من لطائف وطرائف الدوبيت 2-2 … بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 

 
    وفي شأن اللطائف والطرائف فإن الدوبيت لا يلج مناحي الأدب المكشوف إلا نادراً. ورغم هذا تنداح صُوَرُهُ في لطفٍ يحيله أحياناً إلى تُخوم العبثية، ومن ذلك ننقل صورتين، الأولى لشاعرنا عبد الرحمن ود المشمَّر في مربَّعه القائل:

    جات مارقة العِصير لابسة الكرب البمبي
    وانكشف الجسـم لامن بقت بـي  جمبي
    قُت ليهـا الأمـان بالله  إيـــه زمبي
    قالت ده النسيم يا خويَ  شـال البـمبي
والثانية مربع أحدهم يقول فيه عن ليلة من ليالي شهر عسلِهِ:
    وكت الليـل بَـرَد جـاني العشوق  يتَّنَّى
    فتح الباب دخـل جاب ليْ  نسايم الجـنَّه
    كاوشتـو وبكى قـال لـيَّ  رُوقْ استنَّى
    خلِّي الناس تنوم وزي ما تدور اتمنَّى..!
    ولعل الصورة الثانية السابقة تذكرنا على الفور بما أورده ساحر الدوبيت ورائده الحاردلو الذي قال:
    طـوَّلْ بالـعنيس قـانـص يـدوِّر كـلبي
    ما لقيـت من يـحق نمّي  ونـوادر قـلبي
    عـاد يـا بِنيَّه كـان في ليل مَعاي تِنْسلَبي ..!
    هاك يا السمحه زي  ما تدوري مني أطُلبي..!
    ومربع الحاردلو الفائت ورد ضمن مسدار المطيرق الشهير، ولهذا المسدار قصَّة طريفة أَوْرد تفاصيلها الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبوسن الذي استقى الحديث من صاحبة الشأن شخصياً برفاعة حوالي العام 1950م عندما كان طالباً بحنتوب الثانوية، يقول: (مسدار المطيرق هو المسدار الثاني المروِيُّ عن الحاردلُّو، وهو شعر حواري تم بينه وبين أخيه وصديقه عبد الله ود أبو سن، وللمطيرق قصة ينبغي أن يلم بها القارئ قبل قراءة الحوار، قيلت هذه القصيدة في جارية شهيرة تسمى "الرضية بت السُّرَّة" كانت ذات جمال وحَسَب، وكانت لها جواري يخدمنها، عاشت برفاعة وتوفيت في الخمسينيات وقد جَلَسْتُ إليها وهي متقدمة في السن وقصت عليَّ القصَّة بحذافيرها، قالت: "تواعدت مع الحاردلو وجئت إليه آخر الليل، فوجدته يغطُّ في نومٍ عميق، فما كان مني إلا وقفلت راجعة وأخذت المطيرق وهي عصاه الشهيرة التي ينقر بها الأرض عندما يأتيه شيطان الشعر، أخذتها لتقف دليلاً على وفائي بالحضور في الموعد المحدد". افتقد الحاردلو المطيرق فجاءه الخبر أنها عند "برنجي الحِلَّة" ولم يسرقها أحد كما كان يظن، وجاءه الخبر من أخيه عبد الله، ولعل الجارية قد أسرَّت لأخيه عبد الله لأنها تعلم قرب صلته بأخيه، فجلس الأخوان يندبان حظ الحردلو ويلومان غفوة عينه في تلك الليلة، وسعد النائمين الذي لا يسعف صاحبه ولا يجبر كسره، وقد كان الأسف في تلك الليلة ليس لفقدان المطيرق ولكن لفقدان من حملت المطيرق معها، فكما قال عبد الله: "هي بقت سبب والمعنى لى من شالها".

    واللطائف والطرائف تقع أيضاً في الشعر الحواري من الدوبيت والمعلوم أن الحوار في الدوبيت قد يتم بين شاعرين أو بين الشاعر والمحبوبة أو بين الشاعر والجمل، ويديره الشاعر نفسه ويتولى قوله، ومن الحواريات الطريفة ما دار بين الشاعر أبو عاقلة محمد حسّان وقلبه! نجتزئ منها المربعين التاليين، يقول الشاعر لقلبه:
    ريدِن مـن قديم أنا كُـت مسيهو لباسي
    واتْ الليله  أصبح تركـو عِـندَك قاسي
    كل ما تهفَّ ليك النايره ام  كلاماً راسي
    نقراتك تزيد وانا يا دوب  كِتِر هُلواسي
ويرد عليه قلبه قائلاً:
    الزايدات عدد نقراتي غرب وشمـال
    ريلاً ساكنات أرضاً عـزاز ورمـال
    عزيزاتاً يحوزن زوق أدب  وجمـال
    شريفـات النفوس  اللبسن الخلـال
    وننتقل الآن إلى وقائع تاريخية مازجت طرافتها حكاية وتناقض، ففي أواخر القرن التاسع عشر حدثت قصة حب شهيرة كان بطلها شاعرنا إبراهيم ود الفراش، الذي تعلق بفتاةٍ تدعى "الدون لحق"، والدون لحق جارية كانت تمتلكها أسرة عريقة من الجعليين، والدون لحق اسم يعني "عز الذليل"، وكان من عادة النساء في ذلك الوقت تسمية جواريهن وغلمانهن بأسماء تشير إلى مدح أزواجهن وذمِّ أعدائهن، وكانت الدون على جانب عظيم من الجمال، ذات ألفاظ ساحرة وجاذبية شديدة، سمراء اللون بادنة القوام، وعندما تعلقت الدون بود الفراش قرر أن يتزوجها رغم معارضة ذويه، فكيف له أن يتزوج من أَمَةٍ مسترقة ودونه الحرائر، وعندما لاحظ والده تلك الهدايا الثمينة التي كان يقدمها إبنه للدون أمره بألا يتلف المال في مثل هذه الهدايا فقال ود الفراش:

الدون حبابا
أم شعراً متل وتر الربابه
أبوي فراش كان شُف جِعابا
تجرد المال جرد تخلي الدار خرابه!!
 
ومن ثم برزت الدون في أشعاره كَوردةٍ يانعةٍ وأمل مقبل:
         جــيـب  لــي مـتــونـا
      نامـت وانتكت  تعجب عيـونـا
     قصيبة المر نيعة الفي مـرونـا
     تلم الدون عليْ  يـا ود حسونه
وظل ود الفراش يصف الدون في كثير من شعره كقوله:
     مــاهـــا  الـسـمـيـنـه
     عـناق الـتـوتو الخَضَّر عسينا
     تقرد الديس على الربه الدهينـه
     بتـسنـد تقـول ماسكاها  طينه
وقوله:
     مــا هـــا  ام  كُــراشــه
     عـنـاق ام سومر الخَضَّر  رشاشا
      شبيهة الدون جَديةً ضاربه  قاشـا
            لهيج الدون بيروي اتنين عطـاشا

    وظل شاعرنا في هيامه بالدون إلى أن غاب ذات مرَّة لمدة طويلة منشغلا بعمله الحكومي فعلق بها شاب وعلقت هي الأخرى به، وكان نتيجة هذا الغدر أن هجاها ود الفراش مُر الهجاء، وانقلبت صورتها في ذهنه من ذلك الجمال الفريد إلى قُبح شديد، واستحالت في نظره إلى مجرد أَمَةٍ، وهذا ما سنستشفه في بعض مربعات هجائه لها. يقول:

    بعــد مــا  كــنــتِ  زيــنـه
    بـفاشيـــبك بنات عـرب الجـهينه
    غـيـرت الـمـحبَّـه بـقيـتي شينه
    تشابهي العُشره في وســط الجـنينه
ويقول:
    بـعـد مــا كـنـتِ  ظـايـطـه
    مِتل باشة عموم إنْ جِــيتي فايـته
    غيَّرتـي الـمحبَّـه بقيتي شايـطه
    تشابهي الكـلجه الفي الحَجَرَه بايته
ويقول:
    لا تجالس الخديم  لــيـهم تقرِّبْ
    وتبقالن حبيب للمال تــخــرِّبْ
    يقيدن سمعتك  فَد يوم تــغـرِّبْ
    ولا تسأل طبيب  أسـأل  مجـرِّبْ
ويقول:
    كـم  شويـمت بي عـقبه ونتيله
    بجيب مصروف  كتير ما بقي حيله
    بريدك من زمـن مُـدداً  طويـله
    خسـاره حبي في الخادم  الرزيله
    إن اللطائف والطرائف في الدوبيت الغزلي لا يمكن الإحاطة بها جميعاً، ولعل هجاء ود الفراش للدون لحق يكون مدخلنا للحديث عن طرائف ولطائف الدوبيت الهجائي، والهجاء في شعر الدوبيت السوداني باب عقيم فقد نفوذه ووزنه، وقل اهتمام الشعراء والناس به مع مرور الزمن، فأضحى الهجاء المباشر فيه نادراً، وهذا أمر يتعلق بطبيعة الشخصية السودانية التي تتحرج من سماع الإساءة وعيوب الآخرين وتتحاشى قول ذلك، لذا نجد النماذج الهجائية في شعر الدوبيت تميل نحو الفكاهة والصور الكاريكاتيرية في غالبيتها، كما تجيئ في أحيان كثيرة مرتبطة برفد قيم مجتمعية مستحسنة وذم صفات مجتمعية مستقبحة، وكثيراً ما ترتبط أشعار الهجاء بالفخر، ونادراً ما تكون وجهاً مقابلاً للمدح، ويحضرني هنا قول مهم للأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل إذ يقول: (من المألوف أن ينظر الناس إلى الهجاء على أنه الوجه المقابل للمدح، ولكننا أميَل إلى ربطه بموضوع الفخر، لأن المناسبة النفسية بين الفخر والهجاء اقرب، فالنقلة بين الفخر بالنفس وهجاء الآخر يسيرة وقريبة، بل إن الفخر وحده قد يتضمن- بطريقة خفية وغير مباشرة- الانتقاص من شأن الآخرين، وبنفس القدر يكون الهجاء متضمناً بنفس الطريقة الخفية غير المباشرة الاعتزاز بالنفس).
    ورغم اختلافي مع الدكتور عز الدين في هذا الرأي، إلا أنني أجد له بعض التعزيز في بعض النماذج الشعرية، كقول ذلك الشاعر الذي ينتسب إلى قبيلة الجعليين الذي يفخر بقومه، إلا أن فخره جاء مرتبطاً بالانتقاص من شأن الآخرين، يقول:
    فـرسان دار جعل ديـل البفشوا الوجعه
    والخاتـي الـبجيهن مـا بضوق الرجعه
    قـالـوا بـهـددونا بسببوا لينا الفزعه
    أبشر يـا اللّسد كان جات  تكاتلك ضبعه
    على أن ذات المنطق الذي استند عليه الدكتور عز الدين، يكوِّن أساساً لتقارب مماثل بين الهجاء وبعض الأبواب الشعرية الأخرى كالمدح مثلاً، فعندما مدح الشاعر محمد ود أحمودةُ الشيخَ عمارةَ محمد أحمد أبو سن، وصفه بالشجاعة ورباطة الجأش، بينما وصف الآخرين بأن قلوبهم لم تكن ثابتة لتواجه الحرب مثلما يفعل الشيخ عمارة، وفي هذا انتقاص من شأن الآخرين.
يقول ود أحمودة:
    ممـا قام صغيـر ماجاب كلمتن  ضالعه
    اتـبرسـم ضحك يوم الـحرابة الطالعه
    وكت الشوف يشوف يوم القلوب متهالعه
    سـدرك زحمة النَّار أم  هبوبـاً قـالعه

    وعلى ذلك يمكننا أن نقيس المقاربة والمداخلة بين الهجاء والغزل، فوصف المحبوبة بالجمال قد يترافق معه وصف رفيقاتها بالقبح أو بأنهن أقل جمالاً، والتداخل هذا قد يكون أيضاً في الرثاء وفي الوصف، وهذا ما دعانا للاختلاف مع الدكتور عز الدين رغم احترامنا لرأيه وما أسبغه عليه من تحليل، ورغم ما يبدو من تداخل في أبواب الشعر احياناً، إلا أننا نرى أنه ينبغي للهجاء أن يكون باباً مستقلا من أبواب الشعر بمعناه المألوف والمتعارف عليه، وكوجه تغلب عليه الصورة المقابلة للمدح، رغم ما اعتراه من وهن وهجر خاصة عند شعراء الدوبيت السوداني، إذ لم يجد الهجاء اهتماماً كبيراً لديهم، وكما ذكرنا فإن نماذجه لديهم يغلب عليها الاتصال بالقيم وبالصور الكاريكاتيرية المضحكة.    
    ويرى بعض الباحثين أن المتعة وإثبات الذات أحد أسباب ودوافع الهمبته، غير أني أرى أنها ليست دافعاً أو سببا رئيسياً لنشوء الهمبتة، إنما كانت سببا لاحقاً ساهم إسهاماً محدوداً في استمرارها، إذ إن للهمبتة أسباباً قوية ساهمت في استمرارها، وأخرى ساهمت في نشوئها، بيد أن ما لفت انتباهي أن الهمبتة صارت تمثل في وجدان من ولج إليها شيئاً عزيزا، وأضحى أمر التخلي عنها صعيباً، وتحضرني شهادة تحمل قصة طريفة رواها لي الإداري والشاعر المعروف كامل عبد الماجد أحمد زين، عندما ذكر لي أنه عندما كان محافظاً لمحافظة بارا، بإقليم كردفان، أراد أن يتعاطى مع ملف الهمبتة بهدوء وعقلانية وحكمة، واقترح أن تقوم محافظته بمساعدة أساطين الهمباتة في المنطقة لأداء العمرة، ليكون أداء هذه الشعيرة باباً يَلِجون به نحو التوبة، ومن ثم يعودون إلى المجتمع بفكر جديد وصالح، وبالفعل نُفِّذ الاقتراح وسافر ثمانية من الهمباتة تحت قيادة أحد كبار عُمَدْ المنطقة على نفقة المحافظة لأداء شعيرة العمرة، وبعد انتهائهم من المناسك الخاصة بالعمرة، سلكوا في طريق عودتهم طريق المدينة – جدّة، فرأى أحد المعتمرين من الهمباتة إبلاً في الطريق، فأدام النظر إليها وقال للعمدة: "والله لولا هذا البحر لقدناهنَّ إلى دار حامد!" ثم أخذ يقول:
    قـدر ما اقول أتوب إبليس يلولِح  راسـو
    يقـول لـيَّ لا تُّوب التابـو قبلك خـاسو
    أفـرَح وانبسِط عـنـدَ المِدوِّر كـاسـو
    بـابَ التّـوبـه فـاتح ما انقفل ترباسو ..!
وجاراه أحد الهمباتة الثمانية الآخرين ويُدعى الهادي قائلاً:
    قـدُر ما أقول أتوب إبليس يقبِّل غـادي
    يـقول لـيَّ لا تُّوب إيّـاك كبير أولادي
    أفـرح وانـبسط  عِنـد أم  قريناً نادي
    باب التوبة فاتح ما انقفل يا الهادي ..!
    وقد بدا لي أن الهمباتة يتمسكون بالهمبتة ويحنون إليها حنيناً جارفاً، حتى لو كانوا يواجهون موتاً حتمياً، فعندما أُوقتيد أحدهم في خريف عام 1984م إلى غرفة الإعدام، رأى وهو في طريقه إلى حبل المشنقة السماء وقد أرعدت وامتلأت سُحُباً، فأثار ذلك في نفسه معاني شتّى، كذكرى المحبوبة وذكرى أيام الهمبتة، التي تزدهر في أيام الأمطار والخريف، وأخذ يقول:
    وين دوديتي وين كبّيتي يا ام برق ام سحاباً شايلْ
    شـن سـوّيـتـي فـي الكِتره وقـليـعات نايلْ
    واحديـن سـاروا وواحديـن  بسوقوا الشايـلْ
    مـعـاكِ سـلامـه يالـدُّنـيـا ام نـعيماً زايلْ
    إن اللطائف والطرائف تتناثر تناثراً متكاثفاً في شعر الدوبيت السوداني، وتشمل كافة أبواب الشعر فيه تقريباً، ومن السهل أن يستزيد منها المتلقي من أفواه الرواة، وأن يتتبع آثارها في المصادر الأدبية الشعبية، وما اقتطفناه منها كان خيارنا المميز لختام هذا المقال.


اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]

 

آراء