المأزوم – قصة قصير ة جديدة … بقلم هلال زاهر الساداتي
26 March, 2010
جلس هائماً متوقد الذاكرة ولكن في صمت رهيب بينما تتردد علي خاطره أحداث من حياته متفرقة أحياناً كيغمات في سماء إستوائية صافية , وبغتة تهرع للقاء حميم مجتمعة في سحب كثيفة , ثم تنهمر سلسالاً من الغيث الغزير .
كان مدرساً عتيقاً لو جاز التعبير أنفق ما بين الطباشيرة والسبورة وبين الكتب والكراسات , وبين صخب الطلاب ورذالة البعض منهم , أنفق أمداً أدخل في شعر رأسه الكثير من الشعرات البيضاء , وصبغ شعوره بالضيق وقلة الصبر , وسهولة الاستثارة , وبرغم كل ذلك كان مدرساً ممتازاً يجد متعة في عمله وفي تجويده , وبادره طلبته حباً واحتراماً .
جاء يوم مشؤوم . يوجد في كل صف من صفوف الدراسة طالب مشاغب يشيع اللهو والعبث داخل الفصل بالتحدث غير ملق بالاً الي المدرس , ويشغل من حوله من الطلاب , ويضيع عليهم الانتفاع بالدرس , ونبهه المدرس الي الالتزام بالهدوء , ونبه عليه مرة ثانية , وفي كل مرة يقطع المدرس الدرس ويتوقف عن الشرح , وفي المرة الثالثة نفد صبر المدرس وشعر بأن الدماء تفور في شرايينه وتعشي عينيه ولكنه أخذ الطباشيرة ليكتب علي السبورة وفي حركة مفاجئة التفت ناحية الطالب المشاغب فأبصره يخرج لسانه نحوه , وهذه تعني كما هو متعارف علامة علي الاستهزاء والتحقير فقذف بالمؤشر الخشبي نحو الطالب المزعج , فأصاب المؤشر عينه وفقأها , وصرخ الطالب صرخة عظيمة ملأت حجرة الدرس وإنتقل الصوت االمتوجع الي الحجرات المجاورة . وهاج وماج الفصل , وأسرع المدرس الي الخروج ثم تمالك نفسه وذهب مسرعاً الي مكتب المدير وهو يلهث ويرتجف , وأخبره في عبارات مقتضبة ومتقطعة بما حدث ورجاه بأن يسرع بأخذ الطالب الي المستشفي .
ألمت المصيبة بمن في المدرسة من طلاب ومدرسين وعمال مبدين شعور الحزن والأسي والاستنكار والتعجب من أن يأتي هذا الفعل من مدرسهم الأثير , وكان أهل الفتي المصاب هم الأكثر ثورة وهياجاً عندما تلقوا الخبر بينما كان والده الأكثر تماسكاً واتزاناً وكان من اللذين يؤمنون بقضاء الله وقدره من الناس البسطاء من السودانيين الذين يحمدون الله في حال سرورهم وفي حال حزنهم , وكان وقع الحادث مدوياً في المجتمع , ووصل النبأ الي الصحف والتي لا يخلو بعضها من الأثارة والتهييج والتي تتصيد نكبات الناس لتزيد من قرائها ومن توزيعها , وظهرت في صفحاتها الأولي عناوين بارزة ( التأديب في المدراس بقلع الأعين ) , و ( مدرسون أم جلادون ) , و ( أين أنت يا وزارة التربية والتعليم ؟) , و (تعليم أم تأليم !) .
أوقف المدرس عن العمل وبعد مدة جوزي ونُقل الي معهد من معاهد تدريب المعلمين وهناك صيروه شبه مجمد , وتم تكليفه بعدد قليل من الحصص . وإنقلب نمط حياته رأساً علي عقب . كان الحادث بقعة سوداء في سجل حياته . أصبح كثير الصمت , كثير شرود الذهن , كثير اللوم لنفسه , ولا يتحمل أن ينظر اليه شخص ما أو أن يبدي له ملاحظة تخصه , باختصار صار تلك الشجرة اليانعة المخضرة عجزاً يابساً خاوياً تدحرجه الريح علي أرض يباب .
إتخذ له مكاناً في مكتب يضمه وثلاثة زملاء ولكنه كان قلما يبادلهم الحديث ولا يبتدر الكلام إلا اذا تكلم معه أحدهم , وكانت طاولته بقرب نافذة عريضة تشرف علي ساحة صغيرة يغطيها نجيل أخضر يحفه من جانبيه أزهار وورود متنوعة بهيجة المنظر , وكان في الجانب الآخر منها سقيفة يجلس تحتها علي كنبة خشبية اثنان من الفراشين , وكان يطيب له أن يجلس جانباً علي كرسيه وينظر الي الزهور والورود متأملاً فيها بلا نهاية , ولكن كان يكدر عليه تلك الخلوة التأملية ما يخيل اليه أن أحد الفراشين كان يحدق ناحيته في معظم الوقت ولا تفارق عيناه شخصه وكأنه حيوان مفترس يتربص بطريدته ! تكر الأيام ويطول التحديق وتطول مراقبة الفراش وصاحبنا المدرس يسائل نفسه : لماذا يراقبني هذا الفراش ؟ ماذا يقصد بمراقبتي ؟ هل سلّطه أحد عليّ ؟ هل يا تري يريد بي شراً ؟ وتدور هذه التساؤلات في نفسه بينما يصحبها بالتزامن ضيق يتحول الي غضب يتصاعد في داخله كماء في إبريق فوق نار مضطرمة يغلي ويفور ويعلو بخاره .
وفي اليوم التالي شاهد عبر النافذة الواطئة نفس الفرّاش مرسلاً اليه نظراته كشواظ من نار , فأحس بأن الغضب والغيظ في داخله يتصاعد ويتصاعد فوثب الي النافذة وقفز منها وإنطلق كصاروخ موجه الي الفرّاش وأخذ في خناقه بكلتا يديه وكان كوحش كاسر كشر عن أنيابه ثم غرزها في جسم فريسته وملأ الجو لغط كثير منه المحذر ومنه المشفق ومنه الزاعق , والأستاذ ينفخ ويصدر منه خوار كالثور , ويشدد قبضته علي عنق الرجل , فاجتمع عليه الفرّاشون والمدرسون وخلصوا الفرّاش من يديه واستعاد الفرّاش أنفاسه وهو يقول ويصرخ : ( والله الزول ده ما عملت ليهو حاجة – الزول ده باين جنّه . أنا ما سويت ليهو حاجة ) .
وانتهي أمر المدرس الي مستشفي الامراض النفسية والعقلية .
هلال زاهر الساداتي
helalzaher@hotmail.com
ا مارس 2010 - القاهرة