الباتره والزاوية القائمة! … بقلم: د. احمد خير/ واشنطن
فى حياة كل منا شخصيات لابد والتوقف عندها لسبب من الأسباب.
فى بداية سبعينيات القرن الماضى كان النقيب/ الباتره هو الضابط المسئول عن التدريب. كان الباترة من الضباط القلائل العاملين بكلية البوليس منذ نشأتها لذلك كان له وضعية خاصة بين بقية الضباط أعضاء هيئة التدريس بالكلية.
كنت تجده عند الصباح الباكر ببذته العسكرية يراقب سير تدريب الطلبة الجدد .من سوء حظ ( أو من حسن حظ) الدفعة الجديدة (26 ) أن جميع الطلبة الجدد فيها كانوا من خريجى الجامعات. ولما كان عهد الكلية أن ينضم إليها الطلبة بعد إكمالهم للمرحلة الثانوية مباشرة ، رأى العهد الجديد أن يطور المستوى للوصول إلى الغاية من تخريج متخصصين فى المباحث الجنائية وإيفادهم فور تخرجهم إلى ألمانيا لتلقى دراسات عليا .
أخذ الباترة على عاتقه تخريج تلك الدفعة فى مدة عام واحد بدلا عن المدة المعتادة التى كان مقدارها عامين .من يلاحظ معاملة الباترة لتلك الدفعة ربما يظن أن بينه وبينها تار بايت. كان يأتى بالقرب من أحدهم ويضرب بقبضته على بطن الطالب قائلاً: إشفط كرشك دى العملتها من موية الثلاجة البارده !
كان الباترة يقف وينادى: طالب .. إرفع كراعك زاوية قائمة 45 درجة . رد عليه: أحدهم: الزاوية القائمة مقدارها 90 درجة. إستنكر بشدة أن يرد عليه أحد حتى وإن كان يخالفه الرأى ! توجه إلى مصدر الصوت وتوقف بجانب الطالب وقال: قلت شنو!؟ ردد الطالب ماقاله بشأن الزاوية القائمة وكأنه قد وجد ماينتقم به من ما كان يعتبره عجرفة الباتره .
تعليق الطالب الأول إعتبره الباترة خروجا عن المألوف . والمألوف هنا أن على الطالب أن يستمع فقط ويطيع وليس له الحق فى الإعتراض مهما كانت الأسباب! ولكن من قال أن التحول من الوضع المدنى إلى الوضع العسكرى بالشئ الهين!؟ طلب النقيب الباترة من الطالب المتدرب الإستدارة إلى الخلف ثم السير مباشرة إلى مكتب سيادة عميد الكلية.
نقر الباترة على الباب وتقدم نحو العميد ووقف إنتباه أمام العميد محيياً وبجانبه وقف الطالب إنتباه بدون تحية حيث أن العرف العسكرى يفرض على الضابط الأعلى التحية وليس على الأقل رتبة .
نظر العميد إلى الطالب من تحت نظارته السميكة ثم قال: مالو ده !؟ رد الباتره: مخالف للتعليمات يا أفندم . سأل العميد الباترة عن نوع المخالفة؟ رد الطالب: سيادة النقيب قال ان الزاوية القائمة هى 45 درجة ! علق العميد: طيب مالو( أشير هنا إلى ان سسيدة العميد حائز على ليسانس الحقوق فى القانون) ثم أردف مخاطبا الطالب قائلاً:إسمع أنا كنت من ضمن الدفعة الأولى فى هذه الكلية وتخرجت فيها والزاوية القائمة كانت ولازالت 45 درجة وإنت ماشى تتخرج والزاوية القائمة 45 درجة ومادير أشوف وشك هنا تانى مفهوم ؟ رد الطالب: مفهوم سيادتك ! وبها إنتهت المقابلة .
بعدها بدأ الباترة يردد كثيرا " إرفع كراعك زاوية قائمة 45 درجة . وتخرجت الدفعة متناسية كل ماتعلمته فى المدارس العامة والجامعة بأن الزاوية القائمة مقدارها 90 درجة وتقبل زاوية الباترة الأقل بـ 45 درجة.
تمر الأيام ويقيم نفس الطالب(الضابط) مع بعض من أفراد دفعته بالسكنات بالكلية معتقلاً بعد إنقلاب يوليو المسمى بإنقلاب هاشم العطا. فى صبيحة يوم من الأيام ساقته قدماه إلى مكان تدريب الطلبة الجدد. ومن ما أثار شفقته أن بتلك الدفعة كانت هناك 13 فتاة متدربة . وعينك ماتشوف إلا النور . الباترة الذى لم يروق له الطلبة من خريجى الجامعات. كيف يتعامل مع الطالبات . كان دائما مايردد: العسكرية ماساكت ! كل من هب ودب عايز يبقى عسكرى!
ثم جاء دور " إرفع كراعك زاوية قائمة 45 درجة . وبالطيع لم يعجبه طريقة الطالبات فى رفع الكراع . فجأة ينقلب إلى شخص آخر! " أنا قلت إرفع كراعك 45 درجة ثم يفرد ذراعيه ويقول: فى الـ ...... ترفعوها كدى وهنا ماقادرين ترفعوا رجليكم! يهز رأسه معلقا: الله يلعن اليوم الورانا فيهو الحريم دخلوا العسكرية ! من الغريب أن معظم تلك الدفعة من الفتيات لم يتحملن تعليقات الباترة وفضلن ترك الكلية !
هنا يجب أن نقر بأن الضابط الباترة كان من ضمن الضباط القلائل الذين عشقوا العمل العسكرى . ومن العجب العجاب أن ترى النقيب الباتره يبكى بدموعه عند حفل تخريج اية دفعة من الكلية .
ألا رحم الله الباتره وأسكنه فسيح الجنان . لقد بذل الجهد والعرق لخدمة بلاده بالطريقة التى كان يراها هى الأفضل ومهما تكن المنغصات!
Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]