من لطائف وطرائف الدوبيت 1-2 … بقلم: أسعد الطيب العباسي
شعر الدوبيت السوداني من الكثرة والتنوع، بحيث يصعب حصره حصراً كاملاً، وهي حقيقة انتبه إليها الدكتور عز الدين إسماعيل عندما قال: "لقد أدركت أن جمع الشعر القومي كله يستنفذ جهد مجموعة كبيرة من الجامعين عدة أعوام"، وقد أتاحت لنا هذه الكثرة أن نتخير فيما تناهى إلينا بعضا من اللطائف والطرائف ونضعها في قالب صغير نقدمه للمتلقي، على أنه ينبغي أن ندرك أن الدوبيت ليس مادة فلكلورية مجهولة المؤلف، وإن عجزنا أحياناً أن ننسب بعضه إلى قائليه، وقد جاء في كتاب الشعر القومي في السودان: "إن الدوبيت لا يمكن أن يعد مادة فلكلورية، لأن هذه المادة ليست مجرد تراث قديم يعيش بماضيه في ضمائر الناس، بل هي في الواقع مادة تاريخية مرت بمراحل مختلفة من التطور وما تزال تتزايد وتتجددمع الزمن، وما زال كثير من شعراء الدوبيت الذين عرفوا بهذا الفن أحياءً، بل أن هناك شعراء جددا يقتحمون الميدان على الدوام". ويستمر د. إسماعيل ليقول إن الدوبيت فن قولي كسائر فنون القول، يتخذ منه بعض الناس أداة للتعبير المركَّز الجميل ويستجيب له الآخرون ويستمتعون به استمتاعهم بسائر فنون القول، بل وربما كان استمتاعهم به أعظم وأبلغ"، ولما كان شعر الدوبيت السوداني يعبِّر عن إنسانه تعبيراً صادقاً ويعكس الواقع النفسي والتاريخي لحياة أفراده وجماعاته، فهو إذاً صورة تقع داخل إطارها الكثير من اللطائف والطرائف، وقد اهتم الدوبيت اهتماماً كبيرا بأشعار الغزل ، وفي ذلك وجدنا كثيراً من اللطائف، فعندما كاد العزال يفسدون العلاقة التي نمت بين شاعرنا الرائد الحاردلُّو ومحبوبته قال:
البارِح حـديس الناس بـدور يفرقـنا
كُلُّو مَـرقْ كِضِب عقبان صفينا ورقنا
الدغسا ام شلوخاً سِتَّه مالكه عُشُقْنـا
تتمايح مِـتل قَـصَبةْ مدالق الحُقنـه
وأراد شاعرنا الحاردلو أن يفعل كما يفعل العاشقون، فعندما يثقل الحب والكتمان قلوبهم ويشقيها، يبحثون عن الصديق أو الرفيق الأنيس ليبثوه لواعج الهوى وأسراره، غير أنه عندما تلفَّت يمنةً ويسرةً لم يجد أحداً فتنفَّس شعراً:
يا خالق الوجـود أنا قلبي كَاتِم سرُّو
ما لقيت مَن يَدِرك المعنى بيهو أبِرُّو
بهمتْ منصح الوادي المخـدِّر دِرُّو
قَعَدَتْ قَلبي تَطوِي وكُل ساعة تَفرُّو
وما قاله الحاردلو يرجعنا لمعانٍ قال بها الشاعر شمس الدين محمد التلمساني الملقَّب بالشاب الظريف في زمان مضى، والذي أخذ من خلالها يقدم نصحه لعاشق كتوم فضحته دموعه وخفقات قلبه، يقول:
لا تخفِ ما فعلت بك الأشـواقُ واشـرح هـواك فكُلُّنا عُشَّـاقُ
لا تجزعنَّ فلست أوَّل مُغــرمٍ فَتَكـت بـه الوَجَناتُ والأحداقُ
قــد كـاد يُخفى الحُبُّ لـولا دمـعُـك الجاري وقلبك الخفَّاقُ
فعسى يُعينُكَ من شَـكوْت لــه الهوى في حِملِهِ فالعاشقون رِفاقُ
واصبِر على هَجرِ الحَبيبِ فَرُبَّما عـاد الـوِصالُ وللهوى أخـلاقُ
يُحكى عن الشاعر المحلق مجنون تاجوج أنه لجأ إلى أحد الفقراء، ليكتب له تعاويذ يتجاوز بها أزمته النَّفسية التي سببها الجمال والعشق، فاستغرق الفقير في كتابة التعاويذ للمحلق وهم جلوس على أرضية الخلوة، مستعيناً بقلمه الخشبي الذي يغمسه في العمار، الموجود داخل الدَّواية، وفي هذه الأثناء بدت إحداهنَّ أمام باب الخلوة، وألقت بسلامها على من بداخلها ثم انصرفت على عجل، وكانت ذات جمالٍ مُلفت انتبه إليه المريض والطبيب المُداوي الذي اسرج خيول فِكره خلفها، مما جعله يغمس قلمه الخشبي على الأرض متجاوزاً الدواية! فقال المحلق كأنَّما أراد أن يوضح لطبيبه أين تكمُنُ المهالك:
أكتب يا فقير ما تقول مريضك طاب
ما شُفت القبيل جابْتَ السَّلام بالباب؟
رقَّت من وَسِط وغِلدت مع القُرقاب
فِكرك انشغل، قـلمك مَليتو تـراب!!
ليس غريباً أن تكون للدوبيت إسهاماته في حل بعض الأزمات التي تطفو على سطح المجتمع، ومن ذلك قصَّةً طريفةً بطلها الشريف يوسف الهندي، الذي أراد أن يقترِن بفتاةٍ كان لها ابن عمٍّ شاب يرغب كذلك بالزواج منها، وعلى الرغم من أن سُلطة ابن العم في ذلك الزمان في شأن الزَّواج بابنةِ عمِّه سُلطة لا تدانيها سُلطة، غير أن ما امتاز به الشَّريف يوسف الهندي من مكانةٍ اجتماعية ودينيةٍ كبيرة جعلت منه منافساً لهذا الشَّاب، الذي أراد أن يحسم النِّزاع بحيلةٍ شعريَّةٍ فجاء إلى الشَّريف وقال له: لقد بَدأتُ مربعا شعريّاً فإن استطعتَ أن تكمله فسأتنازل لك عن الفتاة لتتزوجها، وإن لم تستطع فهي لي.
قَبِلَ الشريف يوسف التَّحدِّي وقال له: أسمِعني ما قلتَ، فقال:
حـارس لـيْ نِقـوعاً شِربنْ
بدافع عنَّهِن لامن نقوحِن قِربنْ
فأكمل الشريف المربع على الفور قائلاً:
شِربن ولبَّنن لامن طِـيورِن طِربنْ
عَوَضك الله في القُبَّال تنيشِن هِربن
عندها أقرَّ الشّاب بهزيمته، ولكنَّ الشريف يوسف وبما كان يتمتع به من حكمةٍ وزعامة تنازل عن الفتاة لابن عمِّها، وقال له أنت أحقُّ بها، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما قام بدفع المهر!
وشعراء الدوبيت وجدانيون وشفافون يعبرون عن أشواقهم وعشقهم بطرق مختلفة ومبتكرة، ومنها استوسالهم بالحيوان والطير والأشجار والجماد ومخاطبتها ومناجاتها، وهو نهج يقع في أشعارهم الغزلية بانتظام، ومن لطائفهم في هذا الشأن قول صديق ود رانفي:-
كَـرْ يـا قُـمري الدَّمـاس لا تغـرِّدْ
لا تذَكِّرني آخـر الليل براي مِتمرِّضْ
الخلاَّني ألاقي المِحـن الكُبار مِتعرِّضْ
أسبابي المعرجن وكلُّ يـوم مِتحرِّضْ
وكقول عبد الباقي أحمد البشير الذي استحالت عليه محبوبته عندما غادرت الربع مع من تزوجها، فأخذ يهيم ويصف ويسأل الأشجار ويستحلفها:
إيــدِك تَــسَــوِّي قـلــوبا
وعينك حاكت الكشَّافه فـي البادوبه
سـألتِك بـالإله الليله ياللالـوبـه
سألتِـك بالإله: علويَّه وين رَحَلوبه؟
ولشاعر الدوبيت الغزِل لطائف عندما يتحدث عن صدود المحبوب، ومن ذلك قول الشاعر:
لي زماناً طـويل الصيده أمـارس فـيها
جـفلت وابعـدت تعـبان أنـا اللاًّفيـها
ناراً في الحشا غـيرك منو البطفيــها؟
يا روح اب حسن قـولة سلام شن فيها؟
ويغرقنا شعراء الوجدان في الدوبيت في لجة أشجانهم ودموعهم، يقول الشكري:
قلَّتْ المُقلْ مـن السُّـهـاد اتكـفَّـنْ
عـقبان يالقلب رنَّات نِغيمك هفَّــنْ
عليْ بريبة الدَّعـكن قـصيره وقفَّـنْ
الشوق حـدُّو فـاتو والدموع اتصفَّنْ
وفي ذلك يقول آخر:
الـبرق زادو لـمَّاع الـبروق الرِفَّنْ
وحرَّك سـاكن الأشواق بعد مـا ركَّنْ
يالتِّيبةْ الوخري السّحـابـو مـدفَّـن ْ
عليك النُّـوح مطوِّل والدُّموع ما جفَّنْ
ويقول الصادق حمد الحلال في معنىً وجدانيٍّ شفيف:
الليل تِلتو روَّح ونـجمـو ميَّل غَـرْبْ
وانا فوق ساقي لامتين يا مُزيلْ الكَرْبْ
حسس الماهو ماسك التيه وفاكِّ الدَّرْبْ
جاب ليْ عِـلَّةْ الكَبِد البتضرب ضَـرْبْ
وقد بدا لنا أن الشاعر الصادق حمد الحلال قد استفاد من ثقافة أخرى هي كرة القدم الرياضة المعروفة، ووظفها في أشعاره الغزلية، فجاء لنا بمعانٍ طريفة كما سنرى حالاً في مربعيه التاليين اللذين يقول في أولهما :
زولي الأنضف من دهب العجمْ فِـي اللـونْ
وأبيض من قَمر عَـشره الـبِضـوِّي الكونْ
عَمَلَتْ قَلبي كُـوره ورَتَـبتْـلُو الــعَـونْ
مرَّه تْـشُـوتُو آوُتْ ومرَّه جُـوَّه الـقَـونْ
ويقول في ثانيهما:
رأسيَّة أديبه عـندك فَـوقْ ندايدِك فَـوتْ
ضَـربِك للعشوقْ فُلَيخْ سِـيوفْ مُو سَوطْ
نَاس وَدْ دِقـمه مِتلي مهـددين بالمـوت
مِتِل كُـورةَ الهِـلالْ شَاتَتْ قُلوبُنْ شَـوتْ
وصوَّر لنا بعض الشعراء أن للحب آثاراً قد تظهر على بدن المحب، ولعل هذا انعكاس لما يعتمل في الوجدان، ومنهم من يحس إحساساً معنوياً بما أصاب قلبه من ثقوب ونحو ذلك، وهناك من يهوِّل حالة الحب لديه إلى درجة تبلغ حدود الموت أو نحوه، ومن هذه الصور العجيبة نورد بعض النماذج، يقول عبد الرحمن العبَّادي:
أنا شفتو العصير يا اخواني ماشي مهلَّع
زي الفوق وحل عضمي انسحن واتولَّع
وجـهي نُـقر نُقـر أصبح جميعو مفلَّع
من سيل دمعي أنا رُشرش عيوني اتقلَّع
ويقول الكباشي العطوي عبد الله يوسف الزيادي:
الـسـنان مــداحـي الـفَـقَّـعْ
والـريق مسَّخ السُكَّر بعـد ما اتنقَّعْ
نخلي الحارسو في خميلة ما بتجدَّعْ
مَرضـانِك مَـقـدَّد قلبو مـا بترقَّعْ
ويقول الطيب ود ضحَويَّة:
قولـوا لى الكَجَرت لكـيـبا ونـامـتْ
غـرار العبوس لى الـسابقين ما دامتْ
العجب العجيب نـار الغـروب إن قامتْ
سمعة وطاعه يا ام عارض قيامه وقامتْ
ويقول الطيب أيضاً:
الناس كـلهم فرحانين يهولو ويجُـولو
ما بِدُرو بى البِحَسِبْ نَجمو واقِف طُولو
قلبـي اتعـشق الـمعدومْ وطال بهدُولو
كَاتِـلْ رُوحو ما بكَّاييـن عَليهُو بِقُولو
والشعراء يحسون بالجمال إحساساً مختلفاً ومتفوقاً وإن بلغوا من العمر عتيَّاً، وقد عبَّر لنا الشاعر بهاء الدين زهير- وهو شاعر مصري رقيق ومعروف من الجيل الذي سبق أمير الشعراء أحمد شوقي- عن صباباته عندما أخذه العمر إلى ناحية نائية، إلاَّ أنه انتصر لقلبه الشاب الذي ينبض في جسد مُسنٍّ يقول:
قالــوا بَعُـدتَ عن الصِّبا وقَطـعـتَ تلك الناحِـية
فــدعِ الصِّـِبا لرجــالِهِ واخـلـع ثياب العـارِية
ونعــم كَـبُرْتُ وإنـمـا تـلك الـشـمائل باقِـية
وتفــوح مـن عـطفـيَّ أنفاس الشـباب الزاكـِية
ويميل بـي نحو الصِّبــا قلبٌ رقـيق الحــاشِية
به مـن الطـرب القديـم بقـيةٌ فـي الزَّاوِيــة
وكأنما شاعرنا الحاردلُّو يتقفَّى خُطى بهاء الدين الوجدانية عندما تقدمت به السِّن، حيث رأيناه يقول وهو يخاطب جمله عتيت:
يا عتيت كِبِرنا وحـالـنا تب مـا زلْ
وكل يوم في هواها مغيريـن منـزلْ
وين ما طـريت الدّمـاعو جـا منهلْ
حلق الريف بوج ناري وغميضك قلْ
غير أننا نظرنا إليه وهو يذعن لسطوة الكِبر، فيعود ليتأسَّى بالذكرى، ويُقر بأن الشيب قد منعه عن التصابي واللَّهو عندما قال:
كـم جـالستهِن ضحـوه ووكـت سليبِن
وكم كاوشـتهِن جُـملـه وقَبَـضْ بريبِن
كم سمحاً كتير بيهـو بنـكتر جـيـبـن
منـع الشيب مـن الوهقه ولعب جقليبن
وهذا الإذعان انسحب أيضا على شاعرنا صديق محمد الماحي الذي تأسَّى بالجمال وصفات فتاته كما كان يفعل في أيامه الغابرة، ولكن كيف له أن يفعل الآن وقد أطلَّ الشيب من رأسه، فأحسَّ به كسهام أُطلِقت على فؤاده؟ يقول:
شِـنْ نَامت شَبـه البُطانه الدَابُــو
بَسمَها يَخفي بَرقـاً تَراخى سَحابُـو
المولاَهُ أَكـمَلْ حُسـنـو واتوصَّابُو
دة الخَلاَّنا الشَيبْ مـا عَملنا حِسابُو
وقد جاراه في إطار لطيف شقيقه الشاعر الماحي محمد الماحي بالمربَّع التالي:
شِـنْ نامت شـبه البُطـانـه الـدوبو
وان بسـمت حناناً يفرح الـمغـضوبو
حلات لهيجاً زي عسل النحل في كوبو
ده الـمـنع نـاس المِتِلـنا يـتـوبو
ومن المعاني الرائقة غير المسبوقة في الغزل مـا قاله أحمد عوض الكريم أبو سن:
جاهلاً سـمح بالحيل ومشـبوك طرفو
الله أداهو يدفق في الجـمال ويغـرقو
جدي امَّات رقاب الفي البطاين شـرفو
للأسف الـكتير ما خبرنا جيهتو نعرفو
وفي معنىً آخر لطيف برزت مربوعة للشاعر عبد الله ود شوراني، وقد نُسِبت أيضاً للشاعر راشد العمدة كرَّار عمدة البشاريين، تقول المربوعة وقد مازجتها الحداثة :
جاهل ظرفي لكن برضو عارف ظرفـو
قلبي وقلبو مـابِين بالحصـل يـعترفو
ريدي أنا ليهو لو دَرسو وقَراهو وعِرفو
زي شـيك البنوك في أي لحظه يصرفو!!
غير أن الشاعر البطحاني ود الحميدي آثر أن يضع لنا في نهاية مربوعته الغزلية صورة كاريكاتيرية يدعو التناقض فيها للابتسام، تقول مربوعته:
بـريـدا الفـي الشَّبـابات شيـخـه
مسحت فكري مـا خلتلي فيهو صفيحه
وادي عـكره اللـي انـطـبق تفيحه
غـفيـرو لكَّه وسـلاحو آخر صيحه!!
ومن الطريف أن نجد أن البعض يعبر عن مشاعر الوَله بطريقة تأخذه إلى تخوم الجنون، فنكاد نسمع منهم صياحاً وصرخات مجنونة، يقول أحدهم:
الليلة الـبلد طلـق عـليَّ الـزِّيف
ذكّـَرني الـمِفـرهِد دابـو للتكليف
كل ما يهف ليْ مشتول جناين الريف
منِّي ولَيْ أزغرد في الصقيعه وأقيف!!
ويقول آخر:
الليـله الـبلد جاب ليْ نـسيـماً فـايِح
ذكَّـرني المِـن ايـديْ وقَــعْ مُـتمايح
كان ما بخاف كلام الناس يبقى ليَّ فضايح
بــحرس خـشُـم بيتم واقَنِّب أصـايح!!
اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]