الانتخابات …والمسخرة الكبرى!!! …. بقلم: د.عثمان إبراهيم عثمان
15 April, 2010
تركز الحديث في المقال السابق عن كيف أن المفوضية القومية للانتخابات قد قوضت العملية الانتخابية من خلال رصدنا الموثق لانتهاكها لقانون الانتخابات في جوانب عديدة، فاستحقت بذلك، وعن جدارة، اسم "المقوضية" الذي أطلقناه عليها كعنوان لذلك المقال؛ وما كنا ندري - أو لعلنا كنا لا نود أن نرجم بالغيب، وإن كانت كل الدلائل تشير لذلك - بأنها ستدمر ما تبقي من العملية، عبر ارتكابها لجملة من الأخطاء "الفنية"، و"الإدارية"؛ باعترافها هي، وليس باتهامات توجه لها من قبل المعارضين.
لقد أفلحت المفوضية القومية أيما فلاح، في الترويج للعملية الانتخابية، عندما عقدت مؤتمراً صحفياً بقاعة الصداقة يوم السبت 10/4/2010م؛ استهله رئيسها بنفي لخبر استقالته؛ وليته لم يفعل، لأنه أكد بذلك انغماسه في وحل الشمولية مجدداً، بعد أن كاد أن يتطهر من أوثان المايوية البغيضة؛ إثر هذه الفرصة التي أتته في طبق من ذهب. "كما أسدى شكره، وتقديره، لكل من وقف بجانب المفوضية من الأسرة الدولية، والمانحين، والشركاء، حتى كللت المساعي إلى قيام انتخابات حرة، ونزيهة؛ وحث الناخبين التوجه لمراكز الاقتراع غداً"(موقع المفوضية على شبكة الانترنتwww.nec.org.sd/). في البداية، لم أصدق عيني، وأنا أقرأ هذا الخبر، أن يصدر مثل هذا الحديث عن السيد ابيل ألير المحامي، والقانوني الضليع؛ فخلته منسوباً لأحد جلابة الخرطوم؛ ولكن عندما أعدت البصر كرتين، ارتد إلٌي البصر وهو حسير. لا أدري عن أي انتخابات يتحدث السيد رئيس المفوضية؛ فإن كان يشير للانتخابات السودانية لعام 2010م؛ فالكل يعلم أنها (غير حرة) بدليل الترهيب الذي مورس ضد الشعب السوداني، من قبل زبانية الحزب الحاكم، وفي كل مراحل العملية الانتخابية؛ وبمسوغات قانونية، تستند على القانون الجنائي لسنة 1991م، سيئ السمعة، وقانون الأمن الوطني لسنة 2009م، الذي يجيز الاعتقال، والترويع، والتنكيل. كما أنها (غير نزيهة) البتة؛ حيث زور الحزب الحاكم التعداد السكاني، والدوائر الجغرافية، والسجل الانتخابي، وفرض منسوبيه علي اللجان العليا للانتخابات بالولايات؛ وأعطى دوراً محورياً للجان الشعبية للأحياء بالداخل، والبعثات الدبلوماسية بالخارج؛ واستحوذ على معظم البث الإعلامي إبان الحملات الانتخابية؛ واستغلال إمكانات، وموارد الدولة في حملاته الانتخابية؛ وليس آخرها امتطاء مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية، للطائرة الرئاسية في تجواله الانتخابي الذي غطى ولايات السودان الخمسة والعشرين. أبعد كل هذه التجاوزات؛ هل يمكن أن نصف هذه الانتخابات بأي أوصاف تمت للحرية، والنزاهة بصلة؟ المدهش أن المفوضية "سدت ده بي طينة وده بي عجينة" عن كل هذه التجاوزات؛ ولم تعر الشكاوى التي رفعتها المعارضة بخصوصها، أي اهتمام، ليس ذلك فحسب؛ بل تأتي في عشية الاستحقاق الانتخابي، وقبل أن تبدأ عملية الاقتراع؛ لتوسمها بالحرية، والنزاهة !!! ما لكم كيف تحكمون؟ لم كل هذا "الانبطاح" يا مفوضية؟ ألا تدرون بأن التاريخ لا يرحم؟ تمعن، عزيزي القارئ، في شجاعة مفوضية الانتخابات التايلاندية التي طالبت بحل الحزب الحاكم عندما حاول احتوائها؛ وخور مفوضيتنا تجاه الحزب الحاكم، حتى ألغى وجودها تماماً.
"من جهة أخرى أكد بروفسير عبد الله أحمد عبد الله نائب رئيس المفوضية القومية للانتخابات أن كافة الاستعدادات قد اكتملت لبداية الاقتراع غداً الأحد"(موقع المفوضية على الانترنتwww.nec.org.sd/). لم تمض سوى ساعات حتى كذبت الأحداث تصريحات مدير جامعة الخرطوم السابق، والرئيس الفعلى للمفوضية - بحسب كسبه في الانقاذ إبان سطوتها، وقهرها للمواطنين - ؛ فرصدت جملة من الأخطاء المتعلقة بخلط الرموز، واختفاء أسماء مرشحين، وناخبين؛ وتبديل البطاقات الخاصة بالولايات، والدوائر المختلفة، على المستوى القومي، والنسوي، والحزبي؛ الأمر الذي أدي لتجميد الانتخابات في عدد من الدوائر القومية والولائية. لا شك أن أعضاء المفوضية الموقرين – يضمون مدير جامعة عريقة سابق، وعمداء كليات، ورؤساء أقسام بالجامعات سابقون ، ومحامون، ورجال شرطة متقاعدون- يعلمون أن العملية الانتخابية تتطلب حذراً غير عادي، وسرية كاملة، مثلها في ذلك كمثل امتحانات الشهادة السودانية، أو الامتحانات بالجامعات؛ فلا أعتقد أن عملية مضاهاة النسخ الأم، أو الأصلية (Master Copies)، مع نسخ التجربة الطباعية؛ قد فاتت على كل هؤلاء الجهابذة؛ ولا أظن أن أوامر الطباعة قد صدرت لإدارة المطابع بالداخل أو الخارج، لإنفاذ طباعة الكمية المطلوبة، غير ممهورة بتوقيع مسؤولي المفوضية. فإن خاب ظني فيهم، يكونوا قد سعوا للمفسدة بأرجلهم. ولذا أرجح أن سبب هذه الأخطاء يعود لتشعب، وتعقيد هذه الانتخابات، حتى وصفت بأنها الأشكل في التاريخ. فإذا استعصت عملية مضاهاة النسخ الأصلية مع التجارب الطباعية على من بلغوا أرفع المراتب العلمية، والإدارية، في بلادنا، فما بالك ببقية المواطنين الذين يضمون نسبة كبيرة من الأميين. ما يؤكد ما ذهبنا إليه أن هذه الأخطاء لم يكتشفها أعضاء المفوضية، أوالإداريون الذين قاموا بتوزيعها، أو لجان الانتخابات العليا بالولايات، أو موظفو الاقتراع، ولكنها اكتشفت بواسطة المرشحين أنفسهم، حينما لم يجدوا رموزهم أو أسمائهم بتلك الدوائر. وهنا تبرز عدة أسئلة جوهرية: هل كانت المفوضية واعية لتعقيد هذه الانتخابات في بلد به نسبة كبيرة من الأميين؟ لا أعتقد أنها غير متحسبة لهذه المعضلة؛ وفي هذه الحالة: لم لم تفكر في تجزئتها؟ قد يقول قائل لاختصار التكلفة المادية؛ ولكنه قول مردود في مقابل حتمية تقويضها بهذا الشكل. كما أن الصواب قد جانب المفوضية في تقدرها للزمن المطلوب الذي يستغرقه كل ناخب للإدلاء بصوته؛ الأمر الذي أجبرها على تمديد العملية؛ مما يفتح الباب واسعاً لمزيد من تزييف إرادة الناخبين. الراجح أن المفوضية لا تملك قرارها، فهي مأمورة باجراء انتخابات تؤسس لشرعنة نظام الإنقاذ، ومن ثم مواجهة المحكمة الجنائية الدولية، ولذا كان لابد أن تعتورها أقصى درجات التعقيد، لغرض في نفس يعقوب. لقد سعى المؤتمر الوطني بكل ما يملك من قوة، وجبروت، من تمرير كل القوانين، والإجراءات، التي تضمن له اكتساحها، إن بالحق أو بالباطل؛ فلا يهم أن انسحبت كتلة التجمع الوطني من جلسات البرلمان احتجاجاً على قانون الانتخابات، والذي أعتبره قاصمة الظهر لأي انتخابات نتراضى عليها جميعاً، وكنت أعتقد أن أي حزب يدخل الانتخابات حسب أحكام هذا القانون، يكون قد فقد البوصلة السياسية. تأكد لدي هذا الاعتقاد بعد الشوائب التي طالت التعداد السكاني، وقسمة الدوائر الجغرافية الضيزن. كررت الإنقاذ نفس السيناريو عند تمرير قانون الأمن الوطني حتى اضطرت لمقايضته بقانون الاستفتاء على مصير جنوب السودان، مع الحركة الشعبية. أكمل الإنقاذيون الصورة الشائهة للانتخابات إبان الحملات الانتخابية، وخلال أيام الاقتراع الفائتة. لقد تعمد حزب المؤتمر الوطني إعمال كل هذه الخشونة المفرطة بغرض إجبار الأحزاب المعارضة على الانسحاب أو القبول بالهزيمة المجلجلة، بعد أن يكمل كل حلقات التزوير، وشراء الذمم. ولم لا؟ ألم يحلل التزوير حتى في الانتخابات الداخلية لحركته الإسلامية المزعومة؛ فالكل يعلم أن الدكتور غازي صلاح الدين كان صاحب القدح الأعلى في إحدى فعالياتها، في مقابل كسب الأستاذ على عثمان طه الأدنى؛ ولكن زيفت إرادة الناخبين لصالح الثاني. حدث نفس الشيء، قبل مفاصلة رمضان، عندما كان كسب الأستاذ الشفيع أحمد محمد هو الأعلى في مقابل حصاد الدكتور غازي المتدني. إذن حسب فقه الضرورة الإنقاذي، يثاب المزور في كل الحالات؛ ولكن يعاقب تاركه في الدنيا، والآخرة، إذا كانت المنازلة مع الأحزاب المعارضة. ثم ما يضير الإنقاذ أن كانت الانتخابات مزورة من رأسها وحتى أخمص قديمها؛ ألم تأتي إلى الحكم على ظهر دبابة، وكذب فطير؛ لتستمر في الحكم عشرين عاماً بالحديد، والنار؛ وأنها لم ترض بالنزول لهذه الحلبة، إلا كرهاً. إذن لا مصلحة للإنقاذ البتة في أي انتخابات حرة، ونزيهة، ولذا عمدت إلى تعقيدها لتصاد في الماء العكر، حتى تجنب منسوبيها المحاسبة – لا محالة آتية – في الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها بحق الشعب السوداني.
لقد هونت المفوضية كثيراً من أمر هذه الأخطاء، وصنفتها على أنها فنية، وإدارية؛ وفي اتساق تام مع وصف الأستاذ على عثمان، والدكتور نافع لها، واللذان قللا من أثرها على العملية الانتخابية؛ وكأنهما من أوعز للمفوضية بتبني هذين الوصفين. ولم لا؟ ألم يقر الحزب الحاكم في رؤيته التنظيمية السرية للانتخابات، بوجوب إيصال أوامره للمفوضية أولاً بأول. لا ندري أي نوع من الأخطاء كانت تنتوى المفوضية ارتكابها لتقول لنا عندها بأن الأمر جد خطير!!! ما هي الأخطاء الأخرى التي كان يمكن أن تقوض العملية الانتخابية بغير تلك الأخطاء؟ لا أعتقد أن هذه الاخطاء الفادحة ناتجة من إهمال عفوي، بل أنها أخطاء جوهرية، أصابت العملية في مقتل؛ وأنها مدبرة بإحكام، حتى تحدث فوضى، يستفيد منها حزب المؤتمر الوطني، وتنسحب على إثرها ما تبقت من الأحزاب المعارضة – انفرجت أسارير الحزب الحاكم بعد انسحاب الحركة الشعبية، وحزب الأمة، لتفقد العملية الانتخابية الحيوية التي ميزتها في مرحلة التسجيل؛ وكان يأمل الإنقاذيون في المزيد من الانسحابات. وإلا لماذا لم يعترض الحزب الحاكم على هذه الخروقات؟ ولماذا تطابقت رؤيته لها مع منظور المفوضية؟ ألم أقل لكم أن المفوضية تتحدث بلسان حزب المؤتمر الوطني!!! لقد نفى البروفسير عبد الله هذه الصفة عن المفوضية؛ مطالباً المتشككين بالأدلة، أو الشواهد؛ مع علمه التام بأن أضابير المفوضية ممتلئة بما قدم من براهين على عدم حيدتها؛ ولكن!!! تسمع إذا ناديت حياً.
تحدث أيضاً في ذلك المؤتمر الصحفي المحضور، عشية عمليات الاقتراع، الدكتور الأصم بعصبية، وعاطفة جياشة، وأنهم قد راجعوا مائة وسبعين مليون ورقة انتخابية " بالواحدة"؛ مؤكداً استحالة تزوير الانتخابات، أو التلاعب بها؛ ومتغافلاً العامل البشري، ومعتبراً أن موظفي الاقتراع ملائكة شداد. فلم ينقشع صدى كلماته حتى دوت صفارات الهرجلة، والتزوير أرجاء الوطن قاطبة. لقد كان الحبر السري بطل فيلم التزوير. فكما أوضحنا في مقالاتنا السابقة؛ بأن هنالك شكوك كبيرة في تسجيل القوات النظامية في أماكن العمل، الأمر الذي لا يمنعها من التسجيل مرة أخري في أماكن السكن؛ وأكدنا كذلك على الإزالة الفورية للحبر السري عند معرفة طبيعته؛ ومن ثم عبرنا عن عدم ثقتنا في الجهة الفنية التي أوصت به. تتحدث مجالس المدينة، هذه الأيام، عن تصويت القوات النظامية بمراكز الاقتراع بالقرب من أماكن العمل بإشراف الضباط العظام، يعقبه إزالة فورية للحبر السري بمحلول كيميائي، حتى يتمكنوا من التصويت مرة أخري بمواقع السكن. لمعالجة هذه الثغرة لجأت جمهورية أذربيجان لاستيراد الحبر الخفي (Invisible Ink) والمكشاف الفوق بنفسجي (Ultraviolet Detectors) من الدانمارك، عشية الانتخابات العامة، بغرض منع التصويت المتعدد؛ حيث يرش الحبر على سبابة الناخب، وعندما يجف يكون غير مرئي، تحت الضوء العادي؛ ولكنه يتوهج بضوء أصفر، عندما يتعرض لضوء فوق بنفسجي. هذا هو الحبر المناسب للانتخابات السودانية، نظراً لبشرتنا الداكنة التي قد تخفي الحبر السري العادي، وتخضيب سبابة نسائنا بالحناء، والمهنية العالية التي يتمتع بها مزورونا " ما شاء الله عيني باردة". إن اللجوء للتزييف بهذه الدرجة العالية من الكثافة، يفسره تزوير السجل الانتخابي، في المقام الأول؛ لأنه بحساب بسيط، لا يمكن أن يحوز حزب المؤتمر الوطني على معظم الناخبين الستة عشر مليوناً – تنتفي حاجته للتزوير ولكنه عملياً يمارس الغش والتدليس، والتزوير كما يشرب الماء - ؛ خاصة عندما أفصح متنفذو الإنقاذ بأن الأحزاب كانت نائمة في فترة التسجيل، وأن معظم الذين سجلوا مؤيدون لحزب المؤتمر الوطني، حتى يمهدوا لتزييف أرادة الناخبين عند الاقتراع؛ وأن حوالي 50% من الناخبين سجلوا في فترة التمديد، التي حازت علي أكبر قدر من الغش والتدليس. خلاصة القول هنا، أن الأحزاب المشاركة رصدت أكثر من ثلاثمائة خرق للعملية الانتخابية، وأكثر من 70 بلاغاً ضد المفوضية القومية للانتخابات؛ ومع ذلك تصر المفوضية على سلامة العملية. وهي بذلك تحذو حذو المؤتمر الوطني في تعاطيه مع الفساد، إذ لم يعترف به حتى الآن، على الرغم من أنه رائحته قد أزكمت الأنوف جميعاً، ووقف شامخاً كالطود في كافوري، والعمارات، كما قتل، وشرد، ونكل، وأفقر زبانيته الشعب السوداني؛ في حين يحسبون أنفسهم رحماء به، وأمناء على ماله، وعرضه؛ "صحيح الإختشو ماتو".
أختم هذا المقال، عزيزي القارئ، بالقول أن: المفوضية القومية للانتخابات قد حولت هذه المناسبة، التي ظل يكافح من أجلها الشعب السوداني لأكثر من ربع قرن من الزمان، إلي مسخرة كبرى، ومضحكة تتندر بها الأمم من حولنا؛ فصارت لا تساوي قيمة الحبر السري الذي خضب بنان الناخبين. ولذا نطالب بإلغائها كلياً، وإقالة المفوضية القومية للانتخابات – لن تستقيل من تلقاء نفسها، لعدم وجود أدب الاستقالات في سودان الإنقاذ، هذا إذا لم ترفع درجات في ميزان السلطان، أسوة بترقية الوزير صاحب الأبراج – ، ومحاكمة أعضائها نظير ما اقترفوه من هدر لوقت، وجهد، ومال الشعب، في مسرحية هزيلة، ومتهالكة.
osman30 i [osman30i@hotmail.com]