مصر وأزمة المياه .. وتوضيح للدكتور البونى … بقلم: هانئ رسلان

 


 

 

 

أحاديث سودانية

 

 

الدكتور عبداللطيف البونى إستاذ جامعى وهو أيضا أحد أبرز كتاب الأعمدة فى الصحافة السودانية وله عمود ذائع الصيت إتخذ له عنوانا فريدا هو ( حاطب ليل ) .. ومن الواضح أنه أراد من هذا العنوان أن يمنح نفسه حرية الحركة ليكتب فى شتى الموضوعات ولا يقيد نفسه بالكتابة فى مجال محدد، فتراه يكتب فى التحليل السياسى ويناقش الأفكارالكبرى التى تموج بها الساحة السودانية فى منعطفاتها الخطرة جنبا الى جنب مع مناقشته لهموم مزارعى منطقة الجزيرة، أو احتفائة بالغناء السودانى وكأنه ناقد متخصص .. وهو يكتب بطريقة خاصة اختطها لنفسه حيث يمزج الفصحى بالعامية بشكل سلس يقرب المعانى إلى الشرائح الأوسع من المجتمع فلا يقتصر خطابه على النخبة أو المهتمين ..  وفى هذا الاسلوب ربما يكمن سر شعبيته الواسعه .. وهو فى طريقته هذه يذكرنى دائما بالاعلامى المصرى الراحل صبرى سلامة ، الذى كان يقدم برنامجا يوميا فى الاذاعة المصرية على أيام مجدها اسمه " ع الماشى" ..  كانت مدة البرنامج خمس دقائق فقط، ولكنه كان بليغا ومؤثرا ويقدم رؤية فكرية تتناول إحدى زوايا الحياة ودنيا الله الواسعة بلغة عربية جزلة.. ثم فجأة تطرق إذنك جملة عامية يضعها فى نهاية هذه الفقرة أو تلك لكى يوجز بها معنى ما ، وكان إبداعه أنه يقدم هذا المزج فى نسق جميل يشد إنتباه المستمع ويوقظه ويحتفظ به إلى آخر ما يريد قوله ويحرضه على الاستماع اليه فى اليوم التالى ..

 

كلما قرأت للدكتور البونى.. يخطر فى بالى أن العنوان الانسب لعموده ربما كان  "غواص فى بحر المعانى"  على وزن "غواص فى بحر النغم"  لعمار الشريعى،  إذ أنه لايشغل نفسه بالمحسنات اللفظية أو الأساليب البلاغية بل يركز على المعنى الذى يريد قوله وعلى إقامة صلة وحوار مع القارئ، وفى سبيل ذلك يخرج من الفصحى إلى العامية ثم يعودة كرّة اخرى إلى الفصحى .. وهو فى هذا صاحب مدرسة، تقف فى مقابل مدرسة إخرى فى الكتابة يتسنم ذروة سنامها المبدع الكبير الإستاذ كمال الجزولى الذى يأخذ بتلابيبك من أول المقال الى آخره, وأنت مبهور الأنفاس من قدرته على التحليق بالكتابه إلى أفاق غير مسبوقة فى اختياره للمفردة وأحيانا " نحتها" فى نسق بديع يعبرعن عمق الفكرة وعمق إيمان صاحبها بها ، وقدرته الهائلة على الإبانه بأكثر الطرق ألقاً وبلاغة وعمقا فى آن واحد .

 

مناسبة هذ المقال أن الدكتور البونى أفرد أحد أعمدته الاسبوع الماضى ليعلق على ما نقلته بعض الوسائط الإعلامية منسوبا إلى شخصى الضعيف عن إحدى الندوات التى كنت مشاركا فيها عن أزمة المياه وحوض النيل .. النقل كان مبتسرا وكان مخلا بشكل كامل ، إذ جاء فى الخبر ( نقلا عن الدكتور البونى ) أننى قلت "ان مصر يجب ان لاتعتمد في ملف مياه النيل على السودان فالسودان بدا يمارس سياسات ابتزازية وان النخبة السودانية معادية لمصر اكثر من معاداة بقية دول حوض النيل لأن مصر في رأى هذة النخبة أخذت حصة السودان وأن مصر (بتجرجر) السودان من أجل أن يدخل معركة من أجل مصر"

كان هذا هو ما تم نقله وعلق عليه الدكتور البونى بموضوعية  وحدب ظاهر على العلاقات المصرية السودانية والمصالح المشتركة.. ما أحببت توضيحه هنا هو النقل المخل الذى لم يقتصر على ما ذكرته بل امتد أيضا إلى مداخلات الأساتذة الافاضل حيث فشل كاتب الخبر فى نقل جوهر الرسالة أو المضمون الذى أراد المتحدثون إيصاله أو التركيز عليه .

 

هذه الندوة كان قد بادر بالدعوة لها مركز البحوث والدراسات السياسية بكليه الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وشارك فيها عدد من المتخصصين على مستوى رفيع من الناحية العلمية وآخرون من أصحاب الخبرات العملية التى أسهمت باشكال مختلفه فى إدارة هذا الملف أو كانت قريبة منه ، ولذا كان الجو العام للنقاش هادئا ومعمقا وينحو إلى الوصول إلى خلاصات واستنتاجات فى كيفية تناول هذه الأزمة والتعامل معها .. مداخلتى لم تكن طويلة او تفصيلية إذ كنت حريصا على الاستماع والنهل من معرفة وخبرات علماء اجلاء .. خلاصة ما قلته أن الكثير من عناصر النخبة السودانية لها تحفظات على معاهدة 1959 وكذلك على الموقف الحالى للحكومة السودانية التى تتخذ موقفا مشتركا مع مصر بالتنسيق الكامل بين البلدين تجاه ما تقوم به دول المنابع.. وطالبت بالإنتباه إلى أن الموقف السودانى الحالى قد يكون عرضة فى المرحلة القادمة لتغيرات هيكلية بسبب الانفصال المتوقع للجنوب، لاسيما وأن اتفاقية نيقاشا لم تأت على ذكر قضايا المياه، ومن ثم فإنها من القضايا المؤجلة التى سوف يدور حولها جدل كبير بين الجانبين الشمالى والجنوبى، وسوف تكون هذه الورقة فى قلب المناوشات أو أوراق الضغط أو المساومات بين الجانبين .. وأشرت إلى أن الجنوب فى حالة إنفصاله المتوقع سوف يضيف تعقيدات كبيرة إلى الأزمة الحالية وأن متعهدى الحماية والادارة للدويلة الجديدة سيعملون على الأرجح على إبتزاز مصر من هناك .. لاسيما أن التوجهات السياسية للدولة الجديدة ومواقفها من قضية المياة مضطربة ومتناقضة، وسوف تجنح فى الأغلب إلى صف دول المنابع التى يرى القادة الحاليون للحركة الشعبية أنها الأقرب إليهم والتى يسعون ويخططون للإرتباط بها فى معاشهم وإقتصادهم وتجارتهم .. وعلى سبيل المثال أكد باقان أموم فى زيارته الأخيرة لمصر على أن حكومة الإقليم الجنوبى كانت قد رحبت باستئناف العمل فى قناة جونجلى ، وان ذلك تم تعطيله من أطراف شمالية ، فى حين أن سلفاكير عاد وصرح فى وقت لاحق بعيد الانتخابات وقال اننا لم نوافق على عودة العمل فى قناة جونجلى لان هذا ليس من أولوياتنا الآن .

 

قد يحاجج البعض بان الجنوب لا يحتاج إلى المياه لأن زراعته مطرية .. وأنه لايستطيع منع تدفق المياه إلى الشمال لانه سوف يغص بها .. هذا صحيح ولكنه يستطيع ان يعطل كل المشروعات المخططة منذ عقود لتوفير جزء من الفاقد الهائل فى أحواض مشار وبحر الغزال وغيرها، كما أن موقف الدولة الجديدة لو انحاز سياسيا إلى موقف دول المنابع بشأن الاتفاقية الجديدة فمن شأنه أن يزيد من حدة الاستقطاب الحاصل فى حوض النيل ، وهذا ما يحاول الموقف المشترك لمصر والسودان تجنبه عبر التصرف بقدر كبير من التأنى وابقاء باب التعاون مفتوحا ومد حبال الصبر والتفهم ومحاولة تعديل الصور المغلوطة .. كل ذلك لعدم الرغبة فى الانزلاق الى المسار الصراعى الذى لن يفيد احدا وسوف يكون فيه الجميع خاسرين ، فى حين أن الاستخدام الامثل لموراد الحوض يقتضى التعاون من أجل معادلة إخرى قوامها الكسب والمنفعة للجميع .. هكذا يتصرف الراشدون .

 

أما الانشغال الهائل لوسائل الاعلام المصرية بهذا الملف، باقترابات متناقضة فى كثير من الأحيان حسب المواقف المختلفة لهذه الصحيفة أو تلك، والتى يتسم بعضها بالسطحية أو بالسعى الى التوظيف الداخلى او النزوع الى الإثارة فى قضية بالغة الاهمية والحساسية مثل هذه .. فانه فى الحقيقة يشوش على الموقف المصرى ويجعله يبدو مرتبكا أو عدائيا تجاه بلدان المنابع التى لاينقصها التحسس والتى تسعى لتكريس صورة غير دقيقة عن مصر ومواقفها لتبرر به سلوكها الاخير الذى يغلب عليه الطابع السياسى أكثر من الجانب التنموى او الفنى .

 

اما موقف الكثير من عناصر النخبة السودانية فى الاحساس بالظلم من مصر ومن اتفاقية 59 .. فهذا بطبيعة الحال حق للاشقاء فى الغيرة على ما يرونه محققا لصالح بلدهم  .. وان كنت لم أفهم حتى هذه اللحظة كيف ُظلم السودان فى هذه الإتفاقية .. وهذا حديث يقتضى حوارات هادئة ومعمقة مع الأشقاء وبمشاركة المتخصصين، مثله فى ذلك مثل كثير من الموضوعات التى تحتاج الى توضيح وإلى تبادل زوايا الرؤية والنظر بين الجانبين .. فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا .

 

الاهرام الاقتصادى

 

آراء