الدكتور عبدالله علي ابراهيم وافتراؤه علي بخت الرضا
10 April, 2010
(1-3)
لمعهد التربية ببخت الرضا مكانة رفيعة وخاصة في قلبي وعقلي فقد أمضيت فيه سنتين من أخصب سني حياتي وأمتعها وفارقته محملاً بذخيرة وفيرة كفتني في رحلتي الطويلة في التعليم داخل وخارج وطننا الحبيب , ولقد نشرت مقالاً طويلاً عن بخت الرضا في صحيفة الأيام الغراء قبل عشر سنوات بمناسبة مرور 68 عاماً علي انشاء المعهد , ولقد أفردت فصلاً كاملاً للحديث عن المعهد في كتابي (الطباشيرة والكتاب والناس) , وكان قد سبقني في الكتابة عنه في نفس الصحيفة الأستاذ أحمد عثمان حمري والدكتور قاسم عثمان نور والدكتور ابراهيم دقش وهم من خريجي المعهد في بداية حياتهم المهنية في التدريس في باكورة الشباب , وقد أوفوا القول عن عطاء المعهد في مجال التربية والتعليم واعداد المدرسين .
ولكن قرأت عجباً في مقال نُشر في هذه الصحيفة بقلم د/عبدالله علي ابراهيم سفًه فيه ما جاء في برنامج حزب الأمة القومي من الاشادة والثناء علي معهد بخات الرضا والمناداة باحيائه ليقوم بدوره التليد المرموق في اعداد المدرسين والمناهج , وذلك بعد أن انحدر التعليم الي أسفل سافلين في كل مستوياته ومراحله الدراسية , وحشد د/عبدالله علي ابراهيم كتائب من القدح والذم لمعهد بخت الرضا وتمني علي حزب الأمة أن يقوض المعهد من أساسه , وأسوأ وأشنع تهمة رماه بها هي أن المعهد صنيعة للإنجليز وحتي لا أتجني علي الكاتب أورد هنا فقرات من مقاله العجيب .
لقد جاء في مقاله (استغربت هذا الولع بمؤسسة استعمارية تربوية) , ثم قال : (ثم أستخدم التعليم في تخدير السودانيين . أي حملهم علي تقبله . ولكن العبارة تخطئ من جهة التربية فلا تري في بخت الرضا أداة مركزية من أدوات التخدير لإسباغ الشرعية علي مهمة الأنجليز بيننا . وهذا الفصام المعرفي هو الأصل في النوستالجيا ضاربة الأطناب بين صفوتنا البرجوازية الصغيرة التي ترهن النهضة بالعودة الي مؤسسات الزمن الجميل الذي مضي فشعاراتها الوطنية في واد وأفقها في ممارسة مهنها في واد آخر .) .
(واذاً نجدها , كما رأينا كاتب حزب الأمة يفعل , تنتقل بما يشبه الفصام من هجاء الاستعمار الي مدح مؤسساته والغلو في ذلك .) ( ثم يواصل معلم الجغرافيا من الكتاب قائلاً : (وقد بدأت اللغة العربية تنتشر في الجنوب بانتشار التعليم في الجنوب وسيأتي يوم يمكنك فيه أن تتفاهم مع أي شخص في أي بقعة من السودان بلغة واحدة ) , وقال : ( فبفضل التعليم (البوتقة) تنتشر اللغة العربية وسيأتي حين قريب يتفاهم الناس قاطبة بها . وبالطبع هذه بغية حميدة إلا أن نتوسل لها بجبر البوتقة ) .
ويختم مقاله بقوله : (وبينما حصلت المعارضة علي الراجمات اللاهبة لم تقتن راجمات الفكر لتنقض علي أبنية مثل بخت الرضا , التعليم الخاتم , لتفتح باب النهضة علي مصراعيه ) .
إنتهي المقال العجيب الغريب , وإنني أضرب صفحاً عما جاء فيه عن حزب الأمة وكاتبه فهم أولي بالرد عليه , ولكنني أشعر بالأسف والأسي لهذا التجني الكريه علي معهد التربية ببخت الرضا فقد كان هذا المعهد منارة تربوية تعليمية سامقة , وقد طبقت شهرته الآفاق ولم يكن له مثيل في البلدان العربية وأفريقيا وكان المدرسون من اليمن وعدن ونيجيريا تبتعث بهم بلدانهم الي بخت الرضا لتأهيلهم وتدريبهم , ولعل د/عبدالله يجهل ما كان يقوم به المعهد من مهام تربوية وتعليمية , ولذلك فإني سأتناول هنا بالشرح ما كان يجري في ذلك المعهد فأنا أحد خريجي كلية المعلمين الوسطي ببخت الرضا وأنا أعتز وأفخر بذلك .
والحديث عن بخت الرضا حبيب الي القلب محبب الي النفس لمن تلقي فيه فنون التدريس ومبادئ التربية , وقد جئته من أمدرمان في عام 1952 ضمن الفرقة الرابعة أو الكورس الرابع كما يقال للتدريب في كلية المعلمين الوسطي موفداً من مدرسة الأحفاد وأنا في مطلع الشباب وكنت مدرساً تحت التمرين وأمضيت سنة . وجري العمل بأن يوفد المدرس تحت التمرين بعد سنتين من الخدمة , ولكن الشيخ الجليل بابكر بدري اتصل بوزارة المعارف لقبولي واستجيب لطلبه .
وجئت من المدينة حيث الحياة هينة سهلة فتضجرنا أول الأمر , وتعجبنا ماذا أراد المستر قريفيث – العميد ومنشئ المعهد – من إختيار هذه البقعة الموحشة مكاناً للمعهد , ولكن تعودنا بعد حين علي هذه الحياة الخشنة التي لم نألفها من قبل , وكانت جديدة بكل مقياس , وأولها سكني الداخليات والإضاءة بفوانيس الجاز وثانيها تحمل لسعات البعوض الصاروخي والخوض في وحل الخريف .. واخشوشنا , وكان آية ذلك لبس الجميع الشورت الكاكي والقميص نصف الكم الأبيض من قماش الدبلان وإنتعال الشبط وكان الجميع يرتدون هذا الزي من العميد والي المدرسين والطلبة المدرسين ولا فرق بينهم كما في ثياب الإحرام في الحج . فقد كانوا حجاجاً في محراب العلم , وقد أدركنا الحكمة في اختيار هذه البقعة في مقبل أيامنا عندما عمل البعض منا أو عمل خريجو بخت الرضا في المرحلة الأولية خاصة وضربوا في أرض السودان الشاسعة في قري نائية موحشة لا يجدون الطعام فيها حتي الماء إلا بشق الأنفس , ولكن كان المدرسون البريطانيون يرتدون جوارب طويلة وأحذية .
ما درسانه في المعهد :
كان علي كل مدرس متدرب ان يختار مادتين ليتخصص في تدريسهما بالاضافة الي مادة نشاط وهي التربية البدنية او الفنون او المسرح , ولقد أخترت اللغة الانجليزية والجغرافيا والتربية البدنية وكان الجميع يدرسون علم النفس التربوي وطرق التدريس والتعليم المقارن المطبق في دول الغرب الرأسمالية وفي روسيا الشيوعية وكانت تدرس أحدث النظريات في العالم لطرق وفنون التعليم ومنها مثلاً طريقة المشروع project وهذه تعتمد علي اشراك التلاميذ جميعهم او مجموعة منهم في تنفيذ موضوع معين بأنفسهم بدون تدخل من المدرس عدا توجيهه وشرح الموضوع لهم , وكانت الدروس تشتمل علي محاضرات نظرية يليها حصص معاينة يؤديها مدرسو المواد في المواد المختلفة بمدرسة الدويم المتوسطة الحكومية أو مدرسة النيل الأبيض المتوسطة بالدويم والمدرسة المتوسطة بالمعهد او بقاعة المدرجات بالمعهد , وكان علي كل متدرب ان يعد حصة معاينة يدرسها بنفسه ويحضرها جميع أفراد الدفعة ومدرسي المعهد وحتي العميد نفسه , وتجد الجميع جالسين في المدرجات خلف الفصل وكل واحد منهم يحمل نوتة صغيرة يدون فيها ملاحظاته علي أداء المتدرب بدءاً من دخوله الي الفصل والقاءه التحية والي نهاية الحصة بقرع الجرس , وكان يلي الحصة مباشرة مناقشة يديرها أستاذ طريقة تدريس المادة تتناول أداء المدرس بإيجابياتها وسلبياتها وكان علي المدرس الرد علي ما يثار من نقاط . لقد كانت حصص المعاينة تلك إمتحاناً عسيراً نحسب له ألف حساب بإعدادنا الجيد للدرس وتحضير وسائل إيضاح معبرة وجذابة , فمثلاً هناك خطوات مختلفة لتدريس كل فرع من مادة الانجليزي كالقواعد أو الانشاء او المطالعة او كتابة أنواع الرسائل والتلخيص (précis) وبنبغي علي المدرس التقيد بهذه الخطوات .
ونواصل :
helalzaher@hotmael.com zaher [helalzaher@hotmail.com]