دفاعاً عن وحدة السودان … بقلم: أ.د. الطيب زين العابدين
30 May, 2010
يمر السودان في الوقت الحاضر بمرحلة خطيرة في تاريخه منذ توحيده في الربع الأول من القرن التاسع عشر، سيقترع أهل الجنوب في يناير 2011م في استفتاء تقرير المصير ليقرروا إن كان السودان سيبقى موحداً كما عرفناه منذ حوالي قرنين من الزمان أم ينقسم إلى شمال وجنوب. والمؤشرات السياسية تقول إنه أقرب للانفصال منه إلى البقاء موحداً، وبما أن المجموعة التي تتبنى هذه المذكرة تؤمن بأهمية وضرورة بقاء السودان موحداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفاءً لتاريخ الآباء والأجداد الذين مهروا هذه الوحدة بدمائهم ونضالهم، ولأن انقسام البلد سيسبب مشاكل لا حصر لها ويفتح الباب لعنف وانشقاقات أخرى في الشمال وفي الجنوب، ولأننا نستطيع في بلد واحد كبير وغني بالموارد أن نلعب دوراً أكثر تأثيراً في محيطنا الإقليمي والدولي، ولأننا نعيش في زمان تتكامل فيه الدول وتتحالف حتى تتعاون على معالجة مشاكلها وتسهم بدور أكبر في الشئون الإقليمية والدولية. وكأننا بالانفصال نسير في اتجاه ضد التاريخ وضد مصالحنا الوطنية وضد رغبة شعبنا الحقيقية الذي برهن على مقدرته في التعايش السلمي والتواصل عبر عقود طويلة. لا شك أن هناك أسباباً قوية دفعت بالأخوة في الحركة الشعبية أن يصروا على إدراج حق تقرير المصير في بروتوكول ميشاكوس وأن يصروا على قيامه في موعده المحدد والالتزام بنتيجته المتوقعة. ونحن نحسب أن أسباباً تاريخية وعاطفية أدت إلى ذلك الإصرار نتيجة لتجارب سياسية فاشلة مع الحكومات المركزية والقوى السياسية الشمالية، ولكن اتفاقية السلام الشامل التي تم الاتفاق عليها بين المؤتمر الوطني وبين الحركة الشعبية وتنفيذ تلك الاتفاقية رغم العراقيل طيلة السنوات الخمس الماضية حتى وصلت إلى مشارف الاستفتاء تدل على أن المعادلة السياسية المرضية للشمال والجنوب ممكنة بل وقابلة للتحسين والتطوير، ويكفي أنها أوقفت الحرب التي استمرت لأكثر من عشرين عاماً ووضعت البلاد على عتبة التحول الديمقراطي وأسست لقيام الحكم اللا مركزي في كل أنحاء السودان.
التعايش الاجتماعي.
مهما قيل عن الاختلافات الكثيرة بين أهل الجنوب والشمال في الدين والعرق والثقافة والتوجهات السياسية، ومهما قيل عن التراث الاستعماري الذي قفل الجنوب في وجه أهل الشمال وقفل الشمال في وجه أهل الجنوب وأبقى الجنوب متخلفاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومهما قيل عن إخفاق الحكومات الوطنية في معالجة جذور المشكلة الجنوبية إلا أن الشعبين تعايشا جنباً إلى جنب في أريحية وجوار حسن في سائر مدن الشمال والجنوب في السكن وفي مجالات التجارة والصناعة والخدمات دون نزاعات عرقية أو دينية، وتجاورت الكنائس والمساجد دون اعتداءات أو تشاحن وأقبل المسلمون على المدارس المسيحية في الشمال دون حساسية حتى صار أغلبية طلابها منهم. صحيح أن التعايش الاجتماعي لم يبلغ مداه المطلوب متأثراً بنظرات عرقية تاريخية ولكنه يسير على الدوام في خط متطور إلى الأحسن والأفضل وسيأتي اليوم الذي تزول فيه الفروق العرقية والاجتماعية طال الزمن أم قصر. ولا تقتصر النظرات العرقية الاستعلائية على شعب الشمال والجنوب ولكنها موجودة بين قبائل الشماليين أنفسهم كما هي موجودة بين قبائل الجنوبيين. ولو قورن السودان بغيره من البلاد الأفريقية والعربية لبزها جميعاً في حسن التعايش والتواصل والتسامح بين الأعراق. وتركزت شكوى الإخوة الجنوبيين على مر السنوات من القرارات والسياسات الحكومية وليس من سوء العلاقات الاجتماعية بين الشعبين، ويكفي القول ان الحالات النادرة التي نشب فيها نزاع بين عناصر الشعبين كانت لأسباب موضوعية عارضة ارتبطت بمعلومات خاطئة وشائعات مغرضة أدت إلى سوء تفاهم واحتكاك ولكنها لم تدم لأكثر من بضع أيام عادت بعدها المياه إلى مجاريها في الود والاحترام وكأن شيئاً لم يكن. وبسبب هذا التعايش الاجتماعي كان الجنوبيون كلما استعرت الحرب في مناطقهم وجدوا المأوى والملاذ الآمن لهم في الشمال، وقد بلغ عدد النازحين من الجنوبيين في الشمال أكثر من اثنين مليون شخص قبل عقد اتفاقية السلام الشامل.
التجارب السابقة.
لقد أدى الحكم المركزي القابض وفترات الحكم العسكري المتطاولة والغفلة السياسية في قراءة مطالب الجنوبيين منذ فجر الاستقلال إلى أخطاء فادحة في التعامل مع القضية الجنوبية من قبل النخب الحاكمة من الشمال والجنوب، ولا يمكن أن تنسب تلك الأخطاء إلى العناصر الشمالية وحدها رغم مسئوليتها الأكبر في الحكم وإدارة شئون البلاد دعك من أن تتجاوزهم إلى كل أهل الشمال. وقد هبّ شعب الشمال منتفضاً في أكتوبر 64 ضد حكم الرئيس عبود بسبب سياسة المعالجة العسكرية لمشكلة الجنوب وكان أول مهام الحكومة الانتقالية الدعوة إلى مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب سياسياً، وانتفض مرة أخرى ضد حكم الرئيس نميري بسبب تداعيات اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب مرة ثانية بعد اتفاقية السلام وما أدت إليه من نتائج سياسية واقتصادية مدمرة وكان أول نداءات المجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة هو دعوة الحركة الشعبية بالانضمام إلى قوى الانتفاضة والمشاركة في الحكومة والتفاوض حول تحقيق السلام في البلاد. وكانت اتفاقية السلام الشامل هي أكثر محاولات السلام جدية وتشخيصاً لجوانب المشكلة المختلفة، ورغم أنها جاءت ثنائية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ومقتسمة السلطة بينهما إلا أن بقية القوى السياسية قبلتها دون تردد لأنها حقنت الدماء وأدت إلى سلام مستدام بعد حرب أهلية ضروس أكلت الأخضر واليابس. والرغبة الشعبية في الشمال عالية رغم بعض الأصوات النشاز في أن يظل السودان موحداً كما كان في الماضي، وأهل الشمال على أتم استعداد لدفع مهر الوحدة والمحافظة عليها. ونحسب أن القوى السياسية الشمالية قد وعت الدرس من التجارب الماضية ولن تسلك ذات الطريق الشائك الذي أدى إلى الحرب والتشرذم والرغبة في الانفصال.
مشكلات الانفصال
إن جرثومة الانفصال إذا بدأت بين الشمال والجنوب قد تسري بعد ذلك في أقاليم الشمال الأخرى وقد تنتقل إلى أقاليم الجنوب أيضا وربما تتأثر بها الدول الأفريقية المجاورة، إنها جرثومة معدية وخطيرة ولا يستطيع أحد السيطرة على حركتها واتجاهاتها. وتنتج أثناء تطورها السرطاني الاضطرابات السياسية والنزاعات العرقية والجهوية وتجعل حياة المجتمعات متوترة قلقة وغير آمنة. ثم إن هناك مصالح مشتركة بين الشمال والجنوب سيهددها الانفصال وقد تنقلب تلك المصالح إلى أسباب نزاع وصراع. من هذه المصالح وجود أعداد كبيرة من الجنوبيين تزيد على المليون شخص استقرت في الشمال منذ سنين عديدة سيصبح هؤلاء فجأة عشية الانفصال أجانب عن البلد الذي عاشوا فيه آمنين سنين طويلة، ومن هؤلاء عشرات الآلاف يعملون في القوات المسلحة والبوليس الذين يصعب استمرارهم كأجانب في العمل بالقوات النظامية ولن تتمكن حكومة الجنوب من استيعابهم في وقت قصير؛ وهناك مياه النيل التي يعتمد عليها السودان ومصر ويأمل البلدان أن يقوما بمشاريع مشتركة لزيادة موارد المياه ومحاربة آفة التبخر، وقد لا تكون هذه المشروعات من أسبقيات دولة الجنوب في الوقت الحاضر فلا تتحمس لإقامتها في أراضيها. وقد حدث انقسام في الأيام الماضية بين دول المنبع والمصب في حوض النيل الذي سيزداد تعقيداً بدخول دولة جديدة تعتبر من دول المنبع. وهناك النفط الذي ينتج في حقول الجنوب ويقتسم عائده وفقاً لاتفاقية السلام الشامل حكومتا الشمال والجنوب، ورغم وجوده في الجنوب إلا أنه يعتمد كلياً على الخدمات في الشمال من ترحيل وتصفية وتخزين وتصدير الأمر الذي يستدعي تعاوناً واتفاقاً مرضياً بين الطرفين لا ندري إن كان سيتوفر بعد الانفصال أم لا. وهناك مشكلة الحدود الشائكة التي لم يستطع السودان حلها عبر عشرات السنين مع دول الجوار الأخرى في أثيوبيا وكينيا ومصر، وسيجابه الشمال والجنوب مشاكل حدود إضافية يختلف عليها الطرفان رغم التسليم في اتفاقية السلام بالحدود التي تركها الاستعمار في يناير 1956م، ولعل حدود منطقة أبيي هي الأكثر صعوبة وحساسية لأن المنطقة التي حددتها هيئة التحكيم الدولية في لاهاي تضم قبائل مختلطة ينتمي بعضها للشمال وبعضها للجنوب ولن يكون من الميسور إقناع كل تلك القبائل بالتخلي عن محيطها الثقافي والاجتماعي والانضمام إلى الشمال أو الجنوب حسب نتائج الاستفتاء المتوقع في يناير القادم. وارتباطاً بالحدود تأتي مشكلة الحراك السكاني من الشمال إلى الجنوب وبالعكس لمئات الآلاف من الرعاة الرحل الذين يطلبون الماء والمرعى في هذا الشق من الوطن أو ذاك حسب مواسم الصيف والخريف، وقد ظلوا يفعلون ذلك لمئات السنين عبر الحدود دون اعتراضات سياسية أو إدارية. فهل يقال لهؤلاء الرعاة انكم أصبحتم اليوم أجانب على هذا البلد الذي تطلبون الرعي فيه ولا يحق لكم دخوله إلا وفق إجراءات دخول الأجانب؟! ولا يظنن أحد أن الأمور ستكون دائماً طيبة والعلاقات حسنة بين البلدين ولن تظهر مثل هذه المشكلات التي نتخوف منها. إن هذه المصالح الحيوية المشتركة التي تربط بين شقي البلاد يمكن أن تنقلب إلى نقمة وسبباً للصراع والنزاع في حالة الانفصال أو عرضة لتقلبات العلاقات السياسية بين حكومتي البلدين مما يضر بعلاقات الشعبين الأزلية في الشمال والجنوب.
نداء الوطن.
لكل تلك الأسباب المذكورة سابقاً نظن أن بقاء وحدة السودان هي ضمان لمصالح شعبيه في الشمال والجنوب ولذا ينبغي التمسك بها وبذل كل جهد في سبيل الحفاظ عليها، وتلك مسئولية وطنية وتاريخية لا ينبغي أن يتخلف عنها أحد. ونحن نناشد النخبة السياسية حكومة ومعارضة في الشمال والجنوب، ورجال الدين الإسلامي والمسيحي، وزعماء القبائل والسلاطين ورجال الإدارة الأهلية، والاتحادات المهنية ونقابات العمال والمزارعين ومنظمات المجتمع المدني، والشباب والنساء وكل قطاعات المجتمع في شمال البلاد وجنوبها أن تتكاتف معاً وتعمل معاً بعزيمة وقوة من أجل الحفاظ على وحدة السودان بصورة طوعية تقوم على حقوق المواطنة المتساوية وعلى التنمية العادلة المتوازنة وعلى إزالة الضرر ومظالم التاريخ في كل أقاليم السودان، لأن وحدة البلاد تعني السلام والقوة والتنمية والمصلحة المشتركة من أجل مستقبل أفضل لنا وللأجيال القادمة.
* كتبت بطلب من اللجنة الوطنية لدعم الوحدة الطوعية «تحت التأسيس».