ضريبة الدقنية بجبال النوبة ظلم إجتماعى ومذلة إنسانية .. بقلم / آدم جمال أحمد – سدنى
( 1 – 2 )
ضريبة الدقنية بجبال النوبة ظلم إجتماعى ومذلة إنسانية ووصمة عار فى جبين القوى السياسية!! ..
برزت قضية جبال النوبة على السطح بصورة واضحة بعد إستقلال السودان ، لأن ما تسمى بالحكومات الوطنية والأحزاب السياسية وقياداتها التاريخية ، فى تلك الحقبة لم ترفع الظلم عن كاهل إنسان جبال النوبة ، حيث إستمر تحصيل ضريبة الدقنية بجبال النوبة دون سواهم من أبناء الوطن فى الشمال ، وهذا يعتبر نوع من التمييز السافر بين أبناء الوطن الواحد ، وأيضاً إستمرت سياسات المستعمر وقوانينه والتعامل مع أهل جبال النوبة بعقلية سياسة المناطق المقفولة ، وهذا ولد الغبن فى نفوس أبناء جبال النوبة.
ضريبة الدقنية كان مقدارها ستون قرشاً يدفعها الفرد نهاية كل عام ، ويدفعها كل من تنبت على دقنه شعرات ، أي أصبح رجلاً . ويلاحظ " من العجب أن تلك الضريبة البذيئة قد استمر العمل بها حتى إلي السنوات التي تلت الاستقلال " الذقنية نسبة الى الدقن أو الفكين كما يطلق عليها إذ كانت تعم اللحيين وهما الذقن واللحية فى اللقاء الذى خص به جريدة الخرطوم عن ذكرياته النضالية تناولها الأب فيليب عباس غبوش السياسى المخضرم والمدافع عن حقوق الإنسان النوبى فى جبال النوبة دفاعه عن ضريبة الدقنية التى كان يجبيها الاستعمار الانجليزى عن كل شخص تنبت له ذقن والتى إستمرت مع الحكومات الوطنية ، والدقنية ضريبة لا يعرف لها أصل ولا هي بالجزية المعروفة التى كان يدفعها أهل الذمة في الدولة المسلمة ولا هي ضريبة قانونية مستحقة بشروط الواجبات والحقوق على المواطن ، فلذلك تعتبر الدقنية واحدة من الجزاءات الأثمة التي فرضت على شعب النوبة دون غيرهم ، ولقد كانت مزلة ومهينة للإنسان النوباوي في وطنه وإذا اعتبرنا ذلك ضريبة وطنية فيكون النوبة هم أول من دفع الضريبة الوطنية، وتم إلغاء الضريبة بمجاهدات الأب فيليب عباس.
وتعتبر ضريبة الدقنية بجبال النوبة إحدى القضايا المحورية التي نالت معظم إهتمام المثقفين والساسة من أبناء النوبة ، و كانت ضريبة الدقنية التي تفرض على الإنسان لشخصه (على الرأس) منذ أيام الفترة الاستعمارية تخص النوبة دون غيرهم من إثنيات المنطقة وذلك بافتراض أن البقارة (الحوازمة والمسيرية) يدفعون ضريبة القطعان (لكونهم مربي ماشية) وأن الجلابة يدفعون ضريبة التجارة (الأرباح). أما النوبة فكان عليهم دفع ضريبة الدقنية وذلك لغياب القاعدة الاقتصادية التي تفرض عليها الضريبة أو هكذا كان افتراض المشرع الذي رأى أن الزراعة عند النوبة كانت إعاشية وأن الاقتصاد عندهم كان اكتفائياً بلا فائض تجاري يتيح فرض الضريبة عليه. ولكن ذلك المنطق يضعفه ولوج النوبة فى زراعة القطن تحت مظلة مؤسسة جبال النوبة الزراعية. وعلى كل حال لقد اعتبر الصفوة السياسية النوبية الصاعدة تلك الضريبة كدلالة على التمييز (الإثنى) زائداً أنها مهينة للكرامة النوبية والتي لم تلن مر عزيمتها رغم السحق الإستعمارى القاهر لإرادتها العسكرية فى ثورات الفكى علي الميراوى وثورة السلطان عجبنا وثورة تلودى وتلشى وتيمين وثورة المندل (عشيرة الشهيد عباس برشم فرح الذى إغتيل مع القائد حسن حسين عثمان عام 1976م ). وقد كان السحق الأكبر للنوبة نتاجاً لدورهم الفاعل في ثورة اللواء الأبيض 1924م بقيادة البطل على عبداللطيف والذى كان ينحدر لأب من جبال النوبة وأم من الدينكا وعبدالفضيل الماظ (نوباوى الأصل ) ، حيث اشتركت في ذلك كتيبة النوبة والتي كانت معزولة على أساس إثني من الكتائب العسكرية الأخرى ومركزها خارج مدينة شندى ، وذلك بقصد عزل النوبة من تيار الإسلام والعروبة حتى فاجأهم النوبة بتيار القومية السودانية العارم فى 1924م.
وعندما تم تكوين إتحاد عام جبال النوبة بمبادرة من أبناء جبال النوبة الأوفياء المخلصين لقضية المنطقة وأهلها ، وخاصة بعد أن أصبح المرحوم الأب فيليب عباس غبوش رئيساً لهذا الإتحاد ، لقد بدأ نضالاً شرساً ولا سيما بعد فوزه فى البرلمان ورفع صوته عالياً لرفع الظلم عن أهله بإلغاء " ضريبة الدقنية " ، وجهر بالقول السديد باإلغائها أولاً فأصبحت جل همه ، مما جعل الأب فيليب عباس غبوش أكثر الأعضاء جدلاً فى البرلمان ، ولا سيما وهو يرتدى طاقيته المميزة المصنوعة من جلد النمر إمعاناً منه فى إظهار الهوية الإفريقية ، ولقد إفادات الوثائق الانجليزية والسودانية التي عنيت بتوثيق مسيرة الراحل المعروفة بالمواقف السياسية والأدوار الحياتية المحتشدة ، تقول إنه في إحدى جلسات البرلمان في الفترة ( 1967 – 1968 ) وقف العضو فيليب عباس غبوش وهدد بمقولته الشهيرة: إذا لم يتم إلغاء ضريبة الدقنية المفروضة على النوبة فسيعترف النوبة بدولة إسرائيل الشيء الذي أقام الدنيا، وكان يريد من خلال ذلك التهديد أن يلمس على ذلك العصب الحساس في الوجدان القومي ليستدر عطف الحكومة والفاعلين فيها أو لإثارتهم وتنبيههم بأهمية الأمر حتى تلغى ضريبة الدقنية على النوبة (كرهاً أو طوعاً) خاصة وأنها تمثل البند الأول في أجندة اتحاد عام جبال النوبة والداعم الأساسي لشرعيته أمام جماهيره خاصة وهو القادم الجديد لأول مشاركة سياسية في البرلمان بعد عشر سنوات من الاستقلال، بعد حوالي اثنتي عشر عاماً من تصريح الأب فيليب غبوش هبط أنور السادات رئيس الدولة (ذات الفعالية السياسية والدولية الأعظم في المنطقة) في تل أبيب عام 1978 م ضيفاً عزيزاً على حكومة إسرائيل ولقد بارك الرئيس السودانى حينها – جعفر النميري – الزيارة علناً لتترى من بعد ذلك الإتفاقيات والصفقات السرية واحدة تلو الآخرى مع دولة إسرائيل لتتبرع الحكومة السودانية آنذاك بالدعم البشري وتقوم بترحيل الفلاشا الإثيوبيين إلى إسرائيل ، لكنه أتهم بالعنصرية البغيضة وبالجهوية ، ونعت تنظيمه بأنه واحداً من التكتلات الإقليمية العنصرية " أحزاب الجنوب ، مؤتمر البجا ، الأنقسنا ، سونى بدارفور " ، لا لشئ إلا أنه يطالب بإلغاء ضريبة الدقنية ويطالب بالخدمات الأساسية للمنطقة من " تعليم وصحة ومياه نقية للشرب ".
في عام 1964م تم تكوين اتحاد جبال النوبة والذي أضيفت إلى اسمه كلمة (عام) في 1965م في مؤتمر التنظيم الثاني بكادقلي. وذلك بعد النقد الذي وجه للحزب الوليد واتهامه بإقصاء الآخر الإثني في المنطقة (العرب) فأصبح اتحاد عام جبال النوبة وانضم إليه ناظر الرواوقة (الحوازمة) سعيد حامد اللكة وآخرون. لقد خاض الحزب الجديد أول انتخابات له عام 1965 وفاز بثمانية مقاعد فى البرلمان شغلها السيد فيليب عباس غبوش والسيد زكريا اسماعيل والسيد احمد الزبير النعمة والسيد قمر حسين رحمة والسيد بحر كريا الرضى وغيرهم. تلك كانت هى الفترة التى لمع فيها اسم فيليب عباس غبوش وأثير حوله غباراً كثيفاً من النقد والحوار والجدل. لقد كان عند الكثيرين شخصية مثيرة للجدل خاصة لكونه مسيحي والباعث الجديد لقومية النوبة في فترة ما بعد الاستقلال مما أثار خوفاً كبيراً عند الكثيرين على مستقبل الإسلام في جبال النوبة خاصة وهو الإقليم المجاور للجنوب الذي يخوض حرباً ضد الشمال بسبب غياب التنمية والمشاركة السياسية وبسبب الهوية أيضاً. كانت تحركات الأب فيليب داخل البرلمان وخارجه أظهرت قدراً كبيراً من التقارب بينه والسياسيين الجنوبيين. وكان بلا شك يسعى جهده للربط فكرياً ووظيفياً بين قضية النوبة (وجبال النوبة) وقضية الجنوب حتى يكتسب حراكه السياسي زخماً أكثر كثافة وأكثر فاعلية ليتمكن من تحقيق بعض المكاسب السياسية من جراء ذلك للنوبة وللإقليم. ربما رأى الأب فيليب في الدين (المسيحية) عاملاً لذلك التقارب المنشود مع الجنوب، أو في التقارب الإثني (حيث على الأقل كلاهما) لا ينتميان إلى عروبة أهل السودان، أو في التقارب الجغرافي أو لكون كلاهما أقلية (بمقاييس الحرمان من مصادر القوة والنفوذ) لا بالمقاييس العددية. وبالطبع كسياسي، لقد تحرك القس فيليب في إطار المتاح أمامه من الفرص إذ أن السياسة هي فن الممكن وأن الأحداث السياسية يجب أن تفسر في إطار تاريخيتها وزمانها ومكانها حتى تكتسب معناها الموضوعي ومشروعيتها وتبريراتها في رأي الفاعلين فيها وفي رأي المراقبين لها أيضاً. ولكن لقد سببت تلك التحركات والاستراتيجيات (التقارب مع الجنوب) الكثير من المتاعب والصعاب للأب فيليب غبوش إذ حالما أدت إلى انشقاق حزبه الوليد وقد انضم بعض نواب حزبه إلى حزب الأمة (زكريا إسماعيل، قمر حسن رحمة واحمد الزبير النعمة وآخرين) وبقى الجزء الآخر من العضوية تحت اسم جناح فيليب) الذي ربما شمله هو وبحر كريا الرضي وآخرون. وفى عام 1964 م وجد أذناً صاغية حيث تم إلغاء ضريبة الدقنية وكان ذلك نصراً مؤزراً لأهل المنطقة ، لكن لم يهدأ بال الأب المرحوم فيليب عباس غبوش بل كان مناكفاً فى البرلمان يطالب بالخدمات الإجتماعية والتنمية الإقتصادية المتوازية لأهل المنطقة ، فلم تجد أذناً صاغية ولا حياة لمن تنادى فى ذلك العهد من الذين يزعمون القومية.
بعد الإنجاز الكبير المتمثل في إلغاء ضريبة الدقنية على النوبة كان الإنجاز الأكبر بالنسبة للصفوة النوبية – رغم الانشقاق – هو بروز كيان سياسي يمثل أحلام وتطلعات ورؤى النوبة لقضاياهم ولطرائق حلها في إطار التعددية السياسية التي انتظمت البلاد بعد سنوات الحكم العسكري الأول . كان ظهور اتحاد عام جبال النوبة يعتبر إثراءاً للحياة السياسية في المنطقة وفي السودان خاصة من خلال دوره المتفرد في المطالبة بحقوق المواطنين المحليين في الاقليم ومهما اختلفت التقييمات، إلا أن المحصلة النهائية تشير إلى أن التنوع هو جوهر الحياة السودانية وانعكاس حقيقي للواقع السوداني، وأن تعدد المنابر السياسية حتماً هو اضافة وليس خصماً على الحراك السياسي وعلى مجمل العملية الديمقراطية والتي سرعان ما اجهضها العسكر بقيادة العقيد جعفر نميري والذي كدأب العسكر دائماً قد حل الأحزاب واجهز على الديمقراطية وتبعاً لذلك انصرف الجميع للعمل من تحت الأرض بمن فيهم الأب فيليب عباس غبوش، والله وحده يعلم إلى ماذا سيقود الحراك السياسي في غياب الأوعية والقنوات الديمقراطية التي أغلقتها الشمولية.....
كانت منطقة جبال النوبة مهيأة للتمرد والثورة والإنفجار العارم منذ وقت مبكر من تأريخ السودان الحديث بسبب المظالم الكثيرة المتتالية ، والتى بدأت بتجارة الرقيق وجلب الرجال الأشداء الأقوياء للجندية والذهب منذ العهد التركى المصرى ، ومروراً بالضرائب والأتاوات فى عهد الحكم الإنجليزى مما أدى الى ظهور بعض الثورات ضد الإستعمار والتى شهدتها المنطقة وأشهرها ثورة السلطان عجبنا فى عام 1917 م ، ومع إنتشار التعليم والوعي أدرك النوبة ضرورة تنظيم أنفسهم في جسم يمثلهم و أنشأوا في عام 1965 اتحاد عام جبال النوبة الذي طالب بالحكم الذاتي وبحقوق المواطنة المتكافئة وبإلغاء ضريبة الدقنية المذلة التي كان يدفعها النوبة ، وهي ضريبة على الإنسان وقد فرضها خديوي مصر ويبدو أنها استمرت إلى ما بعد الاستقلال وإلا فلماذا طالب الإتحاد الذي أسس في منتصف الستينات بإلغائها وقبل ذلك كان الاستعمار الإنجليزي قد ألحق الجبال وسكانها بقانون المناطق المغلقة عام 1922 وبذلك عزلت عن باقي أنحاء السودان ومنعت من الاتصال والتفاعل مع الشماليين وفقاً لمنشورالسياسة العامة للجنوب - 6 نوفمبر 1921م.
ولم ترتبط المنطقة بما حولها إلا حين بوشر بإدخال زراعة القطن إليها عام 1940م حيث مدت إليها شبكات المواصلات البدائية وبدأت تحظى ببعض الخدمات الأولية
الصورة غير واضحة لنا عن تفاصيل التنظيم القبلي الاجتماعي لتلك القبائل قبل قيام مملكة تقلي ولكن يمكن أن نتصور بشكل عام أنه مع تطور المجتمع الزراعي والرعوي ، وقياساً علي تجارب الشعوب الأخرى ، بدأ يظهر التفاوت الاجتماعي والطبقي والثقافي ، وظهرت فئة مميزة في تلك المجتمعات تجمعت لديها ثروات وفوائض من ثروة حيوانية ومحاصيل زراعية ، ومع تطور هذه العملية ومع دخول رجال الطرق الصوفية والدينية في عهد الفونج لتلك المنطقة (جبال النوبة) اعتنق بعض زعماء القبائل وغيرهم الإسلام وهكذا نسمع في القرن السادس عشر عن ظهور مملكة تقلي والتي عبرت عن مرحلة متطورة من التنظيم الاجتماعي ، حيث حدث تطور من تنظيم قبلي إلي تنظيم أوسع هو قيام مملكة ضمت عدداً من القبائل وتلك مرحلة متطورة في التنظيم الاجتماعي ، أي ظهرت سلالة مالكة حاكمة لها نفوذها الاقتصادي والسياسي والديني ، ولها جيشها ونظامها ، واستطاعت أن تبسط سيطرتها علي قبائل جبال النوبة ، ونسمع أيضاً عن علاقات هذه المملكة وحروبها مع سلطنة سنار أو الفونج . وعلي سبيل المثال غزا بادي أبو دقن (1644 - 1680) سلطان الفونج مملكة تقلي والجبال المجاورة لها بما فيها الداير وهزمهم وفرض عليهم الإتاوة السنوية . ويري د. يوسف فضل في مؤلفه: مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي (ربما كانت تدفع الإتاوة بالرقيق الذي كانت منطقة جبال النوبة مصدراً هاماً له).
كما كانت مملكة تقلي أيضاً تتعرض لغزوات منتظمة من سلطنتي الفور والمسبعات بهدف الحصول علي الرقيق ، ونفهم من ذلك أن منطقة جبال النوبة عانت من غزوات تجار الرقيق ، مما أسهم في تهميشها واستنزاف قدراتها الاقتصادية والبشرية ، واضطر المواطنون إلي حماية أنفسهم بالدفاع عن كيانهم ووجودهم والاحتماء بقمم الجبال ، مما أدي إلي عزلة سكان تلك المنطقة وأسهم في تخلفها ونشأت بذور التطور غير المتوازن.
ونواصل فى الحلقة القادمة ......
2 إكتوبر 2010 م - سدنى - استراليا
مركز جبال النوبة الأهلى للدراسات الإستراتيجية والتنموية