قبل (72) ساعة من صناديق الإقتراع: القوى السياسية .. حسابات الربح والخسارة

 


 

 

diaabilal@hotmail.com

 

في مقاله الاسبوعي بهذه الصحيفة أورد الاستاذ الصحافي الكبير يحيى العوض مقولة للاستاذ محمد حسنين هيكل كتبها في الستينات من القرن الماضي قال فيها: (السودان مقبرة الدبلوماسيين. يرسلون تقاريرهم صباحا ثم يضطرون لنفيها مساء)

 وهذا هو حال الاعلاميين هذه الايام في الفضائيات ووكالات الانباء، الخبر لا يصمد في نشراتهم الاخبارية لساعات وربما لدقائق، إذ سرعان ما يأتي نفيه إما بخبر مضاد أو عبر موقف جديد.

احدى الصحافيات الاجنبيات قالت لي: السودان بلد الغرائب والمفاجآت. النتائج فيه ليست بنت المقدمات. إذا كان محصل جمع واحد زائد واحد يساوي اثنين. في السودان قد تجد حاصل الجمع صفراً..!

قبل (72) ساعة من بداية التصويت، أحاول رسم صورة تحليلية للمشهد الانتخابي، وفق ما ثبت من معطيات، وما قد يستجد من متغيرات.

--------

المؤتمر الوطني

هو الحزب الأكثر إستعداداً للانتخابات والأكثر حماساً لاجرائها في وقتها المعلوم، والأوفر فرصاً في الفوز، دافعه في ذلك انه يخوض المعركة بدوافع (وجودية)، لا تضع أدنى هامش للخسارة.. ودافعه في ذلك مصالح البقاء ومخاوف الانتقام. اذا كان قرار صناديق الاقتراع تسليم مصائر الحزب للخصوم.

(الوطني) بتجربته الطويلة في الحكم، تراكمت لديه تجارب واسعة، تعينه على خوض التنافس ،على قاعدة معلومات احصائية دقيقة وبإمكانيات يصعب تحديد سقف لها.

وفوق ذلك فقد بدأ الاستعداد للانتخابات من مراحلها الأولية، قبل مرحلة التسجيل. فهو يلعب على أرض كاشفة. كل شئ فيها تحت النظر. وتحت سيطرة المعادلات الرياضية. واستطاع في فترة قصيرة تجاوز عقبتين:

الاولى/ ادارة الصراعات الداخلية بين مراكز النفوذ في الولايات، وإخضاع المتمردين عليه لسلطة الحزب المركزية، بالتحكم في ردود فعلهم أو بوضعهم في دكة الاحتياطي. وقدم من المرشحين من يسهل التعامل معهم، لاحساسهم بأن الفضل لصعودهم يعود للحزب لا للمقدرات الذاتية أو السند القبلي، واستبعد من الملعب من يظن عكس ذلك. ولم يخرج من تلك المعادلة إلا عدد قليل جداً في مقدمتهم مرشح القضارف كرم الله الشيخ الذي استطاع أن يفرض اسمه على قائمة الحزب الانتخابية.

الثانية/ لأول مرة يستطيع المؤتمر الوطني أن يتحرك في المجال الحيوي للحركة الشعبية في الجنوب بصورة أربكت حسابات الحركة وجعلتها تشعر بخطورة ذلك على وضعها السياسي في الانتخابات، والأمني إذا وقع الانفصال. وهذا وضح حينما بدأت الحركة تسحب أصابعها من تحالف جوبا . والاهم من ذلك انها شرعت في ترك مساحة فاصلة بينها وقطاعها الشمالي بالقدر الذي يطمئن (المؤتمر الوطني ) ليقلل من تحركه في الجنوب.

وقع الوطني في عدة أخطاء أثناء حملته الدعائية:

1 - إستخدم لغة دعائية ذات طابع عدواني لم يكن في حاجة اليها، وهى لغة لا ترضي كثيراً من المؤيدين، وتستعدي المحايدين وتجعل من المخالفين أعداء، ومن الاعداء مشاريع مقاتلين.

2- أرسل خطاباً معادياً للدول الغربية في وقت شهدت فيه العلاقة بهذه الدول - إن لم نقل تحسناًً ملحوظاً -فهى تهدئة واضحة.

3- أرسل تحذيرات للمراقبين جاءت كأنها تهديدات، الأمر الذي من الممكن إستغلاله في معركة ما بعد النتائج.

تحديات أساسية ستواجه المؤتمر الوطني:

الأول: عند التصويت. مدى مقدرة القوات النظامية المشحونة بهواجس تجارب العنف الانتخابي في ضبط ردود فعلها بشكل يتناسب ومقتضيات الظرف دون تهاون أو تهويل.

الثاني: مدى تأثير إنعكاس فوز البشير على ملف علاقته بالمجتمع الدولي، خاصة في موضوع المحكمة الجنائية.

الثالث: ما بعد النتائج، مدى نجاح محاولات البعض في خلق مساحة توتر بين الرئيس البشير وحزبه تصبح صالحة لزراعة الالغام والظنون السيئة في المستقبل.

الحركة الشعبية:

لأول مرة منذ تقسيم الحركة لقطاعين (الجنوبي والشمالي) وصلت العلاقة بينهما في الانتخابات الى نقطة فارقة.

 عندما اختلفت الاولويات وتناقضت الخيارات.. وأصبح كل قطاع يدير أمره ويضع حساباته بصورة تراعي أهدافه الخاصة والمباشرة.

مركزية الحركة في جوبا راغبة في التهدئة مع الوطني حتى يصبح معيناً لها في تسهيل الانفصال.

قطاع الشمال يريد تغيير معادلة القوى في المركز بالخرطوم، بالضغط على الوطني عبر صياغة تحالفات عريضة.. فهو يسعى لخلق فرص للوحدة بإقصاء المؤتمر الوطني أو إضعافه الى الحد الذي يسهل التعامل معه بندية.

الإنفصاليون في الجنوب استطاعوا لفترة طويلة إستخدام قطاع الشمال وحلفاءه من القوى السياسية لتحقيق هدفهم الاستراتيجي، وهو تسهيل الطريق نحو الانفصال ،عبر القوانين والتدابير السياسية.

تراجع الحركة عن قرار مشاركة قطاع الشمال في الانتخابات ما دون الرئاسية وباستثناء دارفور، تم بصورة لاتخلو من المكر. حيث اخرجت القضية من جوبا لتحسم عبر لجنة بالخرطوم، وبذلك تكون مركزية الحركة قد رفعت عن نفسها الحرج من أي إلتزام كانت قد قطعته مع الوطني، وبذلك تعطي قطاع الشمال حرية في الحركة والتسوق، لا تسدد فواتيرها في جوبا!

وهذه الخطوة تأتي في سياق تخلص الحركة في نسختها الانفصالية من الإلتزامات والروابط التي تصلها بالمجال السياسي للشمال ابتداءً بالقطاع الذي يقوده الكوماندور ياسر عرمان وانتهاءً بالسودان ككل.

أشياء كثيرة أضعفت فرص ياسر عرمان في الفوز منذ وقت مبكر في بداية الحملة الانتخابية:

 عرمان الذي أسهم من قبل في تسويق الراحل جون قرنق على نطاق واسع في الشمال عبر عمل سياسي وإعلامي دقيق ومدروس تجلى في أوضح صوره في حشد الساحة الخضراء ، لم يجد من يؤدي له ذلك الدور بذات الكفاءة وهو يدشن حملة إنتقاله من سياسي عضوي الى زعيم منتخب.

 أفلح اعلام المؤتمر الوطني وقبله اعلام منبر السلام العادل في وضع عرمان في مواجهة مع بنية المجتمع المحافظ في الشمال ، وقد ساعدهم عرمان في ذلك، عندما اختار لنفسه مواقف، واطلق تصريحات يسهل حملها على أسوأ التفسيرات. فكانت الحملة المضادة تسعى لإعتقاله في (زجاجة خمر) وتصويره كداعٍ للرذيلة! وحققت في ذلك ليس قليلاً من النجاح.

الأزمة الكبرى التي عقدت الحسابات الانتخابية لعرمان وهو يدعو للوحدة والتغيير أن (90%) من الجنوبيين انفصاليون- كما تقول الحركة- فكيف لناخب انفصالي أن يصوت لرجل يدعو للوحدة؟!

 بل قول (باقان وعرمان) إن فوز البشير سيؤدي للإنفصال يأتي كدعاية إنتخابية للبشير في الأوساط الإنفصالية..!

 والحديث عن (التغيير) في الشمال مكن الاعلام المضاد لعرمان بأن يصوره كمشروع مناهض للبنية الإجتماعية المحافظة التي تجد مناصرة واسعة، خاصة في الشمال النيلي ذي الوزن الانتخابي الكبير في دفاتر التسجيل.

بهذه المعطيات لم يعد أمام عرمان سوى واحد من ثلاثة خيارات:

 - الاستمرار في الحركة وفق متغير العلاقة الكونفدرالية الجديدة بين قطاعي الجنوب والشمال الى الوصول الى صناديق الاستفتاء.

- الانفصال من مركزية جوبا وتكوين حزب بأدبيات السودان الجديد وبمشروعية الولاء لاطروحة جون قرنق ، التي لم تعد رائجة في الجنوب.

- الانسحاب من الملعب والعودة لمقاعد الدراسة بأمريكا في انتظار الرياح المواتية.

الحزب الاتحادي:

يعتبر من الأحزاب البارعة في التكتيكات والمناورات السياسية. ظل يمسك بكثير من الخيوط الانتخابية بيده أو بالأصح بيد زعيمه السيد محمد عثمان الميرغني.

الميرغني له إرث ومهارة في إدارة المعارك في المساحات الصغيرة وتحت الإضاءة الخافتة!

وهو يجيد الإستثمار في مساحات الفوضى في ظل حالة السيولة التي يعاني منها حزبه.

يتفاوض مع الوطني بقائمة مطالب صريحة وواضحة ويخرج للاعلام بحديث معمم يصعب الإختلاف عليه.

حزبه ليس عضواً في تحالف جوبا لكن لايمانع من التنسيق معه في الحدود التي تمكِّن الحزب من إنجاز ملفاته التفاوضية مع الوطني.

رشح الميرغني السيد حاتم السر للرئاسة ودفع بعلي السيد للتنسيق مع تحالف جوبا وغض الطرف عن تصريحات علي محمود حسنين ولوح مرتين بإستضافة قيادات تحالف جوبا في منزله.

 إعتذر في الأولى دون ذكر أسباب، واعتذر في الثانية بدعوى تضارب المواعيد.. والتقى بباقان أموم أكثر من مرة وتحدث الأخير عن التنسيق الانتخابي بين الحركة والإتحادي.

وتحت هذا الضغط العالي على (المؤتمر الوطني) تمت تسوية جميع الملفات بعيداً عن الاضواء.

حزب الأمة:

الاوضاع الداخلية للحزب تعقد حساباته الانتخابية، بعد دخول ماراثون السباق الانتخابي، الإنسحاب سينتج مشاكل وأزمات، لا تقل عن المشاكل والازمات التي سيطرحها خيار المضي الى آخر الشوط!

الانتصار الانتخابي بمعطيات الواقع صعب المنال. والهزيمة المذلة ستهزم أمجاد انتخابات 1986م والانسحاب يصعب تحقيقه دون خسائر كبرى.

،وحتى حينما اعلن الحزب الانسحاب أمس أعطى زعيمه الصادق المهدي حق تعديل القرار واستثنى بعض المناطق من قرار المقاطعة،وهذا يوضح مدى التعقيد  في حسابات الحزب، وعجزه عن اتخاذ موقف حاسم ونهائي.

المؤتمر الشعبي:

حساباته كانت واضحة .الدخول للانتخابات والاستفادة من أجوائها للتحريض ضد الوطني وزرع الالغام في طر يقه دون اعتبار زمني لميقات إنفجارها.

خوض الانتخابات على المستوى الرئاسي بترشيح عبد الله دينق لتسجيل موقف أدبي يصب في خط الإعتذار عن حقبة ما قبل الرابع من رمضان للمجموعات الجنوبية التي تضررت من اشتعال القتال بالجنوب وقتها.

خوض الانتخابات البرلمانية، لقياس الجماهيرية والتعاطف، ثم بناء خطاب ومواقف على النتائج. مع ضمان وجود أصوات مؤثرة داخل البرلمان تسهم في دعم الحملات الانتقامية ضد المؤتمر الوطني.

الحزب الشيوعي:

أراد من الانتخابات ان تكون بمثابة برنامج تنشيطي لعضويته وأجهزته وتحسس مواضع أقدامه في ملعب ما قبل الانتخابات. فقد خاض كل مراحل العملية الانتخابية وامتنع عن صناديق الاقتراع، وكان سيمضي أكثر من ذلك إذا ضمن الدخول تحت مظلة تحالف انتخابي عريض.

في الختام:

المقلق جداً فيما يجرى الآن هو أن اغلب القوى السياسية شعرت بمدى ضعفها في التنافس الانتخابي الأمر الذي أصابها بالإحباط، والإحباط عادة يقود للرغبة في العدوان.

والمؤتمر الوطني لديه شعور متعاظم بالقوة، وهذا عادة ينتهى للطغيان والإستهانة بالآخر.

وأسوأ الكوارث السياسية ينتجها إصطدام المحبطين بالأقوياء.

من المهم أن يرتفع الاهتمام لدى الجميع بضرورة الحفاظ على الملعب وأن تظل الكرة داخل المستطيل وألا يتم القذف بها نحو المدرجات!

 

آراء