المفوضية.. من البرسيم لـلسِعِد
23 March, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
أوجعت قلبنا المفوضية القومية للانتخابات، فكلما لاحظنا كيف هبطت بتوقعاتنا توجعنا، ثم قلنا نصرف عنها النظر، أتت بالجديد المبتكر في عالم المحن والعبر! ومن أبلغ محن المفوضية تلك المتعلقة بردودها على الخطابات والمذكرات التي تستلمها من الأحزاب والمرشحين. لعل آخرها المذكرة التي أرسلتها جماعة كبيرة من الأحزاب السياسية مدعومة بمسيرة ترفع راياتها ولافتاتها وتعبرّ عن خيبة أمل عظيمة في المفوضية وطاقمها الذي كان كسنارة للآمال غطست في بحر العملية الانتخابية فأتت لنا باحباطات متزايدة. بدأت بأن كانت ردودها بلا طعم كالبرسيم، ثم انتهت مؤخرا بالسِعِد.
قدمت الأحزاب مذكرة للمفوضية في خمس صفحات احتوت على مقدمة وملاحظات على ضعف التزامها بالقانون في مرات عددتها المذكرة مثال تقليص فترة سحب الترشيحات وتسجيل القوات النظامية في أماكن العمل، وانعدام الشفافية واتخاذ اجراءات كثيرة بدون الرجوع للأحزاب بالرغم من تسمية مناديب للأحزاب للاتصال والمشاورة، والحيدة، والاستقلال عن حزب المؤتمر الوطني خاصة في اللجنة العليا للانتخابات، وقلة الكفاءة فيما يتعلق بعدم تدريب مناديب الأحزاب وكثرة تعديل الجدول الانتخابي، وأخيرا الإصلاح المطلوب فيما يتعلق بحل إشكالات الإحصاء، ورفع حالة الطوارئ في دارفور، وتحقيق الشراكة الثلاثية المطلوبة بين الأحزاب والمفوضية ومجلس شئون الأحزاب السياسية، واتخاذ إجراءات لوقف استغلال المؤتمر الوطني لإمكانيات الدولية، وإلغاء الآلية المشتركة لاستخدام الأجهزة الإعلامية أثناء الانتخابات واستبدالها بمجلس قومي للإعلام، وإلغاء منشور أنشطة الحملة الانتخابية لسنة 2010م. وفي نهاية مذكرتها ختمت الأحزاب السياسية بالتالي: (نتطلع للأخذ بهذه الاصلاحات والشروع فيها فورا فمن الاهمية بمكان الاطمئنان لحيدة واستقلالية وشفافية الجهة التي تنظم الانتخابات واجراءاتها لنتمكن من المشاركة في انتخابات تكون السبيل لانهاء أزمات السودان، وليس الانهماك في اجراءات للتصويت والاقتراع تفتح الباب أمام مخاطر جديدة وأزمات. المطلوب والمتوقع منكم الرد على هذه المذكرة بالاستجابة لمطالبنا خلال اسبوع، ومالم يحدث ذلك ستكون لنا خيارات أخرى ومواقف).
بدأت المفوضية بداية برسيمية معتادة، وكنا نتوقع أن تنتهي مثلما ابتدأت كالعادة، والبرسيم من عجائب القوت الذي تلتهمه الأنعام بينما بني البشر يأكلون ثمار الأشجار ذات الطعم الحلو أو الحادق أو كيفما تكون أطعام الثمار. وبعضه مما يزيد على ذلك الضرر ببقية الأشجار، فأنت ترى أن "السعد" وهو نبت شبيه بعشب الحدائق ولكنه كما سمعنا يشرب مياه السقيا على حساب بقية الأشجار التي تجاوره في الأرض فتموت، ولذلك قال المثل: البعد ولا البلاد أم سعد!
ومن الردود البرسيمية المعتادة في خطاب المفوضية ردها على مسألة الالتزام بالقانون، فأنت ترى المفوضية تفهم القانون الذي ينظم عملها وينظم الانتخابات بشكل غريب، يدعو للريبة. قالت في ردها إنه "ليس صحيحا أن المفوضية قد انتهكت المادتين 49 و61 بتقليص فترة سحب الترشيحات إذ أن المادتين تتحدث عن أقصى فترة يجوز خلالها الانسحاب وللمفوضية الحق في أن تزيد هذه الفترة". ولعله من الدرّاب القول إن المادتان تتحدثان عن أقصى فترة وأن للمفوضية الحق في زيادتها، وهي تقصد في تقليصها وهي درّابة توحي بأن كاتب الرد لم يثن مراجعة مسودته ولا فعل زميل له آخر. وبغض النظر عن هذه "الدقسة" التحريرية فإن لنا تعليقا في لب الموضوع. المادة 49-1 تقول: يجوز لأي مرشح معتمد تم قبول تر شيحه للإنتخاب وفق أحكام المادة 42-1 أن يسحب ترشيحه خلال مدة لا تقل عن خمسة وأربعين يومًا سابقة ليوم الإقتراع على أن يخطر المفوضية بسحب ترشيحه بموجب كتاب موقع عليه من المرشح بشخصه وموثقًا توثيقًا قانونيًا. والمادة 61-1 تقول: يجوز لأي مرشح ترشيحًا صحيحًا في أي دائرة جغرافية، سحب ترشيحه في موعد أقصاه ثلاثين يومًا قبل تاريخ الإقتراع. المادتان متناقضتان من ناحية أن الأولى تجعل اليوم الأخير لسحب الترشيح هي يوم 24/2/2010م والثانية تجعله 11/3/2010م، ولكنهما تتحدثان عن حق أعطاه القانون لأي مرشح لكي يتراجع عن ترشيحه وفقا لحسابات سياسية وشخصية وغيرها، والقانون إنما ينظم العلاقة بين الناخبين والمرشحين والمفوضية، فما الذي أعطى المفوضية الحق في تقليص الفترة إذا كانت المادتان تتحدثان عن حق في سحب الترشيح في مدة معينة، ولماذا يتم النص أصلا على سحب الترشيحات إن لم يكن لإعطاء فرصة أكبر للمرشحين لمراجعة حساباتهم وتحالفاتهم؟
من جديد حينما ردت المفوضية على مسألة القوات النظامية صرفت حبرا كثيفا في إثبات أنها ردت على تعليقات الأحزاب وليس صحيحا أنهم لم يتلقوا ردا إلا في تصريحات في الإعلام، وفي الحقيقة قد "تلوّمت" الأحزاب التي كتبت المفوضية لوما كبيرا في تلك الجملة لأنه وبالفعل في كل مرة كانت المفوضية ترد، ولعلهم قصدوا أنه رد مثل عدمه لأن المفوضية لا ترد أي رد ذي بال على سلسلة النقاط والمذكرات التي كانت ترفع إليها، فوجدت المفوضية ثغرة في تلك الجملة غير الصحيحة وطفقت تثبت متى ولمن ردت، ولكن في الناحية الموضوعية كررت المفوضية ردودها البرسيمية على مسألة القوات النظامية. قالت إن القوات المسجلة ثكناتها في المواقع المعنية، ولكن شكوى الأحزاب لم تتجه أبدا لتلك القوات التي تقيم ثكناتها في أماكن التسجيل. والتسجيل لم يقتصر على القوات التي تقيم في ثكنات داخل الدوائر المعنية، بل شمل تسجيل لقوات نظامية تقيم في مناطق مختلفة عن الدائرة المعنية وكانوا يسجلون جماعيا وبكشوفات ويلبسون زيهم الرسمي ويحملون عبر عربات القوات النظامية من جيش وشرطة ولا يحق لها ذلك فلو كان التسجيل بناء على منطقة سكنهم لجاءوا فرادى، كذلك هناك قوات عملت لها معسكرات مؤقتة لم تكمل ال3 أشهر وسجلت في دارفور وفي غيرها من المناطق. فهذا الرد لا ينطبق إلا على شريحة معينة من القوات النظامية التي تقيم في ثكنات دائمة مثل مجمع السلاح الطبي والقشلاقات المختلفة. مثل هذه الحالة لا تحتاج أصلا لمنشور لأن الشخص المعني يقيم فعلا في المنطقة ويمكنه استخراج شهادة سكن مثله مثل غيره من المواطنين ويأتي من منزله فردا ليسجل كمواطن فرد.
ومن النقاط التي تستحق التعليق أيضا ما جاء حول منشور أنشطة الحملة الانتخابية: قالت المفوضية "وبالرغم من أن المفوضية تستلهم مبادئ الحريات الواردة في اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي وقانون الأحزاب وقانون الانتخابات إلا أننا في نفس الوقت لا نملك أن نتجاهل القوانين السارية وبالأخص قانون الإجراءات الجنائية، وماثل أمام أعيننا ما حدث من مواجهة بين قوات الأمن وقوى المعارضة التي منعت مسيرتها" فالمفوضية التي رأت أمام أعينها ما حدث لمسيرة المعارضة لم تقف بصلابة أمام قوات الأمن لتقول إنها أمينة على الانتخابات ولن تسمح أن تنتهك تلك القوات حريتها بل فعلت كما فعل الذئب الذي قال للأسد: الدجاجلة لفطورك والحمار لغداك والغزال لعشاك وقال إنه استفاد مما حدث للضبع!! يا مفوضية اليابا والتابا.. أوجعت قلبنا أكثر مما يمكن!
ثم تحولت المفوضية من البرسيم للسعد في خاتمة مطاف خطابها ذي الصفحات السبعة عشر، وحقا كان خطابا من عذاب عليه سبعة عشر، وكان ذلك حين تعليقها على فقرة الإصلاحات المطلوبة. بدأت الفقرة وهي تؤكد حقائق حين قرأنها قلنا إن المفوضية أخيرا قد عرفت الحق، قالت: "البلاد مقبلة على الانتخابات التعددية بعد أكثر من عشرين عاما من حكم الحزب الواحد بمؤسساته الدستورية التنفيذية التشريعية والقضائية. وان الانتخابات منصوص عليها في اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي. المفوضية القومية للانتخابات تدرك أن القوى السياسية كانت وما تزال تسعى لتجميد إو إلغاء القوانين التي ترى أنها مقيدة للحريات لكي تتاح ممارستها في مجتمع ديمقراطي".
وهذه حقائق لو كانت المفوضية تعيها فإن عليها إذن أن تقف دائما في صف الأحزاب لا صف الحزب الواحد الذي تحكم لعشرين عاما ويريد أن يستمر بتزييف الانتخابات وإرادة الشعب. لكن المفوضية بعد هذا الاستهلال القوي للفقرة قالت: "ورغم أن شيئا من ذلك لم يتم، أقبلت القوى السياسية على المشاركة في الانتخابات وهي تعلم أن الانتخابات لن تقوم بمعزل عن المؤسسات الدستورية القائمة، علما بأن هذه المؤسسات لم تؤثر سلبا على الأعمال التنفيذية للمفوضية في ترتيب العملية الانتخابية وهي مراحل متتابعة وقد انتهت منها وفق القانون الذي يكفل الطعون والاعتراضات..الخ" يا إلهي إن المفوضية أخذت علينا أننا برغم أن شيئا من الحريات والتحول الديمقراطي لم يتم فإننا أقبلنا على المشاركة في الانتخابات ونحن نعلم أنها لن تقوم بمعزل عن المؤسسات الدستورية القائمة!! يا إلهي نحن قد دخلنا الانتخابات برغم المؤسسات الجائرة القائمة ونحن نتكيء إلى دستور منصف وإلى آمال في مفوضية تنفيذية على رأسها أبيل ألير ونعتقد أننا بقوة الدستور وصلابة المفوضية ومواقفنا أجمعين نستطيع أن نحجم أثر تلك المؤسسات الجائرة! يا إلهي كنا حين اتكاءنا على المفوضية نتكئ على أي حائط متهدم؟!! بل منهار لأنها تقول إنها أصدرت منشورا جائرا يصادر الحريات وعينها على ما فعلته قوات الأمن بمسيرة المفوضية، وتقول الآن إن هذا الواقع القائم وهذه المؤسسات "لم تؤثر سلبا على الأعمال التنفيذية للمفوضية" فهل لم يكن المنشور الذي أصدرته والآلية التي وسمتها بعض مما نفذته وعينها على سيف يزيد بن المقفع العذري الذي قال للقوم في حضور معاوية: أمير المؤمنين هذا فإن هلك فهذا وأشار ليزيد، ومن أبى فهذا: وأشار لسيفه!
وسدرت المفوضية أكثر في درب السعد بل لعله الحنظل في استنكار أن يكون الإيفاء بمطلوبات الأحزاب في أسبوع وهو ما لم يحدث، لقد أوردنا أعلاه كلام الأحزاب وهي طالبت أن يكون الرد في أسبوع بالاستجابة للمطلوبات أي أن أنها طلبت من المفوضية أن تدرس مذكرتها في أسبوع وترد عليها إيجابا فالأحزاب متعودة أن ردود المفوضية دائما نفي أو مراوغة.. قاد المفوضية لتلك الحجة المريبة: أن الأحزاب تطالب بتطبيق كل مطلوباتها في أسبوع بعض الأقلام الإنقاذية وجملة الأحزاب لا تحتمل ما حملت: "المطلوب والمتوقع منكم الرد على هذه المذكرة بالاستجابة لمطالبنا خلال أسبوع" أما التنفيذ فيمكن أن ياخذ ما يأخذ من وقت. ثم طفقت المفوضية تتمرجن (أي تقع في جب القراءات المؤتمروطنجية) وتتساءل عن الدوافع الحقيقية وراء هذه المطالب التعحيزية! وعلى المفوضية إذا وجدت أن كل الأحزاب السياسية وكل مرشحي الرئاسة ما عدا المؤتمر الوطني أو قل غالبيتهم الساحقة في خندق واحد، وأنها والمؤتمر الوطني في خندق واحد أن تلمس رأسها ستين مرة.. لعلها تمرجنت! وهو كذلك بالفعل، إذ أنها في درها حول إلغاء الآلية المشتركة قالت: إن المفوضية ما زالت ترى أن الآلية الإعلامية بتمثيلها الحالي هي أفضل تنظيم للإشراف على توزيع عادل للفرص بين الإعلام والمرشحين. وتمثيلها الحالي منذ أن انسحبت منها الأحزاب الخمسة: الأمة القومي والحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي والديمقراطي الأصل ليس فيه سوى المفوضية، وقادة الأجهزة الإعلامية الرسمية المرضي عنهم من قبل المؤتمر الوطني، وممثل المؤتمر الوطني، ومفوضية اليابا والتابا الوطن والحرية ترى أن تمثيها الحالي أفضل تنظيم!!
كان البرسيم أفضل لنا.. تحولنا الآن نحو السعد، وقالوا: البعد ولا البلاد أم سعد، على الأحزاب السياسية أن تتخذ موقفا واضحا إما أن تعلن خوض الانتخابات برغم أن المفوضية ذراع للمؤتمر الوطني، أو أن تنسحب وتريح نفسها من هذا الوجع ليجري فيها المؤتمر الوطني وحده كما فعل غير مرة..
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]