خواطر سودانية (16) …. بقلم: بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
gibriel47@hotmail.com
الشك والتفنيط
وصل المؤتمر الوطني الحاكم إلى مرحلة (الشك والتفنيط). هذه المرحلة هي مرحلة الإفلاس في تاريخ حكومات السودان. فقد بدأ هذه العادة الذميمة الحزبان الكبيران، الأمة والاتحادي، كالعادة. وأتقنها الجنرال نميرى، عليه رحمة الله.
ففي أواخر ما يسمى بثورة مايو، أفلس الاتحاد الاشتراكي في إيجاد وجوه جديدة لكراسي الحكم بعدما استنفد كل أساتذة الجامعات ومرتزقة الوظائف الحكومية والإستوزار. فلجأ إلى لعبة (الشك والتفنيط) أي تبادل نفس الأشخاص للأدوار والوزارات والمهام. فصرنا عندما نسمع بتشكيل وزاري جديد لا نهتم كثيرا لأن النتيجة معروفة سلفا. فشك الورق وتفنيطه عادة حذقها الجنرال بدرجة لا تصدق.
كان بعض وزراء حكومة مايو سيئة السمعة يفاجأون بعزلهم من مناصبهم وهم في طريقهم إلى مدني أو إلى بورتسودان في مهمة رسمية فيحبطون ولا يدرون ماذا يفعلون!!! ويبدو أن الجنرال كان لا يشاور أحدا في لعبته المفضلة. ويقال أن الجنرال كان كثيرا ما يلجأ إلى تسديد اللكمات إلى بعض الوزراء (المحترمين)!!!
ألا رحم الله ذلك العهد العميل ورموزه العملاء لحكومة مصر التي صنعت ثورة مايو بضباطها الأحرار. فقد طبق جمال عبد الناصر-عليه رحمة الله - فلسفة ما يسمى (بالضباط الأحرار) على الوطن العربي كله فأثارت رياح تغيير عاصفة أتت بكوارث قيادية على الوطن العربي. فقد أتت بالقذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وحافظ الأسد في سوريا، والمرحوم صدام حسين في العراق، والمرحوم هواري بومدين في الجزائر وفشلت في الإتيان بضباط أحرار بدل النظام الملكي في السعودية أيام العاهل الإسلامي الكريم فيصل – عليه رحمة الله.
لقد كان الهدف من كل تلك المحاولات التي قام بها جمال عبد الناصر هو تحقيق القومية العربية المزعومة. لكنه نكب العالم العربي بحكام كانوا أكثر إيلاما من نكبة عام 1967. ولا تزال البقية الباقية منهم تواصل إيلام الأعراب!!!
فمن يشاهد تشكيل حكومة الإنقاذ الأخيرة التي حصلت على شرعية انتخابية – مشكوك فيها – يعلم تماما مدى حذقها أيضا للعبة (الشك والتفنيط). فقد طالعتنا نفس الوجوه القديمة التي كنا نرجو أن تختفي من الصف الأول وتسدل ستارا على الماضي السيئ لثورة الإنقاذ.
ولكن يبدو أن من بيدهم خيوط اللعبة يصرون على أن يأتوا إلينا بنفس الوجوه وكأنهم يحرصون على تذكيرنا بالماضي السيئ، رغم أن الشعب السوداني - الذي يقال بأنه صوت للمؤتمر الوطني بالأغلبية الساحقة في الانتخابات الأخيرة - كان يأمل أن يرى وجوها جديدة في العهد الديمقراطي الجديد تختلف كما وكيفا عن الماضي الاستبدادي الديكتاتوري.
عندما أصدرت مجموعة من الإنقاذيين (الكتاب الأسود) اختلفنا كثيرا، بين مؤيد ومعارض، حول ما تضمنه ذلك الكتاب، رغم أن من أصدره كان أكاديميا للحد البعيد في رصد الحقائق وتتبعها وتحقيقها. وأثار ذلك الكتاب ضجة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث.
لكن تأكدت حقائق الكتاب الأسود الآن. فالمجموعة (الثلاثية مع الجنوبيين) التي استأثرت بالسلطة طوال عقود زمنية والتي أشار إليها الكتاب لا تزال هي هي وبصورة سافرة في حكومة الإنقاذ المنتخبة. فلا زلنا لا نرى وجوه (الغرابة) ولا (أدروب) في المناصب الوزارية الاتحادية. واستأثرت تلك الوجوه التي أشار إليها الكتاب الأسود على كل السلطة المركزية كالعادة، وهو ذات السبب الذي دعا (الغرابة) و (أدروب) لحمل السلاح والتمرد ضد الحكومة المركزية المتسلطة في الخرطوم.
فالثلاث مجموعات لا زالت تفرض نفسها على الحكومة الاتحادية وتستأثر بكل الوزارات المهمة. وظلت المجموعتان الكبيرتان المتنافستان فيما بينهما تستقطبان أفرادا من المجموعة الثالثة الأقل عددا في المناصب الحكومية. ولم تهتم حكومة الإنقاذ بوضع بعض الوجوه ( الغرباوية) أو (الأدروبية) كديكور (مثلا) في بعض الوزارات المركزية.
يعود ذلك لواحد من سببين أو كليهما: إما أن تكون حكومة الإنقاذ المنتخبة لا تكترث كثيرا بمجموعات (الغرابة) و (أدروب) وتصر على ذات الطريق المؤدي إلى حمل السلاح ثانية، وإما أنها استمرأت حكم البلاد وحدها ولم تعد ترى غير وجوهها (البهية) الملائمة فقط لتولي الوزارات المركزية (والما عاجبه يشرب من البحر)!!!
وهناك بعض الوجوه (الغرباوية) و (الأدروبية) التي منحت مهاما متكررة في الحكومة المنتخبة. فهذه الوجوه هي في الحقيقة وجوه لا (تهش ولا تنش) ولا خوف منها ووجودها كعدمها فلجأ الإنقاذيون إلى وضعها كتكملة عدد وديكور.
نهجت حكومة الإنقاذ منذ اليوم الأول لتوليها السلطة بانقلاب 30 يونيو إلى إبعاد (الغرابة) و(أدروب). فقام شيخهم الكبير ومهندس الخطط الشيطانية بإزاحة وتصفية العسكر الذين شاركوا في الانقلاب والذين كانوا ضمن أعضاء ما يسمى بمجلس الثورة.
ومنذ ذلك الوقت لم نعد نرى أو نسمع بأفراد من (الغرابة) و (أدروب) في مجلس الثورة، لا من قريب ولا من بعيد وكأنهم لم يشاركوا في صنع هذه الثورة التي استأثرت بها وجوه جديدة أتت متأخرة كالعادة.
يستغرب المرء لماذا الإصرار على أخطاء الماضي التي قادتنا إلى حروب في جهات السودان الثلاثة؟!!! وبعد كل هذا نصم مجموعات (الغرابة) و (أدروب) المغلوبة على أمرها بالعنصرية. إنه لأمر عجيب حقا!!! لقد رمت المجموعات الثلاث بقية السودان بدائها (داء العنصرية) وانسلت!!!
وهناك بعض (الغرابة) من المخضرمين ممن عرفوا واشتهروا ببلاغة اللسان الفصاحة ومن المؤسسين لهذا التنظيم ولكن لا توكل إليهم إي مهام!!! فقد قام كبير الإسلاميين في بداية الإنقاذ بإبعادهم – لأنه لا يطيق رؤيتهم ضمن تلامذته - إلى سفارات دول عظمى وغيرها فكانوا ملء السمع والبصر وشرفونا أيما تشريف.
ولكن مجموعة الإنقاذيين التي تشكلت بعد تمايز الصفوف مع كبيرهم وانشطار المؤتمر إلى وطني وشعبي، عادت (بالغرابة) المخضرمين إلى سياسة كبيرهم الذي علمهم السحر، وحرمت هذه الوجوه – غير البهية في نظر الإنقاذيين - الإطلالة على الجمهور السوداني ولا ندري السبب!!!
كسبت مجموعات (الغرابة) و (أدروب) حكم أنفسها بأنفسها في هذا العهد الديمقراطي الجديد. فهذا العهد الجديد يعد ثمرة من الثمار المرة لاتفاقية الخزي الشامل بعد كفاح مسلح طويل خلال عقود من الزمان ، وسيكون انفصال الجنوب الثمرة المرة الثانية التي تطرحها الشجرة الملعونة لهذه الاتفاقية العجيبة!!!!
لقد كنا نتمنى في هذا العهد الديمقراطي الجديد أن نرى الكثير من التسامح!!!. ولكن وللأسف لا زالت مجموعات الغرابة وأدروب (مهمشة) من المناصب الوزارية الاتحادية المركزية المهمة. ويبدو أن هذه المجموعات الثلاثة المستأثرة بالسلطة أنطبق عليها قول المصريين (بتخاف ما تختشيش). وقد بدا ذلك جليا بعد اتفاقية الخزي الشامل مع الجنوبيين الذين حصلوا على ما يريدون (حمرة عين) من مجموعة (الجلابة)، كما يقول الجنوبيون.
علينا أن ننتهج نهجا خلاف الذي نراه أمامنا الآن. وأن نتعلم من دروس الماضي القريب، وإلا فلا نلوم إلا أنفسنا!!! ولا يخفى على الناس أن نيران الحرب في دارفور لا تزال مشتعلة ولن نستطيع إطفاءها إلا بالحكمة والمعالجات السياسية.
فلو ثار بركان الغضب (الغرباوي) فلن نستطيع السيطرة عليه. وهذه حقيقة يجب أن يدركها الذين لا يعلمون الكثير عن التعداد السكاني والتركيبة السودانية في الغرب. فمدينة نيالا وحدها تقل أو تفوق في تعدادها السكاني المليوني(2.000.000) نسمة. وهذا التعداد يفوق تعداد سكان ولايتي نهر النيل والشمالية مجتمعين. ولنا في سلسلة الحروب التي امتدت من الاستقلال إلى الآن عبرة وعظة!!!
كما وأنه ما عادت مقولة (البجي من الغرب ما بيسر القلب) صحيحة. وهي طبعا مقولة مصرية لكل غريب غزا مصر من غرب أوروبا (الإنجليز والفرنسيون). هذه المقولة استخدمها الوسط الجغرافي السوداني الظالم لفترة طويلة على كل (الغرابة) بلا استثناء. فلو تأملنا مدى تغلغل هذه المجموعات في النسيج السكاني للعاصمة لتريثنا وأمعنا النظر كثيرا.
فقد نجحت مجموعات من (الغرابة) تجاريا وأكاديميا ومهنيا وأمسكت بمفاصل اقتصادية كثيرة. وتزوجت حتى من ( الجلابة) – الأخوة الأعداء -حسب تسمية الجنوبيين. وشيدت الكثير من المساكن المعتبرة في قلب العاصمة السودانية. وسبق أن قالت البنات في الدلوكة (العرس يا ود غرب أو مغترب)!!!!
لقد كان العسكر يستهينون دائما بهذه الحروب المحلية التي برعوا في إضرام نيرانها وتأجيجها بلا فائدة. استهنا بحرب الجنوبيين – برغم أنهم أقل من مجموعة الغرابة. ولكن حرب الجنوبيين أتت على الأخضر واليابس خلال عقود زمنية طويلة ووصلت بنا إلى منبر التصالح وبإدخال أطراف خارجية أملت إرادتها علينا.
وتسببت تلك الاتفاقية الشؤم بقسمتها الضيزي بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وإخراج بقية المجموعات السكانية السودانية منها صفر اليدين بإشعال نيران الحروب في الشرق والغرب. وسنقطف ثمار ذلك التدخل الخارجي في بداية العام القادم عندما ينفصل الجنوب.
وقديما قال الشاعر:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد
ولنقد الذات بقية إن شاء الله......