بشرى ود البطانة الشاعر التقليدي المجدد …. بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 


asaadaltayib@gmail.com
{نتعرض اليوم لسيرة شاعر قومي شاب قمين بالتعريف وهو شاعر شق طريقه نحو القمة بقوة واقتدار وصنع لنفسه نجومية طاغية فهو يجيد شعر الدوبيت وله شعر عامي مشهور وفصيح جيد وغنائي ممتاز وهو يقول الشعر في كثير من مواضعه في جرأة غريبة ولغة محببة لطيفة، وود البطانة يخلط في شعره العامي بين لهجة أرض البطانة البدوية وهو متمكن منها وبين الألفاظ المدنية مما يعطيه نكهة خاصة ومميزة وقد برز مؤخراً في مقدمة الشعراء في أرض البطانة لذا لم يكن غريباً عندما فاز بالمركز الأول في مهرجان سحر القوافي ونال جائزته عن جدارة واستحقاق، وفي إطار إهتمامنا بالأدب الشعبي وشعرائه نخصص مقالتنا اليوم عن هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس}.
إسمه (يشرى إبراهيم محمد علي) واطلق عليه اسم (بشرى ود البطانة) في التجمعات الأدبية في الجامعات والمعاهد العليا حيث ينشط فيها. ولد في قرية (قريقس) من ضواحي مدينة (حلفا الجديدة) على ضفاف نهر (أتبرا) في عام 1975. ينتمي إلى قبيلة الشكرية فرع (الدحيشات). ولشاعرنا بشرى مجادعات ومساجلات شعرية مع أقرانه من الشعراء الشباب من أبناء جيله كالشاعر
(بيتاى) والشاعر (حسن قريقس) والشاعر (ود حسب ربه) وغيرهم. وود البطانة ليس شاعراً فحسب فهو متعدد المواهب يغني بصوته الجميل ويأخذ مستمعه بنميمه إلى أفق يمتلأ عن آخره بالشجو والشجن كما أنه خطيب له صوت جهوري وتخرج الحروف والكلمات والألفاظ من فمه واضحة جلية كما أنه باحث ومن جيدي رواة الشعر في أرض البطانة مما أكسب موهبته الشعرية نمواً وتطوراً واضحين. درس المراحل الدنيا في قريته ثم بمدارس حلفا الجديدة الثانوية التي أهلته للإلتحاق بجامعة الجزيرة حيث تخرج فيها من قسم الحاسوب.
بدأ نجم شاعرنا بشرى يبزغ منذ إهتماماته الأولى والواضحة بشعره فهو دائم التجويد له ومن المؤمنين بضرورة إصدار شعر أرض البطانة في دواووين شعرية وسعى لكل ذلك في المهرجانات الشعرية التي يؤمها ويتصدرها وفي وسائل الإعلام المختلفة والمنتديات الشعرية المتعددة خاصة في مدينة الخرطوم التي يقيم فيها الآن، وقد صار يشرى أول الشعراء المطلوبين في المنتديات فقد صارت له شعبية طاغية والإعلان عن اسمه يعني إمتلاء المقاعد في أي منتدىً شعري أو تجمع أدبي. ورغم كل ذلك لم يصدر لشاعنا بشرى ديوان شعري إنما صدر له إلبوم شعري بصوته يحوي بعض أشعاره. يهتم شاعرنا (بشرى ود
البطانة) بشعر الغزل ويكثر من قوله كعادة جيله من الشعراء الشباب ومن جيد شعره في الغزل قوله:
تلفاً بادي في جسمي وحَشاي منحولْ
حيَّر نفسي في نفسي وبِقيت مزهولْ
لغزاً جد يا بيتاي بدور لُو حُلولْ
عقلي يطيع الهي وقلبي يعبد زولْ
ومن شعره في الغزل الذي يميزه عن غيره من الشعراء بجدته وجرأته قوله:
أنا كان عندي والي ولا صاحبي صَليحْ
كان جنزرني ما دام عقلي ماهو نصيحْ
بقيت في صلاتي بزَّكَّر هواها واصيحْ
أنِمْ في الركعتين والباقي اتمو نَويحْ!!
وفي الحب والعشق نرى دوماً في وجه بشرى مسحةً من الحزن والأسى خاصةً عندما يعود ويغترف من قاموس شعر أرض البطانة، فتعالوا الآن ونراه حينما
يقول:
خَتفي الحرقصن قبله ومزنهِنْ رَشَّه
دَغدغْ مُهجتي وضرع الموايق بَشَّه
ريدي وحاةْ سبيباً فوق قُصارِك نَشَّه
ما خَلفلِي غير طاعون وروح من قَشَه!!
وتستمر أحزان شاعرنا بشرى الغزلية وأحلام حبه المنهوبة بألم الفراق:
سَماحة البُقعه والغَوشْ المَلونْ زِيفْ
ما بنسوني مريودي الطبيعه ظريفْ
حالي الليله من فَرْقَ المَلمُو عَفِيفْ
حال فرعون بعد ما موسى وصل القيفْ
وبشرى في غزلياته يستفيد أيما إستفادة بثقافته العامة وثقافته القرآنية ويوظفها في شعره في مواضع مناسبة فتضيف لمربعاته الشعرية ألقاً وفخامة وقد رأيناه في المربع السابق يشير إلى قصة موسى وفرعون وسنراه يختتم في مربعه الغزلي التالي بإقتباس لفظي قرآني جاء في موضع سليم، يقول:
روعَه أراهُو كَفَّه وكَفَّه باقي الغَوشْ واروع منو كونو يراني شيى مَتْلُوشْ ما بنساكي قول لام قُرقداً مَرشُوشْ لامِن تصبِح الجَبَّال عِهَنْ مَنْفُوشْ ولا تخلو أشعار بشرى الغزلية من الطرافة التي تضع دون أدنى شك إبتسامة عريضة على وجه المتلقي، يقول:
فاجعني الزمانْ يا عَماره الله يقدِو
ولحسةْ كُوع بِقَتْ شَوفة البهتف خَدُو
أنا حارس الديار يا شيما أهلك شَدُو
خَلو عَقابْ نَعَلَّتْ كل ساعه بَعِدُو!!
وتستمر الطرافة في شعره الغزلي وهو يتحدث عن الفراق وآمال الوصال:
تَواريبْ لِيمنَا كل خريف بِتبطُل كَافْيَه مِتَينْ يَصْدُفْ مَسَورْنَا تفتكرنا الجَافْيَه نِتلقاهَا بى لَهفةْ عُقولاً وَافْيَه رِجلاً رَاكبَه في نعالينْ ورِجلاً حَافْيَه!!
والفراق عند شاعرنا بشرى قلقٌ يعبر عنه في لطف خاصة عندما تجتاحه تلك الذكريات المحببة إلى نفسه والتي يود أن يعيدها حية لا أطيافاً تتراقص أمامه. يقول وهو يستفيد من أحد الأمثال الشعبية السودانية:
بيتاي قولو قلبي الليله طاري نَدِيدُو
واضحتْ حَالي زي حَالْ المَتَلَتْ قَيدُو
لَيْ أمل الرجوعْ والماضي تاني أعيدُو
ولا حكايتي زي جمل الطِريفي وسِيدُو
ويقول بشرى وهو يصف كيف تمكن هوى إحدى تلك الظباء من قلبه:
ظبياً كان بيردنْ فَوقْ مَشَارْعِي ضَعَنْهَا زَخيرتُو الحيَّه في تَمْرَةْ فؤادي رَكَنْهَا عَلىْ المَاقَالُو خَرَتَتْ مِنْ وَلِيهَا رَسَنْهَا سَيْنَا مَسَاسَقْ النَمله المُوَاليا سَكَنْهَا كلما تضيق الدنيا بشاعرنا بشرى في شأن حظوظه الخائبة في العشق يخاطب صديقه الشاعر (بيتاي) لعله يجد عنده مواساة تريح قلبه أو مؤازرة تشفي
غليله:
عَاجَتْ الدُنيا واتبدَّلْ عَمَاري خَرَابْ نَكبةْ حَظْ وجَورْ أزْمَانْ ونَجْماً غَابْ غَرَزْ إيدي في النِعمه واخمُو تُرابْ أقِجْ لىْ القُمري يا بيتاي واقبضُو غُرابْ عندما أحس شاعرنا بشرى ود البطانة بتأثيره الشعري على الناس أضاف إليه ذلك واجباً اجتماعياً وسياسياً وهو شأن الشعراء الذين يحملون الرسالات الكبرى فوصل إلى تخوم الشعر السياسي والوطني فكتب قصيدة طويلة حول إدعاء المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فخاطب أوكامبو بقصيدة طويلة ألقاها مؤخراً إبان زيارة السيد الرئيس لقرية الشيخ الطيب (أم مرحي). قال في بعضها:
قُلنالكْ قِبيلْ أمْسِكْ قَرارَكْ لِمُو
ودَابُو جَغَمتَ مِنْ شَرَباً بِقِلبَكْ سِمُو اللسَدْ إنْ نَتَرْ صَعَبْ البِعَمْتُو ويْزِمُو والجَملْ إنْ قَدَلْ نَبَحِي الكِلابْ ما بْهِمُو

كانْ دَايِرْنَا نَسْتَسْلَمْ نَقُولَكْ شِيلُو نِتْمَشَطْ مَعَ الزَايدْ سَمَاحْ فَوقْ جِيلُو كانْ دَلَى النَجِمْ جَابْ القَمَرْ فَوقْ خَيْلُو مِنْ غَيرْ القَمَاحْ مَا بِلْقَى شِيتاً يِكِيلُو

وَحَاتْ الهَسِي نَازِلْ فَوقْ دِيارُم ضَيفْ شِيوخْ أُمَّرِحْ النُدَّرْ دَوَابِي القَيْفْ أندَه لَيكْ أَبُوىْ الطَيَّبْ يِسْخَى ويقيفْ يَحَرِقْلَكْ قَرَارُنْ ويَبْلَعُوهو سَفِيفْ

تذكرنا قصيدة أوكامبو بشعر بشرى في الفخر والحماسة وقد وقعت على المربع الأخير من قصيدته (عيد ميلاد) وهي قصيدة غاية في اللطف والطرافة فبشرى يمتزج كيانه بالبدوية التي لم تؤثر فيها المدنية رغم أنه متعلم وخريج جامعي فعندما دعته إحدى زميلاته إلى عيد ميلادها في واحد من أحياء العاصمة الراقية ذهب بهيئته البدوية الصارخة وهو لا يدري معنى عيد الميلاد ولا تلك الهدايا التي تحمل في مثل هذه المناسبات فكان وجوده في المناسبة محيراً للضيوف فوقعت مفارقات عديدة سجلها يشرى في قصيدته الجهيرة (عيد ميلاد) وعندما سألته إحداهن مستفسرة عن شخصيته رد عليها في نهاية قصيدته بما ينبئ عن الفخر:

أنا اللسدْ الحَرَسْ غَابتُو الضَرِيَّه
وانا الساعةْ الكِتَالْ بَخَتِفْ حِدَيَّه أنا الدَارِكْ عَدُوي طَابِقْلُو كَيَّه وانا الزَايِرْنِي ما بْجِيبْ ليْ هَدِيَّه

  تحدث شاعرنا بشرى في قصيدة طويلة له عن مأساة الطفلة (أم شوايل) صاحبة القصة المعروفة فقد مكثت (ام شوايل) عشرات الأيام في قعر بئر مع الثعابين والعقارب وعاشت في ذلك الجب بمعجزة وتم إنقاذها بمعجزة أخرى، كانت (ام
شوايل) طفلة غنامية أي ترعى الأغنام وكانت الأغنام ملك لوالدها وفي مرة ضاعت منها خمس نعاج فثار والدها في وجهها وضربها ضرباً مبرحاً حتى سالت دماؤها ولم يكتف هذا الأب العجيب بهذا العقاب الجسدي المؤلم بل خيرها بين أن يقتلها وبين أن يلقي بها في البئر اعتبرت ام شوايل أن هذا أمر من والدها وهي طفلة لا تعصي أوامر والدها ولا تزال تحبه فقالت له: إرميني في البئر يا أبي!! فوضعها على كتفه دامعة باكية فهي لا تقوى على السير وسار بها نحو البئر وكانت كلما تسقط منها دمعة أو يسيل منها دم على ملابس والدها كانت تعتذر وتقول له: (آ يابا أعفالي مليتك)!! وقد أحست هذه الطفلة النبيلة أنها تثقل كتف والدها فقالت له: أنزلني يا أبي فقد أتعبك حملي وسأسير معك راجلة حتى البئر!! وعندما اقتربا من البئر واحست (أم
شوايل) بدنو أجلها كانت توصي والدها وتقول له: الغنم لابد من وضعهن في زريبة والبهايم لابد لها من الظلال حتى تضمن ألا يضيع منها شيئاً والنعاج التي ضاعت مني أبحث عنهن في إتجاه موضع (ميلا) واحرص على باقي السعية وانفق منها في سبيل الله!! هذه الصورة جاءت في في قصيدة (أم شوايل) التي أبدعها شاعرنا بشرى وسمى بها ألبومه الشعري الذي صدر مؤخراً وقد رمز الشاعر لأم شوايل في قصيدته بإسم (ريَّا) وقال:
لفَحَّا ودَمْعَتَّا فَوقْ اكْتَافُو
وقَصَدْ البِيرْ في أتْعَسْ ليله
ورَيَّّا تْلَوِّحْ لىْ نْعَيجَاتا
ودَمْعَةْ شَوقْ لىْ كُلِ سِخَيلَه
بَاقي صُرَارَا لِسَّعْ لَيِّنْ
كَرَهَا كَبْشَهَا بَاقي بَلِيلَه
وكُلْ مَا تدَفِقْ دَمْ فَوقْ هِدْمُو
تَقُولْ لُو: آ يَابا أعْفَالِي مَلَيتَكْ!!
ودَلَنِي يَابا وخُدْلَكْ جَمَّه
وانا ببرَاكْ بىْ بَاقي الحِيله!!
وأَوَصَّكْ سَوْ لىْ غَنَمَكْ زَرْبَه
وبَهَمَكْ شُوفْلُو شِدَيرَه ظَلِيلَه
واسْرَحْ تَالا السَافِلْ خَرَّفْ
رُوغْ لىْ الرَاحَنْ جِيهَةْ مَيْلا
واحْرَصْ يابا عَلى بَاقِيهِنْ
وانْفِقْ وادي انشا الله قليله!!!
ولولا ما نحن محكومين به من مساحة نشر لأتينا بكل هذه القصيدة الرائعة التي حكت بشكل درامي مدهش ومؤثر مأساة الطفلة ام شوايل ولسودنا عشرات الصفحات عن هذا الشاعر الضخم.

\\\\\\\\\\\\

 

 

آراء