الاخوان وضعف الذاكرة السـودانية …. بقلم: د . احمد خير / واشنطن
30 June, 2010
كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن الطرق والكيفية التى يمكن معها أن تكون الوحدة جاذبة بين طرفى المعادلة السـودانية المتمثلة فى الجنوب والشمال! كل ذلك لاغبار عليه ، ولكن أن ينضم لزمرة الكتاب المنادين بجعل الوحدة جاذبة نفر من الحزب الحاكم وفى نفس الوقت يلقى باللوم على الأحزاب الأخرى فى أنها ستكون السبب فى الإنفصال ، هذا والله ماجعلنى أتخبط ولا أعى ماحولى ! وماقارب أن يوصلنى إلى الجنون هو قلة الحياء التى وصل إليها أولئك النفر من الحزب الحاكم الذين أغلقت فى وجوههم المنافذ وقارب أن يسجل التاريخ مسلسل المطبات التى سقطوا فيها وحجم الخراب الذى سببوه للإنسان والأرض فى السودان ، حتى صاروا يبحثون عن ضحية يعلقون عليها مسببات فشلهم !
عشرون عاما ونيف قضوها يصولون ويجولون ويكتنزون وينهبون من ثروات البلاد ، ويعملون جل جهدهم على إقصاء الآخر لتكون لهم وحدهم ، وكأن السودان بعد 30 يونيو 1989 أصبح إقطاعية لهم دون غيرهم ! ثم وبدون حياء يريدونها جاذبة ، ويضعون اللوم على المعارضة ! وإذا تساءلنا ماذا فعلوا خلال تلك السنوات الطوال ليجعلوا من الوحدة جاذبة ، ماذا سيكون الجواب؟
دعونا نتجول فى سنوات إنقاذهم علنا نجد مبرراً واحدا يجعلنا نغفر ماقاموا به أو على الأقل نتناسى مافعلوا ونفسح لهم المجال للعودة إلى الصف السـودانى ليعملوا جنباً إلى جنب فى إعادة صياغة اللحمة الإجتماعية السـودانية التى مزقوها خلال سـنوات التيه التى أدخلونا فيها إلى أن أجبروا البعض على مغادرة البلاد مولين صوب كل إتجاهات المعمورة فارين من البطش والقتل والتشريد !
كما يعلم الجميع ، أن العصبة الحاكمة قد قامت بأساليب بطش وحشية لم يعهدها السـودان من قبل !منذ وصولهم إلى سدة الحكم عبأوا أعوانهم لمحاربة الإخوة فى جنوب البلاد! جمعوا الشباب من الأماكن العامة وبدون دراية ذويهم أخذوهم عنوة للحرب فى الجنوب ! صنعوا آلات بشرية أطلقوا عليها إسم " الدبابين " لمقاتلة أبناء الجنوب " الكفرة فى نظرهم " فكان الدمار وأنهار الدم والنهب والتشريد حصاد سنوات حكمهم ! دسـوا الرعب فى قلوب الآمنين فى الجنوب والشرق والغرب والشمال ! رقصوا على الأشلاء بإسم " عرس الشهيد " ثم بعد أن أرهقهم القتل والدمار ، إنقلبوا على بعضهم البعض فتخاصموا وظهرت سـوءتهم للعيان ووصل بهم الصلف إلى حد أدخلوا فيه " مخرج مسـرحيتهم " شيخهم الأعظم حـس الترابى نفس الزنزانة التى ذهب إليها طواعية فى بواكير إنقاذهم !
وإذا نظرنا الآن إلى حصاد سنينهم سنجد أن الخراب الذى أدخلوه فى البلاد من الصعوبة الخروج منه . لقد هاجر الملايين من الشرفاء بعد أن ضاقت بهم السبل ، لقد شردوا الآمنين فى دارفور الذين لم يسلموا من البطش والتعذيب والإغتصاب حتى بعد أن نزحوا عن قراهم ! النزوح لم يشمل أهل دارفور فقط ، بل شمل أيضا الملايين من أبناء الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال مستجيرين بالرمضاء من النار ! ثم نزوح الآلاف من أبناء الريف إلى المدن والملايين إلى خارج السودان بحثاً عن لقمة العيش بعد أن ساء الحال ! وهانحن نشاهد مسلسل المعاناة التى يواجهها أبناء السودان فى لبنان وغير لبنان بسبب سياسات الطيش التى يمارسها نظام الخرطوم . بالله عليكم كيف تكون لجنة لإستقلال الجنوب والإستفتاء لم يجرى بعد !؟ وهل الإنفصال أصبح لدى الحزب الحاكم هو النتيجة المحسومة لإستفتاء تقرير المصير !؟ وكيف تنادى الحكومة بأنها بصدد تقديم مايجعل الوحدة جاذبة وفى ذات الوقت تكون لجنة للإشراف على إستقلال الجنوب !؟ أية سياسة تلك التى من يصحو مبكراً يتخذ قراراً ثم يوكل للآخرين دراسته فيما بعد!؟
الجميع يعلم أنه فى أواخر سنوات التيه ، قام الحزب الحاكم بتوقيع إتفاق سـلام " نيفاشا " ليس لمنفعة وطنية ولكن فقط
من أجل تمديد فترة الحكم لسنوات ست مضمونة خير من ماهو معلق على الشجرة ! سنوات كان جل همهم فيها أن يستولوا على ثروات البلاد غير عابئين بما سيحدث فى المستقبل الذى هو فى شرعهم من علم الغيب !
وبعد أن إمتلأت الكروش والجيوب ، حان موعد الإنتخابات ، وكان لابد من حبكة مسرحية أخرى ، إستبدلوا فيها " المخرج " وفتحت فيها خزائن " المنتج " ليخرجوا بمسرحية هزلية أخرى إطلق عليها فى هذه المرة إسم " إنتخابات " إلتقى فيها ديجانجو" بـ " رامبو " فكانت بحق مسرحية العصر ولو كره الكارهون !
لو حكم هؤلاء العقل " ان كانت لهم عقول " لفتحوا الباب لكل الأحزاب السـودانية لتشارك فى الحكم ويصبح تنفيذ إتفاق السـلام من صنع أيدى الجميع ولن يتحملوا وحدهم وزر تقسيم البلاد . ولكن " الطمع ودر ما جمع " نظروا إلى أن أربعة أعوام قادمة ينهبون فيها من الثروات خير وأبقى ، فهى من الأفضل أن تكون لهم وحدهم دون سواهم ! فاليذهب الجنوب غير مأسوف عليه طالما الجيوب عامرة ولو إلى حين !
لقد إعتمدت العصبة الحاكمة على ضعف الذاكرة السـودانية! ولما لا وهى ترى كيف أن الساحة السياسية السودانية قد قبلت وبصدر رحب الشيخ حسـن الترابى " مخرج " مسرحية الإنقاذ الأولى ، ومن معه لينضموا إلى صفوف المعارضة ويعطونهم حق المشاركة فى الإنتخابات من عدمه ، إلى درجة الوقوف معهم فى مايواجهونه من محن كانت من صنع أيديهم !
ضعف الذاكرة السـودانية سيفسح المجال مرة أخرى لمن هم فى السلطة الآن إلى أن يلتفوا وينضموا إلى حزب شيخهم طالما أن باب " التوبة مفتوح " كما أنه ليس هناك فى تاريخ السياسة السـودانية مايعرف بقانون " من أين لك هذا " وإن وجد لم يطبق إلا بشكل محدود كما حدث فى عهد نميرى الذى إستخدمه تبريراً لمصادرة أموال وممتلكات بعض من أطلقوا عليهم إسم " الأجانب " فى السـودان !
ضعف الذاكرة السودانية هذا هو مايستند إليه هؤلاء . لذا تراهم يسرقون وينهبون خيرات البلاد دون خشية محاسبة فى المستقبل! فهل تمت محاسبة من قبل لمن سبقهم فى القتل والتشريد والنهب لثروات البلاد !؟ بالطبع لا . فمن أولئك الذين قتلوا وسرقوا نراهم اليوم فى لباس المواطن النزيه المبرأ من كل التهم والواقف فى صفوف المعارضة متهما الحزب الحاكم بالسرقة والقتل والإغتصاب وكل الرذائل التى يعاقب عليها القانون! وشيخهم القابع فى سجن كوبر ينطبق عليه المثل السودانى القائل " التسوى كريت تلقاه فى جلده " !
ضعف الذاكرة السودانية جعل نفر من الحزب الحاكم يتجرأ ليسود صفحات الصحف اليومية الورقية والإلكترونية وبدون خجل يلقى تهمة " إنفصال الجنوب " على عاتق جميع الأحزاب السـودانية ! لقد ركنوا إلى ضعف الذاكرة السودانية أو بالأحرى إنعدامها ! ليقفوا وبدون ورقة توت متحدين تلك الذاكرة فى محاولة لطمس معالم تاريخ الأمس القريب الذى فعلوا فيه مالم يفعله المستعمر بكل قوته وجبروته ! أين الحياء إذن ومازال دم الضحايا فى الجنوب وفى الغرب والشرق حارا ولم يرفع العزاء بعد !؟
هؤلاء " يكتلوا الكتيل ويمشوا فى جنازتو " غير عابئن بردة فعل لعلمهم بأنه لن تكون هناك ردة فعل . فزمن أكتوبر قد مضى ولحق به أبريل ! أما ثورة عام 1924 التى تلاحم فيها أبناء الشمال والجنوب فقد أصبحت نسياً منسيا ! لقد وصل بنا الأمر إلى أن يجلس أبن الشهيد الهادى المهدى " رحمه الله رحمة واسعة " مع الجلاد السفاح نميرى بجوار بعضهما البعض على مائدة واحدة فى ظل الإنقاذ التى إستباحت دم الشهداء ولم تجد غضاضة فى أن تأكل على موائد أهل " الشهداء " فى أعراسهم الوهمية !
ضعف الذاكرة هذا جعل البعض ممن تسلموا السلطة فى هذا البلد المنكوب " بيناسوا " لايأبهون بما سيحدث لهم بعد إزاحتهم عن السلطة ، لعلمهم بأنهم سيأتون إليها من الأبواب الخلفية بلباس آخر ، هكذا وبدون محاسبة ! لذلك ليس من المستغرب أن نشاهد الآن البعض منهم وبدون حياء يحاول أن يحشر الجميع "حزب حاكم ومعارضة " فى قارب واحد يحمل بوزر الإنفصال المرتقب ! والبعض الآخر يحاول أن يوهمنا بأن العمل على أن تكون الوحدة جاذبة ليس بالأمر الصعب طالما أن النائب الثانى لرئيس الجمهورية " مهندس نيفاشا " ستتاح له فرصة الذهاب إلى جوبا والبقاء هناك إلى أن يحين موعد الإستفتاء ليعمل على أن تكون الوحدة جاذبة ! ياللإستخفاف بالعقول ! أن "على " سيحمل عصا " موسى " ليضرب بها " النهر " فتعود المياه إلى مجراها بعد أن تم " الإنفلاق " العظيم ! ودعونا نتساءل هنا : هل عملت الزمرة الحاكمة على جعل مجرد البقاء فى شمال السودان شيئا مرغوبا فيه ممايحفز الملايين التى شدت الرحال إلى خارج البلاد هرباً من البطش والتشريد وبيوت الأشباح للعودة إلى بلدهم!؟ كيف ستتمكن الزمرة الحاكمة من تسويق ممارساتها فى الشمال لأهل الجنوب وتقنعهم بأن مايحدس فى الشمال من قمع لن ينالهم منه شيئاً!؟ بكل أسف ، أرى المثقف السودانى يتبارى فى تقديم الأطروحات التى تعمق من فكرة إنفصال الجنوب ! حتى بات للبعض أن الإنفصال قادم لامحالة ! هل هى روح اليأس التى أصابت البعض !؟ وهل إستسلم البعض منا لما فرضته وتفرضه الإنقاذ!؟ أسئلة تحتاج إلى إجابة .
Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]