المقوضية القومية للانتخابات !! … بقلم: د.عثمان إبراهيم عثمان
8 April, 2010
أصابتني الدهشة، والحسرة على مصير بلادنا، كغيري ممن شاهد الحلقة التي استضاف فيها الإعلامي "الغيور" بابكر حنين، ومنسوبو أجهزتنا "القومية" – سونا، الإذاعة، والتلفزيون -، المفوضية القومية للانتخابات، علهم يحللوا عقدة من لسانها، ومن ثم يصلحوا ما بينها، وبين الشعب السوداني؛ إلا أنهم على العكس من ذلك تماماً، فقد فشلوا فيما ذهبوا إليه، إن لم يكونوا قد أبانوا تخبطها، وعدم حيدتها، مما أفقدها المصداقية أمام الرأي العام السوداني المحايد. وأنا عندما أقول ذلك لا أطلق الحديث على عواهنه، ولكنني أستند على عدة شواهد ذات دلالة بينة على ما ذهبت إليه. فالمفوضية بسلوكها المنحاز للحزب الحاكم، إن كانت تدري أو لا تدري، إنما تقوض العملية الانتخابية برمتها، حتى وإن لم تجمع الأحزاب المعارضة على مقاطعتها بالكامل. في مجمل المشهد الماثل أمامنا؛ تتراءى الملاحظات التالية:
1-انصب جل حديث البروفسير عبد الله أحمد عبد الله في تلك الحلقة في أن المفوضية إنما تعمل وفق قانون الانتخابات، وأن أي شكاوى، أو اعتراضات، أو ملاحظات يجب أن تتطرق فقط لتجاوز قانون الانتخابات، ولا شيء سواه؛ فأرغى، وأزبد بمفردتي "وفق القانون" حتى ظننا أن المفوضية لم تحيد عنه قيد أنملة. لدهشة الجميع، لم تبارح رنين كلماته الواثقة تلك آذاننا، حتى أفصح الفريق الهادي محمد أحمد عضو المفوضية، والمسئول عن السجل الانتخابي بما هو عجب؛ إذ قال أن قانون الانتخابات معيب، وقاصر؛ مما حدا بالمفوضية تجاوزه في تسجيل الرحل، والجالية السودانية بمصر على سبيل المثال؛ فهذا التجاوز وغيره من الانتهاكات الأخرى للقانون، في رأينا، تقدح في حيادية المفوضية - تصر على تطبيق القانون بحذافيره عندما يتعلق الأمر بأحزاب المعارضة - للأسباب التالية:
أ- لم تعط المفوضية حق الانتخاب الكامل للسودانيين بالخارج، وأعطه للرحل، علي الرغم من أن عددهم يفوق عدد الرحل بأضعاف مضاعفة.
ب- تجاوزت المفوضية القانون في مادته 22(3) الخاصة بتسجيل السودانيين بالخارج، ومع ذلك لم يتم تسجيل نسبة معتبرة منهم – سجل حوالي ثمانية آلف بمصر في حين أن عدد السودانيين بها قد يقترب من المليونين - تبيح تجاوز القانون، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للذرائع.
ت- تجاوزت المفوضية صلاحياتها كجسم مستقل وفقاً للمادة 5 من قانون الانتخابات، ولم تحظر على مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة التدخل في شئونها، وأعمالها، واختصاصاتها أو الحد من صلاحياتها؛ عندما يتحدث في كل عشية، وضحاها، عن عدم تأجيل الانتخابات ولو يوم واحد؛ كرد على مطالب مرشحي الرئاسة الآخرين، وتقرير مركز كارتر.
ث- انتهكت المفوضية القانون في مادته 22(1) عندما أصدر الأمين العام – موظف تنفيذي وليس ضمن أعضاء المفوضية – منشوراً يبيح تسجيل القوات النظامية في مواقع العمل، وليس مواقع السكن، كما ينص القانون صراحة.
ج- تجاوزت المفوضية صلاحياتها المنصوص عليها في المادة 98(2) من القانون، وهي تري الأجهزة الإعلامية المملوكة للدولة ترتكب المخالفات الانتخابية بعدم منح كافة المرشحين، والأحزاب السياسية مساحة إعلامية، وأوقاتاً متساوية لتقديم برامجهم الانتخابية، أسوة بالمؤتمر الوطني الذي استأثر بجل الخدمة الإعلامية. لقد ظهر ذلك جلياً عبر التقرير الذي أعدته مجموعة الإعلام والانتخابات بالسودان، الذي أشار إلي أن المؤتمر الوطني تلقى 46% من إجمالي زمن البث المخصص للانتخابات والتغطية السياسية بالتلفزيون، و51% من الراديو؛ بينما تلقت الحركة الشعبية 32% من زمن البث التلفزيوني، 21% من الراديو؛ أما بقية الأحزاب فاشتركت جميعها في ما نسبته 22% من البث التلفزيوني، و28% من الراديو.
2-أما ردود بروفسير عبد الله حول اللغط الدائر عن طباعة المفوضية لبطاقات التصويت في الانتخابات التنفيذية بمطابع العملة السودانية، وليس بجمهورية سلوفينيا، كما كان مقرراً، فقد كانت فطيرة، ولم تحترم عقول المشاهدين. يقيني أن السيد نائب رئيس المفوضية يعلم تمام العلم بأن الفوارق الجغرافية، والزمنية بين أرجاء المعمورة، قد تلاشت بالكامل في عصر العولمة، والإنترنت؛ فإرسال التصميمات الجديدة للبطاقات في حال وجوب جولة ثانية لانتخاب رئيس الجمهورية سوف يستغرق نفس الزمن إذا ما وجهت إلى الحلة الجديدة، أو جمهورية سلوفينيا؛ كما أن الزمن الذي يأخذه نقلها بالجو لا يعقل أن يكون بالتكلفة الهائلة (2 مليون دولار) – تفوق ثلاثة أضعاف تكلفة إنتاج البطاقات - التي أشار إليها الفريق الهادي، حتى وإن كانت سوف تنقل بطائرة خاصة. غير مقبول أن يزايد السيد نائب رئيس المفوضية، بالوطنية، على أحزاب المعارضة؛ حينما يتحدث عن الثقة التي لا بد أن تتوفر في المؤسسات الوطنية، رغم أنه يعلم تمام العلم بأن كل مؤسسات، وأجهزة الدولة أصبحت حزبية حتى النخاع؛ فمدير شركة مطابع العملة، المهندس الكيميائي محمد الحسن الباهي، هو قيادي بالمؤتمر الوطني، ووزير دولة سابق بوزارة العلوم والتكنولوجيا؛ كما أن كل الإدارة العليا بالشركة تتبع للحزب الحاكم، حالها كحال بقية الإدارات المماثلة بالدولة. قد أدهشني الباشمهندس الباهي بالأمس وهو يتحدث للأجهزة الإعلامية إثر زيارتها للشركة، بأن الزمن الذي تستغرقه عملية نقل البطاقات من جمهورية سلوفينيا، لتمر عبر بحر البلطيق، مروراً ببريطانيا، حتى تصل إلي السودان قد أفضى لتفضيل شركة مطابع العملة على الجهات الخارجية للقيام بهذه العملية. لا أود الخوض في مدى صحة المعلومة التي أدلى بها، وهل له صلاحية للادلاء بها، ولكن حديثه الحماسي ذلك مقروناً مع "لجلجة" المفوضية، يعطي انطباعاً بأن أمراً ما قد استوجب طباعة هذه البطاقات بالداخل، ضد رغبة المفوضية.
3-تحدث كذلك في حلقة منبر سونا تلك الدكتور مختار الأصم عن بعض الضوابط التي تضمن نزاهة الانتخابات مثل: ختم، وتوقيع بطاقات الاقتراع بواسطة رئيس لجنة الانتخابات، وفتح وإغلاق صناديق الاقتراع؛ أمام المراقبين، والمرشحين ووكلاء الأحزاب، واستخدام الحبر السري الذي يبقي بأصبع المقترع لمدة ثلاثة أيام على الأقل. ففي هذا السياق نقول أنه حتى لو سلمنا بانتفاء أي عمليات تزوير في البطاقات، فمن يضمن ألا يتم التزوير عن طريق الحبر السري كما حدث في الانتخابات الموريتانية؛ خاصة وأن المؤتمر الوطني قد جمع كثيراً من إشعارات التسجيل، ويستطيع أن يصدر إثبات هويات "مضروبة " تتطابق مع إشعارات التسجيل تلك، عبر لجانه الشعبية بالأحياء. أبجديات علم الكيمياء تقول بأن أي مادة في الطبيعة لها مذيب يزيلها لحظياً؛ فهناك مثل كيميائي ندرسه لطلابنا في السنة الأولى وهو:"المذيب يذيب مثله"، فإذا عرفت طبيعة المادة المذابة يمكنك أن تستخدم مادة أخري من شاكلتها لإذابتها، أو إزالتها. ولذا نسأل المفوضية عن مصدر زجاجات الحبر السري!!! وما هي الجهة الفنية التي أوصت باستجلاب هذا الحبر بالذات؟ وهل للمفوضية جهة فنية محايدة أم اعتمدت على مؤسساتنا "الوطنية"؟ ما الذي يمنع الحزب الذي يحوز على الإمكانات المادية الهائلة من توفير المذيب الذي يزيل الحبر السري لحظياً؟
4-تحدث بروفسير عبد الله كذلك عن الخيط الرفيع الذي يفصل بين ما هو حكومي، وما هو حزبي، وأنهم في المفوضية غير قادرين على التمييز بينهما، ولذا ينشدوا مساعدة الجميع في رصدها. استجابة لدعوة السيد نائب رئيس المفوضية هذه، فسنمد له يد العون بواحدة فقط من عديد مخالفات منسوبي الحزب الحاكم، وهي: يستغل المواطن/ عمر حسن أحمد البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية الطائرة الرئاسية في التنقل بين الولايات، لإنفاذ برامجه الانتخابية، الأمر الذي يعتبر مخالفة واضحة، وصريحة لأحكام للمادتين (69) و(96) من قانون الانتخابات، اللتان تحظران استعمال، وسوء استخدام موارد، وإمكانات الدولة، لأغراض الحملة الانتخابية. أتوقع أن يرشدني السيد نائب رئيس المفوضية برفع دعوى لدي المحكمة المختصة حسب أحكام المادة (102) من قانون الانتخابات، فأقول له: شكراً على هذه المساعدة القيمة، وعلى "دسكم للمحافير"، ولكنني لن أرفع أي دعوي، لعلمي المسبق بأن المحكمة المختصة لن تتجرأ بقبول الدعوي، وإن قبلتها فستبرؤه، ولا أقول لن تدينه، لأن الإدانة أبعد ما تكون عن منسوبي المؤتمر الوطني، مهما ارتكبوا من مخالفات، وفساد.
5- أورد السيد نائب رئيس المفوضية تبريرات غير مقبولة فيما يختص بانفراد مركز الاستشارات والتدريب الدولي، بأكبر قدر من التدريب، والتثقيف الانتخابي، لينال حصة كبيرة من ميزانية التدريب المخصصة للمفوضية؛ بالرغم أن السؤال لم يكن موجهاً إليه، وفي محاولة مستميتة منه لنفى أي علاقة تربط دكتور مختار الأصم بهذا المركز. يعود السبب في ذلك، حسب ظني، لتجنب نيران دكتور الأصم الصديقة، والذي أورد، في لقاء سابق له مع صحيفة الأخبار بتاريخ 26 يناير 2010م، الآتي:"لماذا مختار الأصم وحده، وهناك آخرون داخل المفوضية لهم علاقة بمراكز تدريب خارج المفوضية". ألا يعد تضارب المصالح الذي وقعت فيه المفوضية مخالفة واضحة، وصريحة، لقانون الانتخابات؟ لا يهم كثيراً، فهذه واحدة من المخالفات العديدة التي ارتكبتها المفوضية، ولكن ما يميز الأخيرة أنها "مكسب". حدثني أحد أساتذتي – رحمه الله – في ساعة صفاء، بأن الشخص منا يضعف أمام مغريات السلطة، والجاه، عندما يبلغ الستين من العمر، فلا يضع كبير اهتمام لخطوط حمراء كثيرة كانت تقف في طريقه في مرحلة الشباب، ولا نلمه إذا ما شارف على بلوغ السبعين وصار معاشياً؛ خاصة بعد أن ضيقت الإنقاذ على الشعب في معاشه، فتستغل حاجة الآخرين المادية، بصورة بشعة، تنم عن نفس مريضة.
لابد أنك قد لاحظت، عزيزي القارئ، بعد هذا السرد المطول، بأن المفوضية قد خرقت قانون الانتخابات في مناسبات عدة، وبصورة انتقائية، تخدم من خلالها أجندة حزب المؤتمر الوطني، كما أنها لم توقف انتهاكات هذا الحزب المتكررة، والمستمرة للقانون، الأمر الذي دفع أحزاب كثيرة، على رأسها الحركة الشعبية، الشريك الأساسي في الحكم، لمقاطعة الانتخابات، سواء كلياً أو جزئياً؛ مما يعني تقويض العملية الانتخابية في رأي الكثيرين. لم يكن السيد نائب رئيس المفوضية موفقاً عندما صرح بأن الانتخابات ستقوم بمن حضر، كما فقد الحيادية، وفاز بمحاباة الحزب الحاكم، عندما أفصح بأن الأحزاب تعلق أخطائها على المفوضية لأنها كانت "نائمة"(صحيفة الشرق الأوسط، 26/3/2010م). كما أن تماهي المفوضية في حزب المؤتمر الوطني، وتخليها عن صلاحياتها الأساسية لمرشح المؤتمر الوطني، حدا بمركز كارتر مطالبة هذا المرشح بالاعتذار الكتابي المعلن، أو الانسحاب من الخرطوم، رداً على تهديداته لهم بالطرد، إثر شكوكه في دور منظمات المراقبة الأجنبية، ومن ثم منعها من أداء دورها في الولايات، وحصر عملها في العاصمة فقط. ينبئ هذا الأمر بأن جل عمليات التزوير سوف تجري بالولايات؛ وهذا متوقع، نظراً لضعف الرقابة الداخلية بها، وسهولة ممارسة كل أساليب القهر، والإرهاب على مراقبي الأحزاب، ومنسوبي مؤسسات المجتمع المدني الوطنية، من قبل أجهزة أمن النظام، التي لا ترغب في أن يتم ذلك تحت بصر، وسمع المراقبين الأجانب. ألم أقل لكم أن مفوضية حاكم الإقليم الشمالي، وسفير سودان الإنقاذ السابق؛ قد قوضت العملية الانتخابية!!!
أختم هذا المقال بالقول أن صاحب منبر سونا، في سعيه لتشويه سمعة الأحزاب، قد استقدم جماعة المفوضية، بترتيب معين معهم؛ يهمش من خلاله الأحزاب، ويطلق العنان للجماعة لتقول كل ما عندها بالتفاصيل المملة؛ الأمر الذي جعلهم يدلون بأحاديث متناقضة في أحيان كثيرة؛ لم تزد الأزمة التي تعيشها المفوضية إلا عمقاً. لم تنطل الحيلة على ممثلي الأحزاب، فانسحبوا بهدوء من هذه المسخرة؛ والدهشة تكسو وجوه "المتوالسين". لم نر القسوة، والوحشية تتمظهر على وجه صاحب المنبر؛ كما حرمنا، هذه المرة، من صوت، وصورة ممثل الإذاعة السودانية الحانق على الأحزاب السودانية، وذي العاطفة الجياشة نحو الإنقاذ، أو ممثلي سونا، والتلفزيون القومي، الذين لم يخفوا انتمائهم لحزب المؤتمر الوطني على مدي جميع الحلقات.
أما مجمل تعليقي علي حلقات منبر سونا، فيتلخص في أن الأستاذ بابكر حنين قد أسدى خدمة جليلة للأحزاب السودانية، وهذا واجبه وغير "مشحود عليه"، وساهم بفعالية، يحسد عليها، في إيصال الصورة الحقيقة لحزب المؤتمر الوطني بأذهان المشاهدين، ولا أقول تشويهها، لأنها أصلاً شائهة. تم كل ذلك في معرض رد هذه الأحزاب على تعدي صاحب المنبر وزبانيته على هذه الأحزاب، بغرض تشويه صورتها، فانقلب السحر على الساحر. فما تفضل به العميد معاش/عبد العزيز خالد، مرشح رئاسة الجمهورية عن حزب التحالف الوطني السوداني، ومعاونوه، في مستهل حلقات المنبر، قد أصاب هذه العصبة بالدوار، وصاروا في موقع المدافع لا المهاجم؛ بعد أن أفلح العميد في تثبيت حقيقة أن الإنقاذ لم تتلمس طريق التحول الديمقراطي، والتبادل السلمي للسلطة عبر الانتخابات، إلا بعد الضغوط المتواصلة التي مارسها عليها الشعب السوداني من خلال التضحيات الكثيرة، والكبيرة، التي بذل فيها خيرة أبناء الشعب، دماءهم مهراً لها؛ وأن ظهور الأحزاب على هذه المنابر الإعلامية، والتي كانت حكراً على حزب المؤتمر الوطني، ليس منة من أحد، وإنما حق مكتسب كنتيجة لهذا النضال، ولا يشكر عليه أحد.
هذا آخر مقال لي قبل الموعد المضروب لإجراء الانتخابات في الحادي عشر من أبريل 2010م، ولذا لابد لي من أن أحي خيارات أحزاب المعارضة بخوضها على كل المستويات، رغم علاتها البينة، أو مقاطعتها كلياً أو جزئياً، فلكل أسبابه المنطقية التي حتمتها ظروف موضوعية، يجب أن نقرها، ونقبل بها جميعاً، وإن كنت شخصياً أميل للمقاطعة الشاملة، وعلى كل المستويات، حتى لا نكون جزءاً من إدعاءات الشرعية التي تسعى لها أبواق الإنقاذ بعد أن يكملوا آخر، وأقل حلقة من حلقات التزوير.
ختاماً أحي ذكري انتفاضة أبريل المجيدة،
وعاش الشعب السوداني حراً، أبياً.
osman30 i [osman30i@hotmail.com]