الشاويش الذى احببت … بقلم: سلمى الشيخ سلامة
الى روح هدى شقيقتى
العام 1994 كان عاما كئيبا فى حياتى بلا نظير ، منذ بدء الكون والى هذه اللحظة ..
كانت هدى رحمها الله الاخت الصغرى ، ميلادها كان العام 1963 لا اذكر الشهر لكنه كان ذاك العام حين خرجت الى الدنيا ، بلونها القمحى الاقرب للبياض وكنا نناديها البيضاء ، جميلة الملامح ، دقيقتها ، فمها دقيق وشفتها منفرّتان دائما بابتسامة وضحكة صخابة منذ طفولتها تحب الضحك ، وجهها مستدير ، شعرها كان طويلا ، لعله كان الاطول بيننا
منذ بداية حياتها التعليمية ومنذ الروضة كانت تحفظ وبسرعة برقية ، فى الابتدائى كانت تحفظ كتب المطالعة من الغلاف للغلاف كما تحفظ الاناشيد تحفظ المطالعة ..نضحك كنا فى طريقتها التى تقرأ بها المحفوظات التى لا يسعها الزمن كيما تلتقط انفاسها ، كأنما كانت تقول انها متعجلة كيما تسمعنا صوتها ، تلك كانت طريقتها البريئة فى كل مراحلها الدراسية وحتى رحيلها الباكر
هاهى الان تدخل الى المرحلة الثانوية ، الابيض الثانوية بنات ، كانت المدرسة تبعد عن البيت ما يقل عن الميلين ، لكنها كانت تقطع تلك المسافة فيما يقل عن خمسة دقائق كأنها كانت تركض ، لكنها كانت مسرعة الخطى دائما، خطواتها كانت مسرعة بطريقة ملفتة ، تخرج من البيت الكان فى السكة الحديد فى مدينة الابيض ، تقطع "الفسحة " التى تفصلنا عن المدرسة وتصل الى الفصل قبل دخول المدرس حيث تسمع الجرس فى البيت ..!
حين كنا نخرج معا فى الامسيات لزيارة احد اقربائنا فى الابيض ، كانت تتقدمنا دائما ،وتصيح فينا
ـ يا بنات امشو بسرعة مالكم متمهلات كدا ؟امشويا كسلانات
تخرجت هدى عليها الرحمة فى كلية الزراعة بعد ان رفضت كل كلية تم ترشيحها لها من الطب الى الى غيره من الكليات العلمية ، لكنها فضلت ان تدرس الزراعة ، وتخرجت فيها بتقدير ممتاز ، قالت لى وهى متأسية
ـ العميد قال ادرس فى الكلية ، لكنى ابيت
ـ كيف يعنى ابيتى ؟
ـ يا سلمى اختى لو اشتغلت فى التدريس حامشى من ربنا وين لو ظلمت لى طالب او طالبة ؟ ما بقدر ، أعتذرت وخلاص ...
قلت لها ـ التدريس مفيد للشباب الزيك بضيفوا للطلاب خبرات ومعارف
لكنها قالت لا وهذا قرار نهائى ، مضيفة قولها
ـ العمر ما فضل فيهو شى
رغما عن انها كانت قد تخرجت للتو فى تلك الايام فى اوائل التسعينات
لم أعلق بشئ سوى الصمت
قالت لشقيقى الكبير معاوية
ـ محتاجة لمعاونتك عشان عندى مشروع زراعى فى كركوج
ولم يبخل عليها معاوية ، دفع لها كل ما طلبته من مال ، قامت هى وزملائها المشاركين لها بانشاء ذلك المشروع الزراعى ، لكن المنية عاجلتها بعد أن أصابها سرطان الثدى وما لبثت ان راحت ضحيته فى العام 1994 وهو نفس العام الذى جاءت تزورنى فيه فى القاهرة ، كأنما كانت قد جاءت تودعنى ، فى البداية لحظة ان رأيتها لم اتعرف اليها لولا وجود حذيفة شقيقى رفقتها فى المطار، فلقد هدها المرض وأحالها الى هيكل عظمى
فى صباح اليوم التالى وكنت أعرف اعجابها بالفنان الراحل عبد الحليم حافظ قمت بشراء كل الاشرطة التى عثرت عليها فى المحلات ، واشترينا لها جهاز تسجيل جديد عسى ان يعيد لها بعضا من روح افتقدناها ، لكنها كانت فى عالم غير عالمنا ، كانت حزينة لان خطيبها "غدر بها " فبعد اسابيع قليلة من اجراء العملية لها تلك الخاصة باستئصال ثديها قام بخطوبة احد قريباته ، ولم يعر المها مجرد انتباه ، رغم انهما كانا يتاهبان للزواج
كانت تحكى وهى تنزف الما ، قلت لها فى محاولة يائسة لتطييب الخاطر رغم انى كنت أشد حزنا منها
ـ حتكونى بخير وحتتزوجى وحتجيبى اطفال ، خلى املك قوى فى ربنا
ضحكت بمرارة ، قالت
ـ انتى ما بتعرفى الموت ؟عاينى الرجال الواقفين ديل جايين يشيلو الصندوق ، بدل ما تتعبى نفسك وتتكلفى صندوق ، خلينى امشى اموت مع امى وابوى ...!
حاولت الى تهدئة خاطرها وإبعاد تلك الصورة عن مخيلتها لكنى لم أستطع ، كنت احاول الى زرع بعض الامل فى روحها التى رأيتها غائرة فى عمق ما ، لم تكن تلك عرفتها طوال حياتها ،احدثها عن حيويتها التى نعرفها وكيف انها حتام ستعود ، لكنها كانت فى عالم آخر ، تردد
ـ جيت اودعك لانه تانى ماحنتلاقى بت امى ، خلى بالك من نفسك فى الغربة ربنا يرد غربتك وتلاقى اهلك فى السودان
تخرج الى فضاء احببناه معا ، حكاياتنا عن انفسنا ، حكت لى عن خنساء شقيقتى وكيف انها كانت ما تزال حتى بعد زواجها لاتحب الطبيخ ، لكنها من بين ضحكتها تقول لى "حتتعلم تطبخ غصبا عنها ، يعنى حياكلو عمرهم كلو زبادى ؟
خنساء كانت لاتحب الطبخ قط ، كنا نضحك ونحن نستعيد كيف انها يوم طبخها "كانت امى تقسم الايام بيننا فتقوم كل واحدة بالطبخ فى يوم محدد خاصة فى الاجازات المدرسية الصيفية "
كانت خنساء اذا ما حل دروها كانت تطبخ لنا ما شاء الله ، والحكمة ان طبخها كان لذيذا رغم انه كما كانت تقول امى "معمول بدون نفس " كانت تضع البصل واللحم والخضار فى الحلة البريستو وتغلقها " وحين تعود اليه يكون قد نضج لكن على طريقة خنساء فى الطبخ ..
كانت هدى اكثرنا عشقا للطبخ ودراية به ، بالوانه البلدية والافرنجية على حد سواء ، كانت تجرب الاطعمة وحين تعود ذات خاصية غذائية عالية كما كانت تقول تكتبها فى كراسة اعدتها خصيصا لذلك الغرض ، لكن تلك الكراسة اختفت ، ولا يعرف احد اين ذهبت ومن أخذها ؟ فلقد كانت تحوى بعض الحلويات ايضا على طريقة هدى ...
كانت "تجرب فينا الاطعمة " احيانا وبعد ان ناكل ما طبخته لنا نسالها
ـ متأكدة انه مافى زول حيمشى المستشفى متسمم ؟
لكنها تضحك كعادتها وتقول
ـ اتحداكم لو حصلت حاجة لواحد فيكم
كان والدى يحب ان يلعب معها "الطاولة " فكان الجميع يتحلق حولهما اثناء لعبهما ، ينقسمون الى قسمين واحد كان يشجع والدى والاخر يشجع هدى عليهما الرحمة
كنت لا افهم تلك اللعبة لكنى اقف الى جانب هدى للرشاقة التى تحرك بها الحلقات البيضاء للطاولة التى كانت غالبا المفضلة لديها ، كانت تحملها بقوة وتضرب بها سطح الخشب الخاص بالطاولة كمحترفة ماهرة ، ولم تكن تصيح كما يفعل والدى الذى كان يرفض فكرة ان يهزمه احد ...وحين تنتزع منه النصر يقول لها
ـ يا كيشة انا الخليتك تغلبينى بمزاجى
كان مزاجها غريبا فهى التى كانت مخولة بشهادتها تلك والتى كانت اعلى درجات يسجلها احدنا فى الدخول للجامعة ، لذلك حين قررت دراسة الزراعة كان والدى يرغب ان تدرس الطب ، لكنه أمن على سلامة دفاعها ورضخ لشرط ان تدرس الزراعة ، قالت له
ـ تعرف يا ابوى فى الزراعة الزول ما بكون مجرم لو الشجر"مات" يعنى ما زى لمن تكتل ليك زول غلط بعملية ولا بتشخيص رغم انه الشجرة روح لكن موتها ما بخليك تعيش فى حالة ذنب طول حياتك ...حادرس زراعة لانى بحبها ..
وافق والدى ... كان لا يستطيع ان يرفض لها طلبا منذ أن كانت طفلة الى ان بلغت مرحلة دخول الجامعةلا يعرف كلمة "لا " باتجاهها ، فكنا إذا ماأردنا منه شيئا اتجهنا اليها "يلا يا بت المصارين البيض ، كلمى لينا ابوى " تمضى اليه واثقة الخطى وتعود الينا بالخبر اليقين والنصر الثمين كما كانت تقول ..
لكنه لم يقدر على فكرة رحيلها قط ، قالت أمى تحكى لى
ـ يوم بعد وفاتها جا ينادى واحدة من البنات ، ما حس الا هو بنادى ياهدى ما حسينا بحاجة غير زول وقع ولمن رفعناهو ووديناهو المستشفى كان مصاب بالشلل النصفى .. وما طاب منه لمن لحقها الله يرحمهم الاتنين يابتى سبيل الاولين والاخرين ...
حكت امى عن طفولة هدى عليهما الرحمة ، قالت
ـ كنا فى القضارف ، يوم جات غجرية دخلت البيت وكان معاها تلاته بنيات حلاتن ، ما كنت عارفة انه هدى معاهن ، كانت البنيات مغبرات والشعر احمر ومنكش ، قلت للغجرية ـ حلاتن بناتك
قالت
ـ لا يختى واحدة بتاعتك اتنين بتوعى
كنا نناديها الحلبية احيانا ، لان لونها لون الغجريات جميل ونادى، وحين كبرت بتنا نناديها الشاويش ، وما تلك التسمية الا لصرامتها ، وراجت فى تلك الايام المطبوعة التى كنا نشتريها ونطالعها معا ، رغم فارق السن بيننا لكنها كانت محبة للقراءة ، كانت تقرأ معنا "المغامرون الخمسة" بل ان تلك المطبوعة كانت محل اهتمام كل اهل بيتنا يقرأها الجميع بمن فيهم أمى ، وحين شبت هدى كانت صارمة صرامة لا نقاش احيانا بعدها ، ليس بسبب التعنت ولكن بسبب انها كانت تريد الاشياء منتظمة وصحيحة مئة بالمئة ، وهذا مستحيل لهذا كانت تسميتنا لها بالشاويش عطية وهى احد شخصيات تلك المطبوعة ـ المغامرون الخمسة ـ ففى العيد على وجه الدقة كانت تنظف البيت كله ، تغسل ارضيته بالخرطوش ، وهذا يتبعه الاوامر والشروط المسبقة لدخولنا الغرف
ـ اى زول يمسح جزمته فى البشكير القدام الباب ، ما عاوزة تراب فى الاوضة ، ما ترقدوا لى فى الملايات النضيفة ، ما ، وما
عشرات" الماءات" كانت ترسلها الينا ، ومعها تهديد ما...
كان لها ايقاع خاص بها فى أمر الغناء والرقص ، فلم تكن ميالة للرقص السودانى أو الغناء السودانى ايضا..ترقص رقصات عربية ، صميمة تعرف كيف تغيظنا بشعرها الطويل تؤرجحه من اليمين الى اليسار فى يسر ودراية ...
تعلمنا منها ان نستمع الى اغنيات "شادى الخليج ، وناظم الغزالى ، وسعدون جابر ، وكاظم الساهر حين كان يافعا بعد " حفظت اغنيات مارسيل خليفة عن ظهر قلب ، لذلك كان عبد الحليم حافظ احد دعامتها الغنائية ابدا ، ربما بسبب السينما التى كنا نشاهد افلامها فى التلفزيون وكان عبد الحليم حافظ احد ملامحها ، بل إنها كنت تحفظ اغنيات اسماعيل يسن فى الافلام ،أحيانا تكون نائمة فستيقظ تقول لنا
ـ افتحوا الراديو
نفتحه وللغرابة يكون عبد الحليم حافظ يغنى ...!
كأنما ثمة خيط روحى مشدود بينهما .. ويوم مات كأن من مات احد أهلها ، بكته بكاءا حقيقيا ، لم أرها حزينة كما رأيتها يوم رحل عبد الحليم حافظ ..
كيان غريب لانسانة عاشت عمرا قصيرا لكنه مصبوغ بجمالها وروعة وجودها بيننا ، رحمة الله عليك ايتهاالشفوقة العطوفة التى كنا نمثل لها الدنيا وما فيها ، رحمة تتسع عدد الشجيرات التى غرستها يدك بافرعها وثمارها وجذورها وعبقها وطلحها ونوارها ، يامن غرستى داخلنا حب الخضرة والزرع والجمال الانسانى لك الرحمة ايتها العفيفة الشفيفة
Salma Salama [fieroze@hotmail.com]