مآسي نظام التوجه الحضاري التى إرتكبها فى حق الشعب و الوطن(2)!؟
إبراهيم الكرسني
1 April, 2010
1 April, 2010
مقدمة كعادتها فى التخفى وراء مختلف الشعارات الزائفة، و التى لا تعبر عن حقيقة مكنونها أو مضمونها، منذ أن قامت بسرقة السلطة السياسية فى ليل بهيم من ليالي شهر يونيو القائظ من عام 1989، و لمزيد من التمويه لخداع الشعب السوداني حول هوية الإنقلاب و الإنقلابيين حينما أطلقت على إنقلابها إسم، "ثورة الإنقاذ الوطني"، ثم أردفت صفة "التوجه الحضاري" لتلك الغنيمة، إرتكبت الجبهة الإسلامية القومية/المؤتمر الوطني، ومنذ إغتصابها للسلطة السياسية العديد من المآسي فى حق الشعب و الوطن نود أن نلخص أهمها فى هذه السلسلة من المقالات. لعلنا لن نأتي بجديد فى معرض إستطلاعنا لتلك المآسي، لكن ما نهدف إليه هو تنشيط ذاكرة الشعب السوداني بها، من جهة، و حفرها فى ذاكرة الشباب الذين لم يعاصروها حين حدوثها، أو كانوا صغارا يفعا عند و قوعها، من جهة أخرى. إن تكرار عرض مثل هذا النوع من المآسي لا يمكن أن يكون مضيعة للوقت، أو أن تكون نتائجه هباءا منثورا، حيث أن بعضها، إن لم نقل جميعها، يرقى لمستوى الجريمة، واجبة القصاص،و بالتالي لا يمكن لها أن تسقط بالتقادم. لذلك لابد من تكرارها على مسامع شبابنا، حتى ولو من باب "ما ضاع حق و راؤه مطالب"، و حثهم على التمسك بالقصاص ممن إرتكبوها، وفقا لحكم القانون، الى أن يتعلم مرتكبيها معني مفهوم حكم القانون، و ما معنى سيادته، و أن يتورع كل من تسول له نفسه، و إن النفس لأمارة بالسوء، بتكرار مثل تلك المآسي، أو الإتيان بأخري مشابهة لها، إن لم تكن أسوأ منها !! وقد تطرقنا فى مقالنا الأول الى أربعة من مآسي نظام التوجه الحضاري و سنواصل الحديث عن ما تبقى منها فى هذا المقال، و المقالات القدمة بإذن الله.المأساة الخامسةتصفية القوات النظامية من الكفاءات الوطنيةبعد أن إنقلبت الجبهة الإسلامية على نظام الحكم الشرعي و إستولت على السلطة السياسية بإسم القيادة العامة للقوات المسلحة، زورا و بهتانا، سرعان ما إنقلبت على رفقاء السلاح، وقامت بفصل جميع الضباط،و صف الضباط، وحتى بعض الجنود، ليس فى الجيش وحده، و إنما فى جميع القوات النظامية، الذين تشك، مجرد الشك، فى عدم ولائهم للنظام، وذلك خوفا من أن يطيحوا بهم، كما فعلت هي نفسها مع النظام الديمقراطي المنتخب. تمت كل هذه المجزرة للكفاءات العسكرية من العناصر الوطنية من ضباطنا البواسل تحت شعارهم المخجل و القائل ب "الولاء قبل الكفاءة". لم يدر بخلد هؤلاء الجهلة، و لو للحظة واحدة، أنهم بتلك الفعلة الشنعاء قد إرتكبوا أكبر جريمة فى تاريخ قواتنا النظامية، التى تدنت قدراتها العسكرية و القتالية، جراء هذه المجزرة، الى أدنى مستوى لها منذ فجر الإستقلال. وبذلك فقد أدخلوا القوات النظامية فى أزمة، تشكل بالفعل أحد أهم حلقات سلسلة الأزمات الخانقة التي تقبض برقاب الوطن.المأساة السادسةالإنهيار التام لنظام الخدمة المدنيةطبقت الجبهة الإسلامية القومية شعار "الولاء قبل الكفاءة" أيضا على نظام الخدمة المدنية فى السودان، و فصلت بموجبه المئات، بل الآلاف من أكثر بنات و أبناء الشعب السوداني كفاءة، و المشهود لهم بالتفاني و الإخلاص فى خدمة الشعب و الوطن، و قامت بإستبدالهم بالعناصر الموالية لها، دون أن يتوفر لتلك العناصر الحد الأدني من المؤهلات العلمية، أو التجربة العملية التى تؤهلهم لتولي تلك المناصب، أو حتي تسيير دولاب العمل اليومي بالحد الأدني من الفعالية المطلوبة. بهذه السياسة الخرقاء قضت الجبهة الإسلامية تماما على أحد أكفأ أنظمة الخدمة المدنية على المستويين العربي و الأفريقي.ظن قادة الجبهة أنهم بهذا الإجراء المعيب قد سدوا أحد النوافذ التى يمكن أن تهب منها رياح الإنتفاضة الشعبية، بإعتبار التأثير الفعال للإتحادات و الروبط المهنية على مجرى الأحداث الوطنية الهامة، و تاريخها المشهود فى التصدى لكل حماقات الأنظمة الدكتاتورية التى حكمت البلاد سابقا. لم يدر هؤلاء القادة أنهم بهذا الإجراء التعسفي قد إرتكبوا ثلاث جنايات كبيرة بغير وجه حق. أولى تلك الجنايات تمثلت فى الفصل من الخدمة لأفضل الكوادر الوطنية المؤهلة دون إبداء أية أسباب، سوى إختلافهم فى الرأى، وحتي دون أن يعقدوا لهم مجالس تأديب أو مساءلة. أما ثاني تلك الجنايات فهو قطع أرزراق العديد من الأسر السودانية التى تعتمد فى معيشتها على الراتب الشهري لأولائك الموظفين، و تشريد أبنائهم، دون أي ذنب إرتكبوه. ليس هذا فحسب، بل إنهم قاموا بسد جميع سبل العيش الكريم الأخرى، أمام هؤلاء الضحايا، التى توفرت لبعضهم، بمختلف الوسائل، القانونية منها و غير القانونية، متخلين بذلك عن أي تعاليم دينية، أو خلق و شهامة سودانية، توارثها الشعب السوداني أبا عن جد. تمثلت الجناية الأخيرة في تبديد الموارد البشرية التى صرف الشعب السودانى عليها الملايين من العملة الصعبة بهدف تأهيلهم و تدريبهم مما تسبب بصورة مباشرة فى الإنهيار و الشلل التام الذى أصاب أنظمة الخدمة المدنية برمتها، وهي جريمة فى حق الشعب و الوطن لا يجب العفو عنها مطلقا، حيث أنها ساعدت فى تحويل جهاز الدولة السودانية برمته من جهاز وطني، لخدمة جميع أفراد الشعب السوداني، غض النظر عن الإنتماء السياسي، أو الولاء القبلي، أو الموقع الجغرافي، الى جهاز حزبي خالص يهدف أول ما يهدف الى خدمة الحزب و الجماعة فقط دون غيرهم... فتأمل!!المأساة السابعةتحويل الدولة السودانية من دولة الوطن الواحد الى دولة الحزب الواحدتمكن قادة الجبهة الإسلامية ، و من خلال المجزرة التى إرتكبوها داخل القوات النظامية، وكذلك داخل أجهزة الخدمة المدنية، من تحويل جهاز الدولة بأكمله الى ملكية خصة وخالصة لتنظيمهم البئيس. ومن خلال ذلك فقد قاموا بإعادة صياغة جميع القوانين العسكرية منها و المدنية لتتماشى و تتواءم مع مخططاتهم الإجرامية فى الإستيلاء على كل موارد السودان الوطن، سواء كانت تلك الموارد أصولا ثابتة، أو سائلة، أو منقولة. و سوف نري من خلال المآسي اللاحقة كيف أنهم من خلال هذه القوانين المجحفة قد سخروا كل تلك الموارد لخدمة أهداف تنظيمهم الضيقة، و خدمة مصالح عضوية تنظيمهم، من أدنى المستويات الى أعلاها، هذا بالإضافة الى المؤلفة قلوبهم، و أبناء سبيلهم من أهل الحظوة. بهذا تكون الجبهة الإسلامية قد أحدثت سابقة لا مثيل لها فى تاريخ الدول، منذ أن تعارف البشر على هذا النوع من النماذج لإدارة شئونهم،و هو أن يصبح الحزب هو الدولة، و الدولة هي الحزب، بمعنى آخر أن الحزب و الدولة صنوان يعجز التفريق بينهما... فتأمل!!؟المأساة الثامنةتأسيس الدولة الدينية فى السودانبعد أن بسطت سيطرتها تماما على البلاد و أمسكت بزمام أمورها و إطمأنت الى عدم وجود تهديد مباشر للسلطة التى إغتصبتها عنوة، و بقوة السلاح، بدأت الجبهة الإسلامية فى تنفيذ برنامجها، العلني و السرى معا، رويدا رويدا، و هى تواصل فى ذات الوقت ممارسة الكذب الصراح على الشعب السوداني بأن لا علاقة لها البتة بالنظام القائم، حتي تتمكن من غرس جذورها فوق تراب الوطن و تنفيذ برانمجها السياسي، على أن لا تأخذها فى ذلك رحمة أو لومة لائم. فإن نجحت فى مسعاها هذا، تكون البلاد قد دانت لها، و إن فشلت يمكنها "التملص" من هذه المسؤولية من خلال الكذب و الخداع الذى إتخذته منهجا ثابتا فى ممارساتها السياسية ووجدت له جميع المبررات الدينية وفقا لفقه الضرورة.إن التصريح التالى للدكتور حسن الترابى، الذى أوردته صحيفة الحياة اللندنية الصادرة بتاريخ 11/1/1994، و المنقول من أحد المداخلات فى سودانيس اونلاين، يقف دليلا دامغا على صحة ما نقول. يدل هذا التصريح بأن الجبهة الإسلامية القومية ظلت تنفي صلتها بإنقلاب الإنقاذ حتي العام 1994. الشيخ الترابي يقسم، و لاحظوا كلمة يقسم هذه، بأن لا علاقة لهم بهذا الإنقلاب، ثم يأتي لاحقا عند المفاصلة الشهيرة ليقول للشعب السوداني، و من فوق جميع المنابر الإعلامية، أنه قد قام بتدبير الإنقلاب ، ومن ثم قال للبشير عشية هبتهم الإنقاذية، "إذهب للقصر رئيسا... و سأذهب الى السجن حبيسا" !! ما رأى علماء الدين فى هذا، إن أردنا أن نحاسبه بما ظل يدعو له طيلة حياته، ألا وهو تطبيق نظام الشريعة فى البلاد. أما إن أردنا أن نحاسبه بمعايير السياسة، فليس لدينا ما نقوله سوى رفقا بالشعب السوداني المسكين يا هؤلاء!! تمكنت الجبهة عن طريق الكذب و الخداع و القسم الكاذب من إقامة الدولة الدينية فى السودان، مستغلة فى ذلك المشاعر الدينية الجياشة للبسطاء من أبناء و بنات شعبنا، و تدينهم الفطرى الذى لم تشبه شائبة، حتى سلط الله عليهم الترابي و أمثاله ليسوموهم سوء العذاب، و يحيلوا نهارهم ليلا بإسم الدين الحنيف، و الدين منهم براء براءة الذئب من دم إبن يعقوب.قامت الجبهة الإسلامية بتغيير جميع القوانين السارية فى البلاد، لتتماشى مع أحكام الشريعة الإسلامية، كما زعمت حينئذ، ليتضح لاحقا بأن هذه الخطوة لم تعدو سوى أن تكون أكبر كذبة فى التاريخ السياسي للسودان، لم تهدف إلا الى تركيز السلطة فى أيدى قادة الجبهة، ليستغلوها أسوأ إستغلال لتحقيق مآربهم الحزبية الضيقة، و المنافع الشخصية لكل من دار فى فلكهم.إن تأسيس الدولة الدينية فى بلد متعدد الديانات و الأعراق و الثقافات يعتبر، فى تقديري، أكبر مأساة أحدثها نظام التوجه الحضاري، و ترقى الى مستوى الخيانة الوطنية، لأنها قد صنفت بنات و أبناء الشعب السوداني الى فئتين: الأولى مواطنين من الدرجة الأولى، وهم المسلمين، و أما الفئة الثانية، وهم غير المسلمين، فإعتبرتهم مواطنين من الدرجة الثانية. بل الأسوأ من ذلك أنها قامت بشن حرب دينية شعواء على الفئة الثانية، أسمتها حربا جهادية، تهدف الى إخضاعها الى إمرة فئة المسلمين، أو أن يدفعوا الجزية، وهم صاغرون!! هذه المأساة سنتطرق لها بالتفصيل فى مقالنا القدم من هذه السلسلة بإذن الله.(نواصل)1/4/2010 Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]