صحيفة السوداني… و ثورة أكتوبر المجيدة … بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 


تعاود صحيفة السوداني الصدور اليوم في حلتها الجديدة و لم يتبقي على الإحتفال بالذكري السادسة و الأربعين لثورة أكتوبر المجيدة سوي أحد عشر يوما فقط. أتقدم للشعب السوداني الأبي بالتهنئة الحارة بهذه المناسبة الجليلة التي أعادت له أغلي ما يملكه: الحرية و الديمقراطية. إن أحد أهم مقومات تلك الحرية يتمثل في حرية الرأي و الفكر، الذي تمثل الصحافة الحرة قلبه النابض و الرئة التي يتنفس من خلالها.
إن مسؤولية الصحافة في المجتمعات الحرة تعتبر جسيمة بحق. لذلك فقد أطلق عليها السلطة الرابعة، بالإضافة الى السلطات الثلاث الأخري التنفيذية، و التشريعية، و القضائية، أو صاحبة الجلالة، كما يحلو للبعض تسميتها، نظرا للهالة و القدسية التى تتمتع بها فى المجتمعات التي تعطيها حق قدرها. إن مسئولية الصحافة لا تتوقف عند نشر الآراء و الأفكار الحرة فقط، و لكن الأهم من ذلك هو الرقابة اللصيقة التي تفرضها على أداء السلطات الثلاث المشار إليها، وكشف جميع الممارسات المنافية للقوانين و التشريعات المعتمدة من قبل الجهات المختصة و السارية في البلاد. تتمتع الصحافة في المجتمعات الحرة بكافة الحقوق التي تمكنها من لعب هذا الدور بكفاءة عالية. وفي سبيل ذلك ليس هنالك من هو فوق القانون، بدءا من رأس الدولة و حتي أصغر مسؤول في العمل العام.
هنالك مستويات كثيرة و متعددة للدور المحوري الذي تلعبه الصحافة في بناء الأمة و المجتمع، لكن أهمها على الإطلاق يتمثل في الدور الذي تلعبه الصحافة لمراقبة أداء الجهاز التنفيذي. تلعب الصحافة الحرة هذا الدور ليس من منطلق التشهير و إشانة سمعة تلك الأجهزة،أو القائمين علي أمرها، بل من واقع إصلاح أخطائها وتصحيح مسارها إن هي حادت عنه، مما يحدث ضررا بليغا بالمصلحة العامة و خدمة المجتمع، المهمة الأولي لأي جهاز تنفيذي حكومي. لذلك فقد دخلت الصحافة الحرة في معارك كبيرة و ضخمة ضد تلك الإنحرافات، و أعادت تلك الأجهزة الى مسارها السليم في كثير من الأحيان وفي العديد من البلدان التي تحترم وجود الصحافة الحرة و تقدس دورها في المجتمع.
لقد شكلت المعركة التي خاضتها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية ضد الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون أحد أهم تلك المعارك. لقد أجبر أحد صحفيي الواشنطن بوست، وهو السيد بيتر وودورد، الرئيس نيكسون على تقديم إستقالته بعد أن أثبت، من خلال مهنيته الإستقصائية، تجسسه علي الحزب الديمقراطي المنافس لحزبه الجمهوري، في حادثة أصبحت تعرف بفضيحة ووترقيت، و التي شكلت أحد أهم المعارك بين الصحافة و الجهاز التنفيذي في عصرنا الحديث. إن أحد الدروس الأساسية التي يمكن إستخلاصها من تلك المعركة يتمثل في حرية الصحافة و سيادة حكم القانون. تثبت واقعة ووترقيت ، بصدق، مقولة السلطة الرابعة، و تعكس جلالة المكانة التي تحتلها الصحافة في المجتمعات الحرة و الديمقراطية، و تؤكد مدي الإحترام الذي تحظي به الصحافة من قبل أجهزة الدولة، ممثلة فى قمة هرمها، و هو رأس الدولة. لذلك لم يكم مستغربا أن يستقيل رئيس أكبر و أقوي دولة في العالم نزولا علي حكم القضاء المستقل الذي قضي به وفقا لبينات أوردتها الصحافة الحرة
لذلك تعتبر رسالة الصحافة مقدسة. و لا يستطيع حمل أمانتها إلا أولي العزم من الرجال و النساء. و بذات القدر لا يمكن لسلطة تنفيذية أن تتفهم أهمية و عمق تلك الرسالة، إلا إذا كانت هي نفسها سلطة ديمقراطية منتخبة من قبل الشعب، و تخضع في نهاية المطاف لإرادته الحرة. و يمكن تلخيص تلك الرسالة في جملة واحدة: الدفاع عن حقوق الشعب و المصالح العليا للوطن.
هذه هي رسالة صحيفة السوداني في ثوبها الجديد، كما يجب أن تكون في المجتمعات الحرة. وهي رسالة يحف تنفيذها العديد من المخاطر حتي في دول الديمقراطية الراسخة، فكيف سيكون الحال عند تنفيذها، و تحمل مسؤولياتها، في بلد يمر بأخطر مراحل  تاريخه الحديث. مرحلة الوحدة و التوحد بين جميع أطرافه، أو التشرذم و التفكك، و من ثم الإضمحلال و التفكك و الإختفاء من وجه الخريطة السياسية.
إنها رسالة لا نقول إن تنفيذها صعبا أومستحيلا، لكن طريق تنفيذها لن يكون مفروشا بالورود و الرياحين كذلك. لكن من أراد الشهد، لابد له من إبر النحل. و أحسب أن شهد رسالة صحيفة السوداني سيمكن مسئوليها و صحفييها من تحمل أكثر مما هو أشد لسعا من إبر النحل. إن دور صحيفة السوداني خلال المرحلة القادمة، كما أراه، يتمثل في ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، و الدفاع عن حرية الرأي و العقيدة، و سيادة حكم القانون، و العدالة الإجتماعية، و ضمان الحريات السياسية، بما في ذلك حرية الصحافة، في الدولة الجديدة التي ستولد في شمال السودان بعد إستفتاء يناير القادم، كما يرجح معظم المراقبين بذلك. هذا بالإضافة الى دفاعها عن حقوق الغلابة و المساكين من أبناء و بنات الشعب و المصالح العليا للدولة الوليدة.
إن هذا الدور لن تلعبه صحيفة السوداني بمفردها. لكن يتوجب أن تقوم به جميع الصحف الوطنية، دون إستثناء. ولكي ما نضمن نجاح هذا الدور، أقترح أن تتبني صحيفة السوداني إعلان ميثاق صحفي جديد يتناسب و طبيعة الدولة الوليدة، و أن تدعو جميع مسئولي و صحفيي الصحف الأخري الى تبنيه، و الإلتزام به، و تنفيذ بنوده نصا وروحا، حتي تتمكن الصحافة من لعب دور السلطة الرابعة، و أن تكون صاحبة جلالة، بحق و حقيقة، يقدس بلاطها كل من يتعامل معها، و يحترم كلمتها كل مسئول فى الدولة، و تخشي سلطتها كل السلطات!!
إنني أعتبر بذر بذرة الصحافة الحرة الرصينة و المسئولة، داخل أرض الدولة التي ستولد في شمال ما يعرف الآن بجمهورية السودان، رسالة حري بصحيفة السوداني حمل مشعلها، و تحمل جميع المخاطر في سبيل تحقيقها، وبذل كل غالي و نفيس من أجل الوصول الى أهدافها السامية. وهي رسالة ستعبد الطريق لخلق الأجواء المناسبة لصحافة حرة تلعب الدور المناط بها في الدفاع عن حقوق المواطنين و المصالح العليا للبلاد. إن هذه البذرة الصالحة التي ستتبناها صحيفة السوداني ستكون، بإذنه تعالي، كشجرة سامقة، جذورها ضاربة في أعماق أرض الدولة الوليدة، و فروعها تغطي سمائها ليستظل بها كل مظلوم أو مهضوم للحقوق.
أعتقد أن دور صحافة الدولة الوليدة لا يجب أن يقتصر على الدفاع عن حقوق المواطنين و المصالح العليا للبلاد فقط، بل يجب أن يتجاوزه ليغرس في النشئ و الشباب القيم الفاضلة، و الإلتزام بالدفاع عن الوطن و مكتسباته، و الإبتعاد، قدر الإمكان، عن الفساد و الممارسات الفاسدة التى تهدر الطاقات و تبدد الإمكانيات، حتي نتمكن من بناء مجتمع متماسك، و بالتالي دولة متماسكة، تتمكن من الصمود في وجه التحديات الحقيقية و الكبيرة التي حتما ستواجهها، بدءا من تجاوز الضغائن و الأحقاد الشخصية، التى تولدت أثناء فترة الإحتقان الإجتماعي و السياسي الذي مرت به البلاد طيلة العقود المنصرمة، مرورا بمعالجة الظلم و التهميش الذي وقع على الأفراد، و معظم مكونات المجتمع، و إنتهاءا بالتصدي للصراعات الإقليمية و الدولية التي كنا، و سنكون جزءا منها، نتأثر بها، و نؤثر فيها.
تحقيق هذه الرسالة السامية يتطلب، أول ما يتطلب الإبتعاد عن الإسفاف، أو الإهتمام بصغائر الأمور، و العمل بمهنية عالية و صارمة لا يحكمها سوي الإلتزام بميثاق الشرف الصحفي، و الضمير الحي للصحفي الحر في المجتمع الحر. إن الفرد الحر هو دوما القادر على الخلق و الإبداع و الإبتكار، و بالتالي المساهمة الفاعلة في بناء مجتمعه، و تطوير أمته، و الدفاع عن ترابه الوطني ودولته المستقلة. وعلي عكس ذلك تماما يكون الإنسان المقهور، مهضوم الحقوق، الوجل حتي من إبداء رأيه، خوفا من تبعات ما سيترتب عليه من مخاطر حكومة فاسدة أو دولة ظالمة.
إذن خلق المواطن الحر القادر علي الدفاع عن مصالحه و مصالح أمته هو ما ستجند له صحيفة السوداني كل طاقاتها في المستقبل، و تأمل من قرائها الكرام الكتابة إليها و مراسلتها بآرائهم النيرة، و مقترحاتهم الهادفة، وكل ما من شأنه المساهمة في خدمة مجتمعنا، ورفعة شأن و طننا بين الأمم. كما تتعهد السوداني من جانبها بأخذ كل تلك الآراء و المقترحات و المساهمات بعين الإعتبار، و تنفيذ ما هو ممكن منها، ويقع ضمن محيط مسئولياتها، ورفع ما هو خارج ذلك المحيط الى الجهات المسئولة، و متابعة خطوات تنفيذه الى أن نراه واقعا ماثلا أمام أعيننا. و ليس لصحيفة السوداني من كل هذا غرض سوي خدمة الوطن العزيز و المصلحة العامة. و ما التوفيق إلا من عنه سبحانه و تعالي.
مرة أخري أتوجه بالتحية الحارة للشعب السوداني، الصامد الصابر، بالتهنئة الحارة بمناسبة الذكري السادسة و الأربعين لثورة أكتوبر المجيدة، و لشهدائها الأبرار الذين ستؤكد صحيفة السوداني لهم بأن دماءهم لم تذهب سدى ما دامت الصحيفة ملتزمة بالمضي قدما في الدفاع عن حقوق الشعب و المصالح العليا للوطن، الذي ضحوا بأرواحهم الغالية في سبيلها، دون خوف أو وجل، و بخطي ثابته، و أقلام شريفة لا تخشي في قولة الحق لومة لائم.
4/10/2010

Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء