كبر في مواجهة قوى التكبر العالمي … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

كان قرارا حسنا موفقا ذلك الذي اتخذته حكومة الإنقاذ الوطني، بالسماح لأعضاء مجلس الأمن الدولي بزيارة بلادنا، حتى ولو تم ذلك على حسب الخطة الاستفزازية، التي قررها هذا الطرف الأقوى.
فالسياسة الدولية تقررها، إلى حد كبير، اعتبارات القوة النسبية، لا اعتبارات العدالة، التي يتذرع بها الطغاة الأقوياء بلا استحياء!
الاستثمار في الذكاء والصبر:
إن الطرف الضعيف، وهو بلادنا في هذه الحالة، مكتوب عليه أن يعاني بقدر عظيم ولعهد طويل.
ولكنه يمكنه، لحسن الحظ، وكذلك أولى به، من حيث اعتبارات الواجب، أن يستثمر في ممارسة الذكاء، والفكر، والحلم، والصبر الجميل.
وعليه أن يتجنب دواعي العصبية، والشغب، والصدام، طالما كان هنالك مجال رحب لتجنبها مع صنوف الخلق المتآمرين اللئام.
وطالما ثبت أن اقتحام الصدام لا جدوى واضحة تكسبها بلادنا من وراء اعتسافه.
وطالما استشف سياسيونا العقلاء أن جر بلادنا إلى الصدام مع قوى الغرب الطاغي، إنما هو هدف مبيت، يراد به تصوير بلادنا في الإعلام الدولي، وفي المحافل الخارجية، على أنها بلاد متطرفة مارقة لا تبالي باقتحام المواجهات الرعناء.
فهذا أول انتصار بيِّن لدبلوماسيتنا العليا، أن قامت بإحباط مؤامرة خصوم البلاد، التي استهدفت جرها إلى مشادة، لا لزوم لها، ولا مسوغ، مع مجلس الأمن الدولي.
حكيم الأمة علي عثمان:
وكان حكيم الأمة الأستاذ علي عثمان محمد طه قد أشار في مؤتمره الصحفي الذي عقده في الأسبوع الماضي، إلى حيثية أخرى دعت الحكومة إلى استقبال بعثة مجلس الأمن الدولي، وهي حيثيته التي قالت إن عضاء المجلس ليسوا كلهم على رأي رجل واحد.
فمنهم من يحمل لبلادنا عداء مبيتا لا يحيد عنه ولو اجتمعت دلائل الدنيا كلها على عدم موضوعيته وصدقيته.
ومنهم من يقف مع حق السودان، ومنهم من هو متردد بين بين.
وهذان الطرفان الأخيران ربما أدت زياتهم إلى دار فور ورؤيتهم استقرار أحوالها إلى تقديم بينات إيجابية تكسبهم إلى صف الحق الذي هو صف السودان.
ولا سيما أن كل من زار الدار، ورأى استقرا أحوالها رأي العين، أبدى استغرابه من تضخيم الإعلام الدولي لشأن الفتنة، وتصويره لدار فور على أنها دار احتراب، أين منه احتراب رواندا، وبورندي، والصومال، والبوسنة، وكوسوفو، والعراق.
وكبير دار فور عثمان كبر:
وقد أحسن ابن دار فور البار المجاهد الأستاذ عثمان كبر، عندما وازن دبلوماسية الدولة، وعوض عن تساهلها ببعض الحزم المتشدد، فواجه أقطاب الطغيان الدولي، وعلى رأسهم الدكتورة اللجوج، بما أخرس لسانها الفظ العضوض، ولفظها الغث الممجوج.
وربما خيل لهذه الدكتورة المتكبرة سوزان رايس أنها تخطب في محافل التآمر التي ظلت تخطب فيها منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وتوجه الإهانات لبلادنا من دون أن يتصدى لها من يلقمها حجرا يسكتها، وذلك إلى واجهت كبرا في عقر داره فواجهها بغليظ القول شديد الإفحام.
تجرأت الدكتورة سوزان رايس وتبجحت في حضرة الأستاذ كبر، بالحديث عما يسمى بالمحكمة الجنائية الدولية، ووجوب أن تستمر في إجراءتها لتحقيق العدالة في السودان. فأجمع على إثر ذلك كبر مجمل كبرياءه القومي، والديني، والدارفوري، وتصدى للمزهوة بخمر القوة المتكبرة صادعا بأكبر حجة وأكبر برهان قائلا: علام تتحدثين في تأييد محكمة، بلادك من ضمن الدول التي تخشاها، ولذلك لم توقع على ميثاقها، ولم تنضم إليها؟!
فهذه الإجابة المسددة ما كانت إلا نتاجا رائعا للاستثمار الجيد في الذكاء، والحكمة، والتفكر، الذي يجب أن يتحلى به سياسيونا الكبار، وقد أحسنه منهم كبر فله منا كبير الإكبار.
فبهت الذي كفر:
وقد تصدى كبر كذلك لإلقام حجر أكبر لذيل المندوبة الأمريكية، الذي هو المندوب البريطاني في مجلس الأمن، الذي كابر ومارى في صحة الإحصاءات التي تقدم بها كبر، وهي الاحصاءات القائلة بأن معدل الجريمة في دار فور قد انخففض بنسبة سبع وتسعين بالمائة عما كان عليه في عام  2004م.
وهو العام الذي شهد ذروة أعمال الإجرام، التي ارتكبها متمردو دار فور بدعم من التكبر الدولي، وبخاصة من مجلس الأمن ، الذي سارع وتبنى أمر ملف دار فور، وصوره على أنه أهم وأخطر ملف في السياسة العالمية على الإطلاق.
وقد قال الذيل البريطاني الذي جعل مهمته الأولى في مجلس الأمن الدولي أن يساند السياسة الخارجية الأمريكية الرعناء مساندة عمياء: إن أحوال الأمن في دار فور تتدهور باستمرار وإن الجريمة فيها تتصاعد بلا قرار.
ولم يجد المندوب البريطاني إلا أن يجتلب لتأييد دعواه دليلا مختلقا، من عند الجهات المشبوهة التي تصطنع أمثال هذه الدلائل المفتعلة، وتفبرك أمثال المعلومات المزورة، وتكوِّن الاحصاءات الخداعة كما تشتهي.
قال المندوب البريطاني وهو يظن أنه يواجه سياسيا هشا مرتعدا يبالي بالقوى الكبرى ويخشى منها على مصيره الشخصي: إن الاحصاءات التي بين يدي تدل على أن معدل الجريمة قد ارتفع في دار فور بنسبة مهولة تصل إلى مائتين وخمسين بالمائة!
ولم ينطل هذا المكر البائر على السياسي الحصيف المعتاد على تزييف الغرب للإحصاءات كما يشاء، فجابه المندوب البريطاني بالقول الصحيح الصائب قائلا: نحن مصدر معلوماتنا هو القضاء والأجهزة العدلية في بلادنا دار فور، فما مصدر معلوماتكم هذه التي جئتم بها إلينا في بلادنا؟ فبهت ولم يحر جوابا!
ماذا أفادت بلادنا من الزيارة؟
هذا وقد كان حكيم الأمة الشيخ علي عثمان قد ألمح في حديثه الأسبوع الماضي إلى أن زيارة أعضاء مجلس الأمن إلى بلادنا لن تزيد من يعادونها منهم عداء فوق عدائهم القديم، لأنهم  بلغوا من ذلك العداء المبلغ الأقصى الذي ما عليه من مزيد.
ولكنها، من جانب آخر، ربما أكسبت بلادنا تصورات أفضل في أنظار بعض من انطلى عليهم زيف التضليل.
وما أشار إليه الشيخ علي عثمان هو الحكمة التي في ثناياها الحكمة المتزنة التي تعودناها تصدر عنه وتجنب بلادنا المخاطر والأعطاب.
وقد اكتست تلك الحكمة هدوءا وثقة، وأزجيت في قول لين، يقتدي أثرا من قول الذي أُلزم بالتزام القول اللين، في مواجهة فرعون الذي طغى.
وعلى هامش ما قاله الأستاذ علي عثمان نقول إن هنالك مبحثا علميا جديدا يتنامى في حيز علم العلاقات الدولية، ويحاول أن يشكل ثورة تصحيحية على مجمل الأخطاء المتراكمة فيه، وهو المبحث الذي يركز على موضوع التصور وسوء التصور
Perception and Misperception
يقود البحث في  هذا الفرع العلمي الجليل البروفسور روبرت جيرفس ويعاونه عدد من الباحثين الجادين.
ويجهد العلماء العاملون لتطوير هذا الفرع الذي تنامى نموا ملحوظا في السنوات الأخيرة ونال اعترافا كبيرا في عالم العلوم السياسية.
وما يبتغيه هؤلاء العلماء هو أن يؤكدوا أن الكثير من قرارات السياسة الدولية وممارساتها تقوم على  مجرد انطباعات ومعلومات مختلقة لا غير.
وقد ذلك واضحا في كارثة غزو العراق.
وسيبدو ذلك بشكل أشد جلاء في مجمل ممارسات القوى الكبرى ضد بلادنا في غضون عقدي الإنقاذ المجيدين.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]
 

 

آراء