طفولة مسروقة … بقلم: عبد الفتاح عرمان
17 April, 2010
طفولة مسروقة
Stolen Childhood
5
من واشنطن للخرطوم
عبد الفتاح عرمان
fataharman@yahoo.com
“We make out of the quarrel with others, rhetoric, but with the quarrel of ourselves, poetry.”
W.B. Yeatis
كما ذكرت فى المقالات السابقة انني ترددت كثيراً فى أمر هذه المقالات التي يختلط فيها الشخصي بالعام، وهى محاولة للكتابة عن ايام الطفولة وأحداث كثيرة لم انسها منذ نعومة أظافري الى اليوم، على الرغم من اني كثير النسيان، وهو بحق نعمة لا تدانيها نعمة -اى النسيان-. وهذه المقالات ليست للإعلاء من شخصي او اسرتي خصوصاً بان هنالك من قتلوا او سحلوا فى اتون حرب لا تبقي ولا تزر، وما حدث لنا لا يساوى مثقال زرة من تضحياتهم. ومناسبة هذه المقالات هو عيد الأم الذى يصادف 21 مارس الماضى، عليه فهي هدية لامي، فاطمة عالم حمد، والإهداء كذلك، لأمهاتي فى الجنوب والشمال والشرق والغرب بصفة خاصة. الى امهاتي فى دارفور –وهن جزءاً من الغرب- اللواتن يعاين التهجير والرحيل المر فى بلاد أنجبتهن وقالت عليهن غرباء. ولا أجد شىء للتعبير عن حزني على ما يجرى لهن فى دارفور سوى الكتابة عن معاناتهن.
توقفت فى المقال السابق عند مغاردتي لخيمة من سموا انفسهم بالإستخبارات العسكرية فى معسكر الخدمة الإلزامية بمعسكر الدخينات بعد جلسة تحقيق تخللها الضرب والإهانات. عدت بعدها الى السكن، وسألني اصدقائي عن آثار الضرب فى رأسي وكذلك آثار الحبل حول عنقي، وحالة الكدر التي اصابني، رددت عليهم بانها آثار جزاء تنطق هكذا فى العسكرية "جِزِا" –عقاب يستخدم فى الجيش عند مخالفة الأوامر- من احد التعلمجية. عزمت على عدم إطلاع اصدقائي فى المعسكر عن الذى حدث لاني كنت ساعتها متشككاً فى كل شىء حتى اصدقائي. وكانت دعواتي، أن يكفِني الله شر أصدقائي اما أعدائي فانا كفيل بهم. لان فى تلك الأوقات العصيبة، الخطورة تاتي من الأصدقاء لا الاعداء الذين بامكان المرء الإستعداد لهم جيداً. والتاريخ يثبت ذلك، من إغتيال سيدنا عثمان بن عفان رضىي الله عنه الى ياسر عرفات (ابو عمار) الذى رحل مسموماً من أقرب الناس إليه.
اسدل الليل استاره على يوم شاق ومجهد بالنسبة لي وللآخرين، ولم تمضي سوى ساعتين او يزيد قليلا ثم طلب منا الحضور لوجبة العشاء –عبر صافرة التعلمجية المزعجة- من شدة الغضب لم اشعر بالجوع ولم اقرب طعام العشاء ايضاً. وبعد العشاء مباشرة تم النداء الى اخذ تمام المساء. اصطفننا فى طوابير عسكرية ووقفنا لساعات طوال تجاوزت الساعة فيها منتصف الليل حتي سقطنا بعض زملائي مغشياً عليهم من شدة الإرهاق. لم أفهم مغزى كل هذا الحقد على طلبة –معظمهم من صغار السن- لم يجنون ذنباً سوى حبهم للتعليم، وإستعدادهم لتقديم ارواحهم قرباناً للوصول الى حرم الجامعات، هل هذا كان حلم يجب معاقبتهم عليه؟ لم ندرى وقتها أن تلك الجامعات تحولت على ايام العصبة ذات الشوكة الى (كِنتينات) و (بوتيكات) تُباع فيها الشهادات وتشترى، وتُخرج انصاف متعلمين مكانهم سوق (ام دفسوا) وليس سوق العمل، وهذه قصة اخرى.
مرت الساعات متثاقلة، وتم صرفنا للنوم عند الواحدة صباحاً تقريباً، لم ننم سوى بضع ساعات حتى سمعنا الصافرات مرة اخرى تحاول إيقاظنا. صحونا من النوم مفزوعين كمن مسه الجن او إشتعلت فى بيته النيران، وبعضنا الآخر لم يفق من النوم بعد، وكان نصيبهم الضرب بالعصي على الرؤوس او كيفما اتفق. صديقي محمد فضل السيد، كان يقط فى النوم، ولم يفق الا بعد أن ضُرب على رأسه، ورايت الدماء تسيل من اعلى رأسه حتى بللت قميص (الدمورية) الأبيض. طلبوا منا ان نعد انفسنا لصلاة الفجر. صحونا مفزوعين نبحث عن مياه للحمام والإستعداد لليوم الجديد. المنظر كان مزرٍ للغاية، الكل لم يفق بعد واخرين كان يتألمون من آثار الضرب والدماء تسيل منهم خصوصاً بان شعار الشباب الرسالي كان دوماً (فلترق منهم دماء او ترق كل الدماء). كانت لديهم حالة تعطش ظاهرة للدماء، ولكن دماء من؟ الاصدقاء قبل الأعداء!.
آخرين ذهبوا للمسجد من غير وضوء او استعداد وناموا داخل المسجد، ولحقتهم العصي والإهانات داخل بيت الله، ولا كرامة لنبي بين اهله!.
صلينا وذهبنا للإستعداد للطابور الصباحي بعد أن اخذ كل واحد منا كوب من الشاى. وبعد أخذ (التمام) الصباحي، ذهبنا فى (بِيادة او جكة) صباحية. وبدأ المهوسون فى الغناء و(الجلالات): ياسر عرمان، يا البشير.. خان الأوطان، يا البشير. البعض كانوا يرموقوني بنظارات حادة، تكشف شكوكهم او هلعهم من ذاك الإسم. لم أكن اردد معهم هذه الترهات، وصار وجهي كتلة صماء يصعب حتى على العرافين قرائته. ليس لسبب سوى أن مزاجي تغيير واصبحت ارى ان وجودى فى المعسكر مهدداً، ولن يكون سهلاً لاني فى نظرهم عدواً يجب القضاء عليه، وبما أن الأمر كذلك، كان لزاماً علي أن اغير من وسائلي الدفاعية، وأن اصمد وابين لهم مدى صرامتي –على الاقل ظاهرياً-.
مرت الساعات مسرعة مثل قطارات نيويورك، وذهبت الى خيمة الإستخبارات العسكرية –على الرغم من انه ليس هنالك شىء يدل على انها كذلك- هذه المرة رحبوا بي، وإختلف تعاملهم معي بعض الشىء. سألوني اذا كنت ارغب فى شراب كوب عصير اوشاى، رددت بالنفي. أصر احدهم –الشخص الذى قام بضربي الليلة الماضية- على أن اشرب كوب عصير، وقبل أن ارد قدم لي كوب عصير (روزانة) كان يحمله فى يده. القى علي بعدها محاضرة طويلة حول الشباب المجاهد و(الدبابين) والإستهداف الإسرائيلي للبلد نسبة للنهج الإسلامي للحكومة! وهي كانت عبارة عن عملية غسيل دماغ/Mind Wash Process. وطلب مني بعدها الإنضمام لكتائب الدبابين –كتائب الجبهة الإسلاموية الإنتحارية-. رفضت هذا العرض بحجة انني من صغار السن، وأريد الذهاب للجامعة وليس ميادين القتال. تغيرت ملامح وجهه قليلاً، لكنه منحني خيار آخر، وهو التعاون معهم. تظاهرت بعدم الفهم. وقلت له: ماذا تريدني أن افعل؟ سوف نكلفك ببعض المهام وما عليك سوى إطلاعنا بما قمت به، تذكرت وقتها قول الفنان البارع، عادل إمام: دا انا بخاف من الكلب يطلعلي اسد!. اذا كنت اخشي قتال إخواني فى ساحات الوغي هل بامكاني القبول التجسس عليهم؟ رددت عليه بلطف باني لا افهم فى السياسة وكل ما اريده هو مواصلة تعليمي الجامعي لا اكثر ولا اقل. رد علي بحدة هذه المرة: لديك حتي ظهر الغد لتفكر فى الأمر، وتقابلنا هنا حتي تخبرنا ماذا اخترت. قلت..... نواصل الإسبوع القادم إن شاء الله.