يامولاى اه من غلبى … قصة اغنية رواها الدوبيت …. بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 

 

الدوبيت السوداني الذي نشأ في القرن السادس عشر هو شجرة عميقة الجذور مخضرةالأوراق، ولا يخالجني ادنى شك أن الشاعر السوداني عموماً وبإختلاف مستويات اللغةالعامية أو الفصحي التي يتخذها أداة لبناء قوالبه الشعرية، كان منهله الدوبيت، الذيكوَّن مزاجه الشعري، والدوبيت يحوز الفضل كل الفضل على جميع الأشكال الشعريةالسودانية مهما كان تأثرها بأي مدرسة شعرية قديمة كانت أم حديثة، وفي أي تقسيم وضعتعامية او غنائية أو حقيبة، وأستطيع بيقين قوي وبتحد كامل ان أؤصل من الدوبيت لأيمعني أو قول فني ضمته أي قافية شعرية سودانية أين كان إنتسابها منذ نشوء الأشكالالشعرية السودانية والتي لم تقف أصلاً الا وهي متكئة على اكتاف الدوبيت ناهلة منمشاربه، غير أن الدوبيت شعر شعبي سماعي يرتكز في غالبه على الإنشاد تميزه نغمة وزنتقوم على التداعي والربط الصوتي ولا يكترث فيه للرسم الكتابي للمفردة (1) وقد كنتقد بنيت خطة للتعريف بانواع الدوبيت السوداني على محاور اربعة اذ وجدت صعوبة بالغةفي تحديد الدوبيت على نسق شمولي من زاوية واحدة اذ ان ذلك لابد ان يأتي قاصرا (2) فكان أولها محور الغناء والإنشاد، وهو محور تنوع فيه الدوبيت وأخذ ضروباً متعددة،كالضرب الغنائي المسمى (الشاشاي) الذي يرد كثيراً في المدائح النبوية، وكالـ(هوهاي) الذي ينتشر في شمال السودان ويبرز بشكل خاص في أغاني (النشيل)(3)، وهنالك (البوباي) وهو ضرب من اللحن انتشر وعم معظم انحاء السودان، كما نجد (الدوباي) الذي يعتبرذؤابة الفن الغنائي في الدوبيت وهو فن عريق وضارب في القدم ومتأصل في المزاج الفنيللشعب السوداني، وهناك (الجابودي) وهو نوع من الغناء الشعري وضرب من الرقص مشهور،وفي غرب السودان نجد أن الدوبيت يتنوع عندما يتخذ ضروباً وأشكالاً غنائية أخرىكـ(البوشان) وهو شائع لدى قبيلة الرزيقات وينقسم في شأن الغزل الى ثلاثة أقسام هي (اللبادة) التي تعرفها أيضاً قبائل دار حمر في غرب كردفان، و(الشتيل) ويعرفهالجوامعة والبديرية في وسط كردفان، و(السنجك) ويعرف عند قبيلة بني هلبة، والبوشانيتغنى به الفرسان إلا أننا نعرف فيه اشكالاً متنوعة كبوشان الرثاء الذي يسمىأحياناً (بكائية)، وكبوشان المدح الذي يأخذ أحياناً إسم (الكاتم)، وكبوشان الفخرالذي يأخذ ايضا اسم (تر اللوم)، وفي غرب السودان نجد (القندلة) التي تنتشر خاصة لدىقبائل الحمر، كما نجد في كردفان (التوية)، و(الكدنداية)، و(الجراري)، و(المردوم) الذي يقال له أيضا (المردوع)، وهناك (الهسيس)، و(الربق) الذي ينتشر لدى الشايقيةوالمناصير والرباطاب والجعليين وبادية البطانة وحوض نهر عطبرة وشمال كردفان، وهنالك (الهبي) وهو لون مربع من النظم يغنى خاص بقبيلة البجا في شرق السودان، كما توجدالأشكال الدوبيتية المغناة في شمال ووسط السودان كأغاني (الصبية والصبايا)، وأغاني (السيرة) وأغاني (الحناء). على أنه يجب ان نتنبه بأن هذا المحور في شأن انواعالدوبيت الذي حاولنا جاهدين أن نأتي على صورته كاملة يشكل بصفة عامة شعر الغناء لدىالقبائل السودانية ذات التراث العربي، كما يمثل الأشكال الغنائية الاخرى التي تعتمداشعارها على فن الدوبيت، وبالطبع فإن أشكال الغناء في ذاتها لا تدخل ضمن دراسة هذاالمحور وهي دراسة تعرضت لها مصادر اخرى وربما اخذت من مسمياته أشياء(3)

اناعتماد الدوبيت على التنغيم والإنشاد غالباً في تداولها هو معنى قائم في نفسي قذفبه الأستاذ علاء الدين احمد علي بشير كمبال (ود البيه) الى ذهني وهو يحكي لي قصةأغنية من الدوبيت إسمها (يا مولاي آه من غلبي) ولمن لا يعرف الأستاذ علاء الدينأقول له أنه من كبار الباحثين والموثقين للأدب الشعبي في السودان، كما أنه شاعردوبيت مجيد، وإبن شاعر دوبيت جهير، وهو ملحن معروف، ويحسب للأستاذ علاء الدينتدوينه وتسجيله لأعداد مهولة من المربعات الشعرية لأهم شعراء الدوبيت السوداني، وقدوصفه الأستاذ والفنان الكبير عبد الكريم الكابلي بأنه دار وثائق قومية متحركة يجبحراستها بالجند.. لما تمتاز به ذاكرته من قوة جعلته يحفظ الكثير والجيد من الشعرالقومي، ذكر لي الأستاذ علاء الدين انه كان يلقي محاضرة بقاعة الصداقة عن الشعرالقومي، وكان يأتي من خلالها بنماذج شعرية من الدوبيت وذلك على أسماع وفد من دولةقطر ضم أدباء وشعراء شعبيين أتوا لدراسة أدبنا القومي، وقد أم المحاضرة جمع من طلابالجامعات السودانية، ولم يلبث أعضاء الوفد القطري أن أطلقوا صيحات وآهات الإعجاب،بينما كان الطلاب السودانيون يطالبون المحاضر بشرح ما يلقيه عليهم من دوبيت، آلمهذا الامر استاذنا علاء الدين وهو يتساءل كيف يفهم القطريون الدوبيت السوداني ولايفهمه طلبة جامعاتنا السودانية، فقفزت الى ذهنه فكرة وهي تقديم الدوبيت مموسقاًوملحناً حتى يصيب وجدان الأجيال الشابة، وبالفعل قام باختيار عدد من المربعاتالشعرية من الدوبيت متوخياً فيها السلاسة والعذوبة والسهولة وقوة المعاني لشعراءستة هم محمد شريف العباسي وعكير الدامر ومحمد احمد محمد وعلي الشلهمة الشهيربالفنجري وعبد الله حمد ود شوراني ومحمد علي ابو قطاطي والطيب حاج عبد القادر ثموضع الاستاذ علاء الدين في الاغنية مربعين شعريين من تأليفه كما وضع للاغنية (العصا) وهي من تأليفه ايضا مستوحياً نظمها من المربع الذي تبدأ به الاغنية والعصاتتردد بعد كل مربع او مقطع من الاغنية ويقول في عصاه:

يا مَولايا آه منغُلبي

مِن النَارُو حَرَقَتْ قَلبي

كان اختيار الأستاذ علاء الدين للمربعاتالشعرية اختياراً ممتازاً كما كان لحنه للاغنية موفقاً الى حد بعيد، فقد ألبسالكلمات ثوباً بديعاً من ايقاع الدليب. وسرعان ما تسلل ذلك اللحن وكلماته وهذاالايقاع الى الوجدان السوداني بسرعة وقوة، وطارت الاغنية بجناحي الشهرة والنجاح لاسيما وان من اداها هو الفنان الموهوب الجيلي الشيخ الذي بعث به العميد سليمان محمدسليمان من مدني عندما كان حاكماً على الاقليم الاوسط للاستاذ علاء الدين الذي دفعاليه بهذه الاغنية ورفده بعد ذلك بكثير من الالحان وعندما اعتزل الفنان الجيليالشيخ الغناء اخذ يرددها من بعده بأداء جيد الفنان هشام درماس، وهكذا نجحت فكرةالاستاذ علاء الدين فأخذ الشباب يحفظون الأغنية ويرددون كلماتها بفهم واستعذابكعملة جيدة تطرد عملة رديئة. وقد عنَّ لي أن استعرض بعض مربعات هذه الاغنية بالشرحوالتحليل والاسناد وأبدأ بمطلعها وهو مربع الشاعر محمد شريف العباسي الذي بث فيهشكاته لرفيق انيس بحسرة وتوجع نادباً حظه الذي لايني يبعده عن ديار المحبوبة محطماًقلبه بالسفر على ظهر جمله (التلب) الذي تحفت اخفافه وهو يوغل بصاحبه في دروب سفربعيدة فيهب النسيم ويلهب الأشواق ويقول الشاعر:

يا مَوْلَايَ بشكيلَكْ شَقَايَاوغُلْبي

وحَظي الدِيمة من ردَ الأَنيسْ جَافلْبي(4)

طَاْلت السَفْرَّهواتَحفًّتْ مَنَاسِمْ تِلْبي

وهَبَّ الرَّيمْ وعَاوَدَكْ الحِنينْ يَاقَلَبي(5)

وعندما صرخت روح محمد شريف بالأنين وهي عطشى وفارق النوم عينيه لأجلظبية كحلاء مقلاء اوقعت صاحبه في حبها قال:

مَالكْ نَفْسِي مَطْعُونَة تَمَليتَنِيني(6)

مَالك عِيني للغَميدْ أَبيتي تْلِيني

عَطْشَانْ دِيمة كفحْ المويةما برويني(7)

كاتلاني الطريفية البريدا قريني(8)

ويتصل حديث محمد شريفبالفراق المر الذي فرض عليه وعن تلك النسائم التي تلهب الذكرى والأشواق وعن جراحاتحبه المميته التي يجدها شدو البلابل وهديل القماري ويقول:

غصباً عني فَارقتالضَريح غَير أمري(9)

وكل ماَهبّ نَسَّام مِنَُو زَادْ في جمري

جَرْحيالقرَّبْ يبرى وكَادْ يوَّدرْ عُمري

عَوَدُو ليْ تغريد بلبلك يا قمري

ومن ثمتتزين الأغنية بقوافي عكير الدامر التي تتمسك دائماً باللزوميات دون تكلفة او صنعة،فيقول وهو يصف العيد وبهجته وكيف أن الناس تزور فيه الأصدقاء غير ان زيارته كانتمختلفة إذ أندفع لزيارة الحبيب صاحب الثغر الفضي الذي أتلف قلبه ويقول:

النَاسعَيدَتْ مَرَقتْ عَليْ أصْحَابَا

وانا فريتْ عَليْ الجَاهلَة السَمِحْتِرحَابَا

فَاطراً يحكي بَرَّاق البدَودي سِحَابَا(10)

لفَّتْ قَلَبي زي لفْطَرْحَتَا اللافحَابَا

ويمسك عكير ريشته ليرسم لنا حبيبته في لوحة شعرية بديعةوزاهية الألواب ويقول:

أَخَدَرْ لَيهُو ضُلْ فَوقُو المَحَاسِنْشَرَّنْ

أَفْلج فَاطرو زَي برق السَواري الكرَّنْ(11)

يِتقَسَمْ مَقَاطِع فيالمَشِي ويتْحرَّنْ

زي فرخ القطا الأماتو رَكَّنْ وفرَّنْ

ويقول:

منالبيتْ جَا طَالع بيْ لُطُفْ يتكَّلْ

الطِيب المَفَحلْ بْي القُرُنفُلعَكَّلْ(12)

فوق سَدْرُو وتحتْ تَوبُو الَرهيف ومَشَكَّلْ

يَغطِس ومَرَّةيقْلَع بُرْتُكانْ البركَلْ

وتستمر مربعات عكير في الأغنية لتبلغ ستة مربعات،ويجىء دور الشاعر الفحل محمد أحمد الفنجري وهو يشكو لعمه من سهام أعين اصابته فيمقتل فأطاحت بنومه وسلبنه حياه وعصفت بصبره فيلوذ بالشعر ويقول:

عَمْ الهَادِينَشَابْ البَريدَا ضَربْنِي

قَسَّمْ نومِي مِن تَيبَانْ حَيَايَسَلَبَني

حَاكْم إَنصافي أَبَي يقْبَلْ سُؤَاليِ صَلبْني

وصَبْري الكَانْجميل جَرَّبْتُو كُلُو غَلبْني

ثم يضع وجهها المليح على مربع شعري آخر مترافقاًمع أدبها العالي ومكانتها السامية قائلاً:

لَهَجِك زَي لذيذْ عَسَل النَحَل فيالضوقْ(13)

يالمَرْدَا الجَمَالِك بَهْدَلْ المَخَلُوقْ(14)

إِتفننتِ فِيدَرْسَ الأَدبْ والذَوقْ

وكُلْ ما عِلينْ الطَبَقَاتْ لِقَنِكْ فُوقْ

وتبتهجالأغنية بمربع شهير لشاعر كبير هو عبد الله حمد ود شوراني رغم ما فيه من الأحيحوالنار والجروح والهزيمة يقول فيه:

أَحْ والوَحَه مَا بِتْدُورْ تَفَارِقْقَلْبِي

أحْ من نار فلانة وجرحها النوسربي(15)

يا نفسيِ الَصبُر لوُكيهُو لاتنْسَلبي

الحَظْ مَا بدُومْ يَومْ غَالبَة يوَمْ تنغَلْبيَ

ويبرز لنا فيالأغنية شاعر شندي المشهور الطيب حاج عبد القادر بمربع رائع إحتوشته تشبيهات بديعةفجاء كما يلي:

إَِتمنى الدَهَبْ لَو لَونُو يِشْبَه لَونِكْ

وأشتهَت الدُرَرْلَو هِي تبْقَى سِنُونٍكْ

مَجْنُونْ لَيلي حَالتُو أقل مِن مَجْنُونِكْ

زَيْمَا ليلي كَانَتْ في المحاسِنْ دُونِك

ولم ينس الأستاذ علاء الدين أن يختار منالشاعر الفرد محمد علي ابوقطاطي مربعين يقول في احدهما.

شَعْرك مُنْتَظمْ زَيْالسَلاَسلْ فَتْلُو

وعِينك تَرقصْ الحَجَرْ إنْ بِقَتْ شَافَتْلُو

الطاؤوسةقَاصْدَه مَشِيَك ومَا عْرفَتْلُو

وأعصَابْ الزآكْ إتكهربَتْ تِلْفَتْلُو

ومنأجمل ما عنده من شعر أضاف الملحن والشاعر علاء الدين مربعين للأغنية يفسدهما الشرحوالتحليل يقول في الأول:

كِوْني حَلِيفُو مَالُو عَليَ بِعْلِنْحَرْبُو

طَالِعْ سَعْدُو في شَرْقوُ وَمُنَوِّرْ غَرْبُو

سَيَانْ عِندٍيوَاحِد بُعدْوُ أوكَانْ قُرْبُو

مَا بَارَحْني في مُرُورْ النَفَسْبَشْعُرْبُو

ويقول في الثاني:

مَمْشُوق القَوَام الما وَجَدتَنَظِيرُو

خِصَامُو مَعَايْ أَخيرْ ليَّ مِن مِحَنَة غَيرُو

جَافَاني العزِيزْالكُتَّ ديمة نصيرو

هو يسوي الغلط وانا اسوي كتر خيرو

ان ما أصابه الاستاذعلاء الدين من نجاح بأغنية يا مولاي يعتبر بكل المقاييس فتحاً جديداً للعودة الىالجذور والى ابقاء الدوبيت كما كان دائماً في وجدان الامة وروح الشعب واثباتاًلرفعة جماله، وهذا ما يدعوني لتجديد دعوتي القديمة بان يعتمد فن الغناء السودانيفيما يعتمد على الدوبيت، وفيه متسع للجميع، ويسرني بصفة خاصة انني قد اخترت من رياضالدوبيت ازاهر مهداة للفنان الكبير الكابلي الذي لا ينكر احد انه من اوائل الفنانينالكبار الذين موسقوا الدوبيت، وتلبية لرغبته فان اختياراتنا بطرف الصديق العزيزوالاعلامي الكبير عمر الجزلي الذي ادعو له ولإبن عمتي الشاعر الرقيق عمر محمود خالدبعاجل الشفاء وأبشر الفنان الكابلي ان اختياراتنا ضمت ملحمة شيخ الشعراء الشباب جبرالدار محمد نور الهدى الحماسية والتاريخية.

 

 

الهوامش:

1- راجع اوزان الدوبيتالسوداني للبروفيسور محمد الواثق- بحث- مجلة مجمع اللغة العربية العدد الرابع 2000م.

2- للوقوف على بقية المحاور راجع مخطوطنا (نظرات في الهمبتة والدوبيتالسوداني) الباب الثاني الفصل الأول.

3- راجع كتاب دوباي للطيب محمد الطيب وكتابالشعر القومي في السودان للدكتور عز الدين اسماعيل.

4- الرد: بكسر الراء هوالمكان. الانيس: المحبوب.

5- الريم: بفتح الراء ضرب من النسائم المنعشة.

6- تملي: دائماً.

7- كفح: الكفح هو الاستعمال واتت هنا بمعنى الشرب بشراهة اواستعمال الماء بكثرة وشربها.

8- الطريفية: الظبية.

9- الضريح: هو ما يبني علىقبور الأولياء والضريح في الأصل هو القبر وجاءت كلمة الضريح هنا كناية عن ممرح بلدالشاعر ومنزلة احبائه.

10- الفاطر: هو الفم. البدودي: هو الرعد بصوته وارزامهوقد يصاحبه برق قوي أبيض والشاعر هنا يشبه اسنان محبوبته ببياض البرق.

11- أفلج: متباعد الأسنان. الكرن: عادن.

12- عكل: تكاثف وإنعقد وفاح.

13- اللهج: اللهجهو الحديث الرقيق وقد يعني الثغر.

14- المردا: التي لا يحمل وجهها شلوخاً. المخلوق: الناس.

15- نوسر: نوسره المرض اهزله واضعفه ونوسر الجرح فسد وبدأ اللحمفيه يتفسخ.

__________________

بلداً قوي ومقدام .... زيَّك حرام يِنضام

عمر الكردفاتى [omer_kordofani@hotmail.com]

 

آراء