وشهد شاهد من أهلها … بقلم: د. زاهد زيد

 


 

د. زاهد زيد
24 March, 2010

 

     نال الدكتور التجاني عبدالقادر قديما إعجابي دون معرفة لصيقة به وهو رجل موهوب في الكتابة والخطابة لا تملك إلا أن تحترمه سواء اتفقت معه أو اختلفت , وطالما تعجبت كيف انساق مع عقله الرصين وعلمه الوافر وراء الجماعة المتأسلمة . وكنت اراهن على أنه وأمثاله لن يطول بهم الإغتراب عن الحقيقة وأنهم سرعان ما ستتبدى لهم الأشياء على حقيقتها , وقد حدث ما توقعت وهاهو قد بدأ مشواره الثاني في سلسلة من مقالات عودة الوعي والنور ليكشف باطلا طالما دافع عنه كثيرا, وازداد اعجابي به بعد ان اطلعت بمحض الصدفةعلى ذهذه السلسة من مقالاته التي نشرت على ما يبدو منذ وقت ليس بالقصير فى صحيفة الصحافة ونشرها موقع للجالية السودانية بأمريكا مع تعليقين في شكل مقالين احدهما للدكتورعبدالوهاب الأفندي المنشق عن التنظيم الإسلامي بشقيه الوطني والشعبي والثاني للعقيد محمدالأمين خليفة المنشق عن الوطني .

 والحقيقة التي لم تعد خافية على احد هي ما سطرته في مقالي" ثورةالجياع المتأسلمين" أن التنظيم الذي كان يقوده د. الترابي كان ولا يزال بشقيه الوطني/الشعبي مجرد قشرة إسلامية تضم في داخلها شتات أبناء الفقراء والمعوزين الذين ما كادت تلوح لهم فرصة الغني حتي هرولوا إليها ناسين كل شيئ ,أصلهم وفصلهم والمبادئ التي من اجلها انضموا للتنظيم بل ونسوا حتى التنظيم نفسه , يقول الدكتور التجاني " إن الغالبية العظمى من عضوية الحركة الإسلامية جاءت اما من أدنى الطبقة الوسطى، من شريحة الموظفين محدودى الدخل، واما من الشرائح الاجتماعية الفقيرة القادمة من قاع المجتمع ومن هوامشه الاقتصادية. يتذكر كاتب هذا المقال أنه فى أواسط السبعينيات من القرن الماضى كان تنظيمنا يعمل من تحت الأرض، وأردنا أن نجد "أماكن آمنة" فى مدينة الخرطوم نخفى فيها أعضاء اللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم من أجهزة الأمن التى كانت تطاردهم، فكان عدد الذين يملكون منازلا خاصة بهم (تتسع لاستضافة ثلاثة أشخاص أو أكثر) يعدون على أصابع اليد. وأذكر أن أحد أخواننا الذى امتاز بالسخرية والدعابة كان لا يخفى تذمره من البقاء فى المنزل العائلى المتواضع الذى استضيف فيه، فإذا سألناه قال: كيف أبقى هنا وكلما أردت الحمام هرعت الى الشارع لأبحث عن سيارة للأجرة. أما الآن فقد صار كثير من هؤلاء يمتلكون البنايات الطويلة، التى تقدر أثمانها بما لا نستطيع له عدا، وتدخل منزل أحدهم فترى ما لم تكن تسمع به حتى فى بيوت الباشوات، وتسأل أحدهم من أين لك هذا فيقول من "استثماراتى"، ماطا شفتيه بالثاء، ولا يذكر أنه الى عهد قريب كان يسكن بيتا من الجالوص الأخضر."

     يستمر الدكتور التجاني في تبيان انحراف التنظيم عن مقاصده وتحوله إلى مافيا لا تعرف إلا المال فيقول"  ولكن ما تقدم من سرد يشير الى أن قضية العدل الإجتماعى لم تعد هي القضية الأم في النموذج الراهن، وذلك لأن الفئات الثلاث التى يقوم عليها النموذج: الشريحة الرأسمالية المتحالفة مع القوى الأمنية والبيروقراطية فى داخل الدولة، ومع القوى القبلية فى خارجها، لم يعد لواحدة منها هم والتزام بقضية العدل الاجتماعي، فبيروقراطية الدولة لا يمكن أن تسعى في تحقيق العدل الاجتماعي لأنها لم تنشأ "تأريخيا" من داخل المجتمع، كما أنها لم تستطع فى عهد الإنقاذ أن تتحول الى نخبة "رسالية" مهمومة بقيم الدين، فلا هي إذن تعبر تعبيراً صادقاعن رغبات ومصالح "الناس" ، ولا هى تجسد قيم الكتاب"

هذا الكلام لم يصدر من  شيوعي أو علماني بل هو لواحد من أميز كوادر الجبهة الاسلامية فما الذي يمكن ان نضيفه بعد ذلك ؟  فلندع الدكتور يواصل ويبن لنا خطورة سيطرة هذه الرأسمالية الجديدة فيقول" فالحديث إذن عن الشريحة الرأسمالية هذه لا يأتى من قبل الحسد أو الغبن، كما قد يتوهم بعض الناس، وانما يأتى الحديث عنها لأنها صارت تشكل مسار الحركة الإسلامية، وتحدد اختياراتها، واذا لم تتدارك الحركة الاسلامية أمرها بصورة جادة فانها سرعان ما تجد نفسها منقادة بقوى السوق، وسيكون أرقى مكاتبها هو مكتب التجار، وستكون أنشط عناصرها هم المقاولون ورجال و(سيدات) الأعمال، الذين يكون انشغالهم بالأرصدة والصفقات أكثر من انشغالهم بالكتاب وبالناس وبالقسط الاجتماعي، وسيصعب عليهم الاستماع الى النصائح الناعمة من أى أحد حتى ولو قُرٍأ عليهم كل ما كتب فى أبواب الزهد والقناعة."

   طبعا الاتهام بالحسد والغبن للمنتقد لهم من زملائهم في التنظيم ,وقد أدت المفارقة والقسمة الضيذى للتمرد حتى داخلل تنظيم طبقة عليا وأخرى دنيا يقول الدكتور التجاني في ذلك" كان كل من هؤلاء يتصور بطريقته الخاصة أنه «ممسك بقرنى بقرة وآخرون يحلبون». و «قرون البقرة» كانت يومذاك تشير الى المواجهات العنيفة ضد نظام مايو وما تبع ذلك من اعدامات واعتقالات وتشريد، أما «الحليب» فقد كانت فيه اشارة الى المؤسسات الاقتصادية «الإسلامية» الجديدة التى تمنح القروض الميسرة لمن تحب، وتمول الصفقات التجارية، فتجعل بعض المعدمين والمعدمات مليونيرات بين عشية وضحاها، على مسمع ومرأى وربما مباركة من قيادة التنظيم. لقد كان السؤال الذى يؤرق بولاد، اذا صحت قراءتى لأفكاره «وقد كنت قريبا منه»: لماذا يوضع هو فى نيالا ليقوم «ببناء» التنظيم، وليتكبد فى سبيل ذلك الخسائر المادية والمعنوية، بينما يوضع آخرون أقل منه كفاءة وبلاءً فى بنك فيصل والتضامن والشمال ليقوموا «ببناء» أنفسهم وأسرهم، ثم اذا جاءهم مستنجدا وقد أثقلت كاهله الديون مدوا اليه ألسنتهم"

    كان ذلك في أيامهم و لو مدّ الله في عمربولاد ليرى ما يحدث اليوم لمات كمدا وحسرة . ومن ناحية أخرى لعل الدكتورالتجاني من فرط حساسية الموقف لم يصرح بأن ما يقوله من توقعات هي ما حدث فعلا لأن الحركة الإسلامية الآن ومن وقت طويل أصبحت منقادة بقوى السوق، وأصبح فعلا أرقى مكاتبها هو مكتب التجار، و أنشط عناصرها هم المقاولون ورجال و(سيدات) الأعمال ." أما القضايا الإستراتيجية الكبرى، مثل قضايا الحرب والسلام، والعلاقات الإقليمية، والسياسيات الخارجية، فستتحول في غيبة الجماعات العلمية القادرة، والمجالس التشريعية الحاذقة إلى ملفات أمنية أو إلى صفقات تجارية، وفي كلتا الحالتين فستتولاها مجموعات "أمسك لي واقطع ليك"، وهى مجموعات "براغماتية" نبتت فى داخل الحركة الاسلامية، يطيل أحدهم اللحية، ويتسربل بالملفحة الفخمة، ثم يخوض فى أسواق السياسة والإقتصاد على غير هدى أو كتاب منير "

    والحقيقة ليس هؤلاء في حاجة لإطالة اللحى فلحالهم قديمة وهم أخي الدكتور نفس زملائك القدامي ورفاقك لكن بعد الفتح.أما المنتفعون الجدد فهؤلاء جاءوا متسربلين بثوب التهميش القبلي وصاروا مستشاريين وكبار معاوني سيادة الرئيس.

    ويخبرنا الدكتور بالمصير المحزن للقضايا الكبرى فيقول"أما قضايانا الأساسية مثل تجديد الفكر الاسلامى، وبناء المناهج والنماذج، وبلورة الرؤى، وتأهيل الكوادر، ونشر الوعى، واحداث التنمية فستترك لشعراء المدائح النبوية، وللوعاظ المتجولين، ولوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إن وجدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله "

ونحن معك نقول نعم لاحول ولاقوة الا بالله نقولها غير متفاجئين بهذا المصير الذي أصبح واقعا عمليا , لأن المنهج والطريق كان غائبا من البداية من الرأس المدبر كبيرهم الذي علمهم السحر فلما شبوا عن الطوق انقلبوا عليه.وإلا فأي مبدأ وأي قضية ثبت عليها د. الترابي ؟ هل ثبت على عهده لجبهة الميثاق ضد مايو ؟هل ثبت على اتفاقه مع النميري ؟ هل ثبت على عهده في الديمقراطية الثالثة ؟ إن كانت تلك هي مواقفه وهو مفكر وعراب التنظيم فماذا نتوقع من تلاميذه الشطار؟ وحتى الشريعة هم لا يحتاجونها إلا تغطية لأعمالهم وارهابا لمن تسول له نفسه الوقوف ضدهم .

يقرر د. التجاني هذه الحقيقة انه لا يوجد منهج ولا رؤية ولا حتى شفافية في أكثرالقضايا الإقتصادية الإسلامية وضوحا كالزكاة فيتساءل قائلا": لماذا غابت هذه "الرؤية" وحلت مكانها "صورة" سلبية عن الزكاة وعن العاملين عليها؟ هل يعود ذلك أيضا الى عدم الشفافية والصدق؟ اذ يرى الناس دقة وانضباطا فى "تحصيل" الزكاة ولكنهم لا يرون مثل تلك الدقة والانضباط فى "توزيعها"، يرى الموظف أن الزكاة تؤخذ منه على "دائرة المليم" ولكنه حينما يذهب الى قريته ويتعلق به الفقراء والمساكين وأولو القربى، فلا يصادف منهم من تلقى شيئا من الزكاة طيلة حياته الدنيا، فيقول فى نفسه: اذا كانت زكاتى لا تكفى فأين زكاة العمارات والمصانع والماكينات والفنادق والشاحنات والطائرات، ثم أين زكاة الذهب والنفط، ألم يقل سبحانه وتعالى(يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما رزقناكم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، أليس النفط "ركازا" أخرجه الله من الأرض، أو ليست  زكاة الركاز الخمس(20%) كما ورد فى الحديث؟

على أن الزكاة مهما تنوعت مصادرها وتكاثرت أقدارها ووزعت بالقسط ليست الا جزءا من رؤية اجتماعية-اقتصادية متكاملة؛ رؤية يعلو فيها الإنسان والعمل على المال، ويغلب فيها التضامن والتكافل على المحاصصة والأثرة، رؤية منحازة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فهل نحن نملك هذه الرؤية؟وهل نحن جادون فى تطبيقها؟ سؤال نوجهه الى أنفسنا فى الحركة الاسلامية، ثم الى "الفريق" من مفكرينا الاقتصاديين وعلمائنا الشرعيين الذين ظلوا على رأس المصارف الإسلامية وديوان الزكاة وهيئة الأوقاف ووزارة المالية والتخطيط الإقتصادى ردحا من الزمن. هل منهم من يملك بالفعل رؤية إسلامية للاقتصاد، أم أن جل ما يعتمدون عليه هو صيغة "المرابحة" التى عثروا عليها جاهزة فى حاشية ابن عابدين فصارت وصفة سحرية تستخدمها البنوك الاسلامية فى تعظيم أرباح عملائها من الرأسماليين، ثم أضافوا اليها فتوى بعض علماء الأزهر بوجوب أخذ الزكاة من الموظفين دون انتظار الحول، ثم أضافوا لهما "روشتة" البنك الدولى برفع الدعم وتحرير الأسعار، أهذا هو الإقتصاد الإسلامى؟ "

هذه فقط شهاده لواحد من أهل هذه القبيلة الجاهلية الذي أدرك مؤخرا وبعد أن افنى سنينا من عمره المديد بإذن الله في خدمة هذه الحركة أنه كان مخدوعا بقشرة إسلامية في ظاهرها فيصرٍّح قائلا" أما السذج من أمثالنا، والذين دخلوا فى الحركة الإسلامية على أمل أن يتمكنوا من بلورة برنامج اسلامى للتنمية الإقتصادية المتوازنة والعدل الإجتماعى، أو على أمل أن يوصلوا أصوات الفقراء المستضعفين الى مسامع السلطة، هؤلاء الساذجين عليهم أن يبحثوا عن طريق آخر، فالرأسمالية المتوحشة قد استولدت لها أنصارا فى صفوفنا الأمامية. "

البحث عن طريق ثالث بين الانتماء و المعارضة الصريحة اضني كثيرا أمثال الدكتور التجاني ففضل بعضهم الإمساك بالعصا من الوسط "رجل في الطوف ورجل في المركب " لم يتلوثوا بالماء الآسن وإن لم يستطيعوا النائ بعيدا كالدكتور التجاني والأفندي الذي يبدو أكثر قناعة بأن الكسر لا يجبر فجاهر برفضه ومعارضته . وهما في ظني من البقية الناجية من الذين أخلصوا ووفوا وهالهم مآل إخوانهم وسقوطهم الفاضح , وأكثر هؤلاء استغلهم الفئة الباغية وجعلتهم وقودا في حروبها خاصة  في الجنوب وجل ما وجدوه أعراس الشهداء والزواج من اراملهم تكريما لهم , فيا له من تكريم!

سأترك الرد لمن لايزال يحاول اقناعنا بأن الإنقاذ هى الإنفاذ وأنها لله فعلا . ولنا عودة إن شاء الله.

 

 Zahd Zaid [zahdzaid@yahoo.com]

 

آراء