مع كمال الجزولي في مرافعة الختام الوطن يقف فوق أمشاطه على حافة الهاوية

 


 

 

حاوره: بهرام عبد المنعم
-1-
مقدمة
ألححت عليه بهمة لا تفتر لإجراء هذا الحوار .. وعندما وافق دعاني إلى مكتبه بشارع الجمهورية فأحسست «بالرهبة»، وعندما وصلت إلى المكتب وجدت نفسي متأملاً في الاستقبال، ومستنشقاً عبق بخور لبان «الجاولي» «والند» الذي أضاف إلى أجواء المكتب أهازيج الصوفية «ووقار» خلاوي جدودي في طيبة الشيخ عبد الباقي وأبو حراز بولاية الجزيرة .. ولفتت نظري عبارة «عفواً.. الزيارات الشخصيَّة بعد الساعة الواحدة» فقلت في نفسي إنه «النظام».. وفي الباب يواجهك «بوستر» عريض مطبوع عليه الباب الثاني من دستور جمهورية السودان لسنة 2005م «وثيقة حقوق الإنسان» وبالخط العريض في أعلاه «العدل لا يعني القسوة أو التعذيب» فقلت في نفسي أيضاً يا له من اختيار، وعندما نظرت إلى المكتب الصغير إلى اليمين واجهتني لوحة أخرى تزينها آية قرآنيَّة «وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».. وعندما دلفتُ إلى مكتبه الرئيسي هالني ما شاهدت من لوحات فنيَّة قمة في الروعة والجمال، ومكتبة مرصوفة بالكتب كثير منها منزوعة «الأغلفة» مما يدل على قيمتها وندرتها.. إنه مكتب الأستاذ المحامي كمال الجزولي الذي قصدناه في مرافعة نهائيَّة حول الاستفتاء ومستقبل السودان.
*ما هي السيناريوهات المتوقعة عند إجراء الاستفتاء؟
- أنا أتوقع إما أن تنكص الحكومة عن التزامها بإجراء الاستفتاء في موعده نتيجة لتأخرها في الإعداد له، أو أن تجريه في موعده مع الفشل حتى الآن في النهوض بواجب جعل الوحدة خياراً جاذبا، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى أن تكون النتيجة لصالح الانفصال. يعني سواء لم يجرِ الاستفتاء في موعده، أو أُجريَ وجاءت نتيجته لصالح الانفصال، فإنني لا أتوقع خيراً. بل حتى إذا جاءت النتيجة لصالح الوحدة فلا مجال لتوقع هذا الخير أيضاً من جهة ردود الأفعال المتوقعة، نظراً لحقيقة استقواء الانفصاليين، في غفلة من وحدويي الحركة الشعبية، وانفرادهم، عملياً، طوال السنوات الماضية، وحتى الآن، بالتحكم في اتجاهات الرأي العام الجنوبي عن طريق خطاب شعبوي يعتمد التحريض الغوغائي التهييجي! لذا، في كل الأحوال، ما لم يهتد الوحدويون، رغم ضيق الوقت المتبقي، إلى تدبير سياسي يتسم بحصافة في حجم المعجزة، فإن كل السيناريوهات لا تبشر بأي خير!
*هل يعني هذا أن الانفصال واقع لا محالة؟
- بالنسبة لي الانفصال أقرب إلى الواقعيَّة السياسيَّة، أعني من ناحية ما سيتم، من كل بد، وليس من ناحية ما أتمنى. هذا ما تؤكده الحقائق على الأرض، بالذات لأي مراقب يدرك، إلى حد معقول، أن الحركة الشعبية منقسمة، عملياً، بين تيارين: وحدوي وانفصالي فوحديو الحركة الشعبيَّة ظلوا، طوال الفترة الانتقالية، يغلبون بيروقراطية العمل الحكومي على دينامية النشاط الحزبي، ما قعد بهم، من وقت باكر، عن القيام، على مستوى الشارع الجنوبي، بأي عمل سياسي ـ ترويجي لدعم خيار الوحدة الذي هو خيار «السودان الجديد»، وجعله خياراً جاذباً في الوعي العام الجنوبي. بعبارة أخرى، ربما أكثر وضوحاً، فإن مسئولية وحدويي الحركة الشعبية أمام التاريخ هي أنهم، برغم إخلاصهم، نظرياً، لشعار «السودان الجديد»، إلا أنهم اتخذوا، عملياً، موقف الحياد من قضية «الوحدة» التي تمثل، في الواقع، روح «السودان الجديد»، وعجزوا عن مجابهة «الانفصاليين» داخل وخارج الحركة. فإذا أضفنا إلى ذلك النوايا السيئة التي ظل يضمرها الشريك الشمالي للحركة، منذ البداية، تجاه الوحدة، قبل أن يربك «النفط» حساباته، فإن النتيجة النهائية لا تكون، في الغالب، لصالح الوحدة.
* المؤتمر الوطني يراهن على مفاجأة الشعب السوداني من جديد في تحقيق الوحدة كما فاجأهم في تحقيق السلام وإجراء الانتخابات .. ما هو تعليقكم؟
- أولاً: المؤتمر الوطني لم يفاجئ أحداً بشأن اتفاقية السلام، ولم يفاجئ أحداً أيضاً بإجراء الانتخابات. فالظروف والملابسات التاريخية التي دفعت الحزب الحاكم إلى مائدة مفاوضات السلام التي أعدتها الإيقاد معروفة، ويعلم حتى راعي الضأن في الخلاء أن المؤتمر الوطني لم يكن لديه خيارا آخر سوى الجلوس إلى تلك المائدة، والقبول بما تمخضت عنه من مترتبات، رغم المصاعد والمهابط التي تعرض لها التفاوض، والتي كادت تضع الطرفين، أكثر من مرة، على حافة الحرب، لولا إحاطة الوسطاء وشركائهم وأصدقائهم بهم، لحظة بلحظة، إحاطة السوار بالمعصم، مما ساعد على تدارك المخاطر، وبلوغ الأمر مرحلة توقيع الاتفاقية. وعلى هذا فلم تكن ثمة مفاجأة ولا يحزنون.
ثانياً: الانتخابات أيضاً لم تشكل مفاجأة لأن إجراءها من لوازم الاتفاقية، بصرف النظر عن الشكل السيء الذي جرت به، والذي أفرغها من مضمونها. ينبغي التفريق بين قبول المؤتمر الوطني بالضرورة السياسية المفروضة عليه، والمتمثلة في إجراء الانتخابات، وبين نواياه السيئة التي اتجهت إلى تزويرها
كذلك ينبغي التفريق بين عقيدة المجتمع الدولي بشأن الديموقراطية، وبين الدور الذي لعبه بعض ممثليه، فعلياً، كشهود زور، خدمة لحسابات محددة تعتقد في إمكانية التضحية بالانتخابات على مذبح الاستفتاء,المهم أنه ليست ثمة مفاجأة لا في «اتفاقية السلام» ولا في «الانتخابات».
ثالثاً: الاستفتاء، من ناحيته، ليس محل مفاجآت .. يا أخي الوطن يقف الآن على أمشاط أقدامه في حافة الهاوية، وعلى النظام أن يتحمل كامل المسؤولية، كحركة إسلامية، وكمؤتمر وطني، وكنخبة حاكمة عن (إنقاذ) الوطن، حقاً وفعلاً، من الخطر الداهم الذي يتهدد وجوده نفسه، وأول ذلك إطلاع الشعب، بشفافية تامة، بالخطة التي يعتزم النظام تطبيقها على هذا الصعيد. أما الحديث عن مفاجأة سيفجرها المؤتمر الوطني في اللحظات الأخيرة، وما إلى ذلك، فهذا شغل «حواة» و»سحرة»، وليس شغل «سياسة»
*هل هذا مدعاة للتزوير؟
- لا أستبعد ذلك فأنا أعتقد أن الذين زوروا الانتخابات، بل الذين يشكل «التزوير» جوهر تدريبهم الأساسي، منذ المدارس الثانوية، فلا يستطيعون خوض أقل منافسة بدونه، وذلك بشهادة السيد المحبوب عبد السلام في كتابه الصادر مؤخراً، فوالله لا أستبعد أن يحاولوا اللجوء إلى التزوير في الاستفتاء أيضاً، اللهم إلا إذا صح أن حسابات المجتمع الدولي تتجه، هذه المرة، لمعاملة الاستفتاء بطريقة غير التي عامل بها الانتخابات .. وهذا راجح.
* هل في رأيك سيلتزم المؤتمر الوطني بإجراء هذا الاستفتاء في مواعيده المضروبة؟
- إذا ترك الخيار له، فما لم يحصل على إشارة جنوبيَّة قوية ترقى إلى الوعد القاطع والضمان الباتع بتخصيص «نصيب» له من عائدات «النفط»، فلا أعتقد أنه سيجري الاستفتاء في مواعيده، حتى ولو انطبقت السماء مع الأرض، بل سيماطل، وسيختلق شتى المعاذير حتى يتفادى مصيراً أصبح يشكل كابوساً له: إنفصال الجنوب .. بنفطه
*الرئيس الأمريكي باراك أوباما حذّر من المعوقات عند إجراء الاستفتاء ما هي أهمية تحذيراته تلك؟
- واحدة من أخطر المشكلات أن المؤتمر الوطني بسلوكه السياسي الراهن يفتح المزيد من الأبواب للتدخلات الأجنبية في شئون البلاد، وعلى رأسها التدخلات الأمريكية. وأنا لا أعتقد، من ناحية مبدئية، أن ثمة وطنياً واحداً يمكن أن يسعد بالضغوط الأمريكية، فحتى لو وقعت على أم رأس المؤتمر الوطني، فإنها ليست مناسبة لأي «فرح وطني»، بل، بالعكس، ينبغي أن يكون مدعاة لـ «تعاسة» مبهظة مشهد الضغط الغربي، الأمريكي خصوصاً، لتركيع المؤتمر الوطني الآن، نذير شؤم ضمني بتركيع الوطن بأسره، مستقبلاً، حتى لو زال نظام (الانقاذ). المعادلة الأسلم في رأيي، رغم ضيق الزمن، هي أن تصلح قوى المعارضة السياسية، بما في ذلك قيادات التيار الوحدوي داخل الحركة الشعبية، من أوضاعها الذاتية، فتؤهِّل نفسها لقيادة الشارع، بالتنسيق مع جماعات الضغط المدني، في اتجاه خلق حيوية في المناخ السياسي العام تجبر المؤتمر الوطني على ضمان إجراء الاستفتاء في مواعيده، والالتزام بنتيجته مهما كانت، سدّاً للذرائع الأمريكية.
* قضية ترسيم الحدود هل ستعيد البلاد إلى المربع الأول – مربع الحرب؟
- طبعاً لقد سمعت كلاماً كثيراً يحاول التقليل من أثر عدم ترسيم الحدود قبل الاستفتاء على نتيجته، ولكن، للأسف، لا شيء يستطيع أن يقنعني بسلامة حرف واحد من كل هذا الكلام أن تشرع في استفتاء الناس على الانفصال دون تحديد الرقعة الجغرافية التي ستنفصل، فأنت، بهذا، إنما توقد أولى الشرارات التي ستشتعل منها النيران الكبيرة!
*ما هي رؤيتكم لقضايا ما بعد الاستفتاء كالجنسية والنفط وتقاسم المياه؟
- دعني أكون واضحاً وصريحاً معك .. أنا، الآن، وعلى بعد أقل من مئة يوم من استفتاء يترجح فيه الانفصال، أنظر لهذه القضايا من خلال ما أسميه بنظرية «الهرم». ولعلك تذكر أنني سبق وأن تقدمت بمقترح «الكونفدرالية»، لا كتكتيك تفاوضي، كما كان الأمر في السابق، وإنما كبديل استراتيجي عن الاستفتاء نفسه، إنقاذاً لما يمكن إنقاذه من فرص الأواصر الشعبيَّة بين شمال وجنوب الوطن، وتعزيز احتمالات استعادتهما لوحدتهما حتى لو قدِّر لهما أن ينفصلا إلى دولتين، فنجعل من الانفصال، بذلك، أمراً مؤقتاً. لم يؤخذ بذلك الاقتراح في حينه، وضاع وقت ثمين، للأسف، تفاقم خلاله الشحن المعنوي على الجانبين، قبل أن تعود جهات كثيرة للحديث، مجدداً، عن «الكونفيدرالية»، ولكن بعد أن صارت فرص القبول بها أقل. من ثمَّ، وباستبعاد كلا إمكانيتي «الوحدة الكاملة» و»الكونفيدرالية»، لا تتبقى، في رأيي المتواضع، غير نظرية «الهرم» في مجابهة وضع بلغ من الدقة والتعقيد حدَّاً لم يترك فرصة للاختيار إلا بين أمرين لا ثالث لهما. ومع أن العنوان الأساسي لكليهما هو «الانفصال»، إلا أن المفاضلة بينهما تكون إما بين أن «تنفصل» الدولتان، من جهة «أجهزة الحكم» في «قمة» الهرم، إضافة إلى «الشعوب» في قاعدته، وتلحق بذلك الجغرافيا والموارد .. الخ، أو أن «تنفصل» أجهزة الحكم، فحسب، في «قمة» الهرم، بينما تستمرُّ علاقات «الشعوب»، في «قاعدته»، بحراكاتها، وتداخلاتها، وحواراتها، وتفاعلاتها الداخليَّة، وقواسمها التاريخية المشتركة، الأمر الذي يمكن تحقيقه فيما لو ألقت القوى الوطنية بثقلها كله خلف برنامج يستهدف، من خلال عمل جماهيري يومي، تعبئة الشارع، وقطاعات الشعب أجمعها، خلف مطالبة الطرفين بأن تشمل ترتيباتهما لمرحلة ما بعد الاستفتاء، فيما لو جاءت النتيجة لصالح الانفصال، إقرار مسائل كازدواجيَّة الجنسيَّة، وحرية التنقل، والإقامة، والعمل، والتملك، والتمتع بكل مزايا المواطنة في كلا الدَّولتين. ربما لا تحفل هذه الخطة، في البادي منها، بإضاعة الوقت المتبقي في محاولة تبدو مستحيلة لإنقاذ أجهزة وترميزات الحكم في «قمة هرم» دولة «السودان القديم»، لكنها، في نفس الوقت، تولي كلَّ اهتمامها، وتكافح بالإظفر والناب، لإنقاذ «قاعدة هرم» هذه الدولة، وهو، بلا شك، الأجدر بالعناية وسط ركام الزلزال.
*المؤتمر الوطني هل سيقبل بالانفصال ويتحمل وزر المسؤولية التاريخية حال وقوعه؟
- المؤتمر الوطني فرّط في السودان حتى الآن بأن قذف به في هذا الحريق الشامل، فماذا يهمه إذا انفصل أي جزء منه؟ من قراءتي لسياسة المؤتمر الوطني أخشى أنه، إذا اقتضى الأمر، وضاقت به الوسيعة، قد يذهب إلى حدِّ التشبث بحكم ولو «مثلث حمدي»
*إذن ما هو مصير البلاد الكُلِّي حال وقوع الانفصال؟
- أعتقد أن هذا الكيان الضخم الذي كان، حتى في ظروف ضعفه النسبي، يمثل شيئاً ذا قيمة بالنسبة لأفريقيا، والعالم العربي، بل والعالم الثالث كله، قد آل الآن إلى حالة من الضعف غير المسبوق. أما الانفصال، حال وقوعه، فسيفضي به إلى الحد الأقصى من الضعف، وسيقضي على ما تبقى له من قيمة تاريخية رمزية. أنا لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن أن يكون الأثر النفسي لدى الإنسان السوداني وهو يشهد الوطن «أشلاء». الوطن أصلاً، كما سبق أن كتبت في مناسبات مختلفة، علاقات بين آدميين، إن صحَّوا وصحَّت علاقاتهم هذه، صحَّ الوطن، أما إذا مرضوا، وساءت علاقاتهم، فلا تتوقع أن يبقى الوطن معافى، أو يرتفع له ذكر، دع أن يكون لديه أي تأثير في الوسط المحيط.
نقلا عن الأحداث

 

آراء