوره أن يستفيض في هذا الجانب المهني، لا سيما أن الطريقة التي كان يوفر بها رائد الحركة الوطنية الأستاذ أحمد خير الحماية لصحيفة (الثورة). وحتى لا نظلمه فقد قدم عدة نماذج للمشاكل التي كانت تحدث في المطبخ الصحفي. ولعل طريقة معالجة خبر عربات الإطفاء لمحالج القطن في مارنجان شهادة إيجابية لصالح الحكومة، فقد نوقش الخبر في المجلس الأعلى للقوات المسلحة لاتخاذ قرار ضد الصحيفة والمحرر، لكن الراحل عبود حسم النقاش بتأكيد أن الخبر صحيح وينبغي إرسال عربة إطفاء من مدني للمحالج في مارنجان، وينتقل المجلس إلى البند التالي.
يوسف الشنبلي صحفي تعجز عن وصفه، ولكنك تجد أنه صورة حية للمواطن السوداني، الذي قهر وهاجر وناضل وصنع لنفسه مدارا يتحرك فيه، يصارع هذا ويصافح ذاك وينتصر لعقله وأفكاره. عمل داخل وخارج السودان ولم يتغير كثيرا، وإن كان يدين للصحافة العربية بترتيب فوضى حياته، أحب العراق وأهله منذ الصبا الباكر، لذا كانت له تجربة نقابية ومهنية باهرة فيه، عمل في صحافة البحرين وأبدع فيها، له تجربة لم تكتمل في صحيفة (البيان) التي يرى أنها حادت عن هدفها الرئيسي في الاتفاق المبرم معه. يعترف بعفويته ويدين للمهنة بذلك، ويعيب على الصحفيين عدم وجود البرنامج الفاعل ويتحسر أحيانا على نضال الأيام القديمة، لكن لا يبصق على التجربة. ينتقد علانية تدخل المؤسسات الرسمية في إقرار مواثيق الشرف الإعلامية، وهو يرثى لحال الصحافة الوطنية، ويبشر بمستقبل باهر للصحفي السوداني الذي يرى أن تقلب الأنظمة قد حرمه من فرص كثيرة.
نسائم النيل حين تهب بين صفحات الكتاب تجعل خياراته متعددة، واحتضانه للغريب حميما حتى تصهره فيها. وعشق الشنبلي للنيل ونسماته وأمواجه تخاله أحيانا نرجسية مفرطة، أو محاولة لتطويع هذه الأمواج حتى تزيده جموحا وتمردا.
صحفي بلا حدود تجربة خمسين عاما للخوض في بحر من السفن الغرقى والناجية، ربما تلمح مناديل الوداع وتلويح الأيدي لراحلين بلا عودة. ولو أن النيل يشيخ لما اختار الشنبلي ضفتيه ذاكرة له.
عند شاطئ النيل يجلسك الشنبلي، لقراءة 184 صفحة من القطع المتوسط، لن تشعر بالزمن قد انقضى أو أنه كان سريعا، نراقب في نهر يتسع أمامه كل ضيق، لا يقيم حدودا، فيشرح الصدر هذا الهواء المحمل بالصدق وبراءة التجربة ومرارتها أيضا، نتحد به لتنطلق أحلامنا بلا حدود، ونقول إن الآخر جزء من تكويننا.
ولا تحسبن أن جيل الشنبلي قد أُعطي كل الفرص، بل على العكس قد يكون هو الجيل الذي نقش الحرف على الحجر لتستدل به الأجيال المقبلة وتقتفي أثره من دون أن تتبعه، ولكن لتجعله بوصلة لها. ورغم كل ذلك فأنا أجد أن الصحفيين أجيال الخيبات الكبرى، فكثيرا ما حلمنا وحلمنا ثم حلمنا أكثر لنجد أنفسنا أمام واقع شديد القسوة لا يرحم الحالمين ولا يهوى سوى تكسير الأحلام وتحويلها إلى وهْم. وكثير من أجيال الصحفيين تخلوا عن أحلامهم الكبرى والصغرى أو اكتفوا بما تمنحه الحياة. أنا أيضا اكتفيت بالممكن فيما كنت أحلم بالمستحيل، كأن يكون الفضاء الحر أكثر من الهواء الخانق، أن يكون للصحافة مسافاتها التي تبعدها عن السلطة بدلا من أن تنام في حضن هذه أو في أحضان رأس المال الناشئ على دفن أحلام أجيال مقبلة من أبناء الوطن.
يوسف الشنبلي صحفي (خمس نجوم)، والجلوس بين صفحات كتابه الأول، أشبه بمعركة إسبارطة لا خاسر فيها لا المؤلف ولا القارئ ولا المجتمع الصحفي.