قصة شاعرين: طه الضرير في ذاكرة ووجدان الطيب ود ضحوية
2/3
في درب الهمبتة إلتقى الطيب ود ضحوية بطه الضرير وهو طه محمد أبوزيد، عُرف بعدة القاب كأبوالزينة، وود أب زيد، وغلب عليه لقب الضرير، وقد خُلع عليه هذا اللقب بسبب ما اعترى بصره من ضعف، ورغم ذلك كان خبيراً بدروب البوادي ومسالك (الوعرات), ومن المواهب النادرة التي كان ينفرد بها أنه كانه يتعرف على المكان من خلال شم تربته... وقد إرتاد طه آفاق الهمبتة منذ بواكير صباه، إذ ولجها وهو لم يتعد السابعة عشرة من عمره، مما أكسبه خبرة وتمرساً عظيمين، واتسمت شخصيته بالقوة وكاريزما القيادة، وهي صفات أهلته لأن يكون قائداً لمجموعته، كما صار خبيرها ودليلها. يقول الطيب ود ضحوية:
واحدين في البيوت ديمه مكبّرين عَمَّامُن
عدموا الحيلة والزول أب عوارض لامُن (1)
واحدين صنددوا وختوا الضرير قدامُن
طبقوا العودة للماسكات عِداد أيامُن (2)
وأبرز من ضمته مجموعة طه إلى جانب صديقه الطيب، على ود الفقير: وكيقه ودعمران، وقريبه الصديق ود التركاوي الذي كان يلقب بالعمدة، وبأب تَرَمة. وكان أب تَرَمة شجاعاً ومقداماً ذكره طه في شعره كثيراً كقوله:
بي يوم الخميس قوز بره متيامننو (3)
وكش أب تَرَمة قدامنا ومرقلنا جنو (4)
كم فزعاً لحقنا حمدنا بيض أب سِنو (5)
يا ريت السيوف لو تحكي بالفاعلنو
وطه إستحق القيادة عن جدارة، فقد كان يهتم بأفراد مجموعته إهتماماً كبيراً، ومن العجيب أنه كان يسلّم نفسه إن كان مطلوباً لدى البوليس، أو ان يقوم بمغامرة إن لم يكن مطلوباً وكان أحد أفراد مجموعته محبوساً، وذلك بغرض أن يقوم بتهريبه من السجن، وعندما حبس قريبه الصديق عثمان ود تركاوي في إحدى السجون ثقل عليه الامر وأحزنه فقال:
الخبر السمعتو الصديق مقفل جوه
حالف ما بقيف دونوإن بقيت في هوه
صقر الميتره الدايمن بيقلع قوه (6)
بتب عجلان على البقول يا مروه (7)
ولد طه الضرير ببلدة أبودليق في العام 1901م، وتوفي فيها العام 1980م، وينتمي إلى قبيلة البطاحين، فوالده علامابي، ووالدته عركشابية، وتنتسب جدته لأبيه إلى فرع الشرحاب. وقد أشتهر طه بعدائه الشديد للانجليز، وله مواقف مشهودة معهم.
جمعت بين طه والطيب وحده المصائر، وإتحاد المصالح، وصداقة متينة الجذور، وإلفة لا تدانيها إلفة، فكانت علاقة شهد لها الجميع بعلو الشأن، وذيوع الصيت، وقد رفداها بقيم العُربان، وأخلاق الشجعان، وكانا يعلمان أن دربهما وعر المسالك، ومحفوف بالمخاطر، لذا لم يكن غريباً أن يقع طه ذات يوم في أيدي السلطات بتهمة النهب، وصدر عليه حكم بالسجن لمدة سبع سنوات، والغرامة مبلغ خمسون جنيهاً، على أن يحبس لعامين آخرين في حالة عدم دفع الغرامة، وتم إيداعه بسجن القضارف مشددين عليه الحراسة، وعندما أُبلغ الطيب بهذا الخبر العاصف هبط عليه عناء ثقيل، تهالك تحت وطأته على الأرض، وأطلق زفرة حرى، وأطرق عن دمعة حزينة.. وأخذ يقول:
الليلة النفس صبحت عنيدة وعامدة (8)
وما بتتسلى غير برقع حميدة وحامدة (9)
يا حليل الرباع أبان قلوباً جامدة (10)
ناس طه الضرير ضو القبيلة الهامدة (11)
ثم قفز طه إلى ذاكرته بقوة وبصور شتى، فهو صديق الصبا، وعهد المشيب، ورفيق دربه، وحامي ظهره، وحافظ سره، وتذكر كيف أن طه قد زاره بمسقط رأسه قرية الضيقة، وكان وقتها يعاني من أزمة مادية ومعنوية، بسبب قرار عابر إتخذه إرضاءً لوالده وبعض أهله، وبموجبه إمتهن الزراعة التي لا يعرف أسرارها ولا يعلم أصولها فسامته سوء العذاب وأتلفت ماله، فقال له ألست القائل:
كم عتمرتبن فوق قجة العبادي (12)
وكم غصتلن من الدنادر وغادي (13)
أكان مي قسمة يا الديفة أم قريناً نادي (14)
ما خصّانا بي زراعة الفشق والوادي (15)
وألم تقل:
الليلة التغمد يا حسن مفقود
كنس قلبي فوق لوز التبس والعود (16)
أكان مي قسمة يا الديفة الوضيبا بقود
ما خصّانا بي زراعة ودي مسعود (17)
هذه المواساة التي أحبّها الطيب، والتي إنداحت من قلب طه كانت من الواجبات التي فرضتها صداقتهما المتينة، مما دعا طه حينها أن يكثر ويسهب في القول، وهو يحاول إقناع صديقه بالعودة إلى الهمبتة وترك الزراعة التي لا طائل من ورائها، وعندما أحس طه أن الطيب لم يخرج من دائرة التردد، ذكّره بكل أبيات الفتوة والحماسة التي ظل ود ضحوية خادماً لقوافيها طيلة حياته، وعندما أنشده المربعين الذين يقول في أولهما:
ماني التمبل الفي البيت صنعتي حليب (18)
بدور الشدة فوق إبلا شوافي ونيب (19)
إن حرن نخت الشكرة ما بنعيب
وإن بردن نكافيبن سوالف أم طيب
وفي ثانيهما:
ولداً بطبق المسرى فوق المسرى
يخلف ساقو فوق ضهر أب قوايم ويسرى
حقب قربينو فوق جربانو خت أب عشرة (20)
فرقاً شتى من ناس يمه زيدي الكسرة..!
أخذت تختال في خاطره أطيافُ غابرهِ، وهب واقفاً وأخذ ينظر إلى الفراغ، واتجه نحو جمله (السحار)، فأسرجه ووضع عليه كل ما يلزم أعمال الهمبتة، ولا تزال تلك الإبتسامة التي علت وجه صديقه طه الضرير والتي تدل على الرضا عالقة بذهنه عندما كان يترنم بشعر لأحد الهمباتة حاكى حاله في تلك اللحظة:
ختينا السروج في النوق بعد ما ادّّلن
وطوينا السلوب يا أم ريد بعد ما انحلّن (21)
ليالي الراحة يا السوسيو بشوفن ولّن (22)
على الواحيّة مجبور والدراهم قلّن (23)
ثم استرجع ود ضحوية ذكرى اجتماعهما على ما أحبه فؤاديهما من صنوف المغامرات وركوب المصاعب والمخاطر وفاءً لتلك القيم التي يحملانها في صدورهما، وتذكر كيف ان ركبهما إتجه غرباً نحو جبرة القابعة بدار حامد القاصية من أجل النهيض، ولم تكن مغامرتهما سهلة أو يسيرة، إنما كانت شاقة وعسيرة، فقبل ان يفوزا بغنيمتهما من الإبل، تعرضا لوابل من الرصاص، ودارت معركة عنيفة بينهما والأبّالة، إنتصرا فيها إنتصاراً مبيناً، وهاهي غنيمتهما من الإبل تتهادى أمامهما وقد إمتلاءاً زهواً وفرحة والطيب ينظر الى طه ويقول:
جبرة بعيدة ما اتسّف على السواها
الغابة أم كتر بي حزمو عقبان جاها
الأكل السلات الكسرة ما بنطراها
نصرف رزمة لي ست الكيوف يا طه
غير أنه لم ينس تلك المغامرة التي ضمته مع صديقه الحبيس عندما إقتادا إبلاً من قبيلة البازة على الحدود الحبشية، وأن رجال البازة الأشداء فزعوا على أثرهم بأسلحتهم النارية والبيضاء، وحاصروهما حصاراً محكماً، وفي هذا الموقف الذي تعجز فيه الألسن عن النطق، قال الطيب لطه وهو يستثير شجاعته وصموده بلغة خاصة:
زمنك كلو تاكل باردة ما ضق حارة
وأطرى الليلة يا طه أم حمد والسارة
درق البازة جاك زي السحابة التارة
وحس أب جقرة والقربين صواقعاً كارة
غير أنه لم يجد من صديقه إلا الشجاعة والبسالة حينما رد عليه قائلاً:
باكل حارة ما ضُق باردة ماك داريني
واسعل مني ربعاي البعرفوا قريني
حس أب جقرة والقربين دوام طاريني
أنا أخو اللينة كان يبقى الحديث عانيني
وتذكر كيف كان لهذا الشعر من أثر عميق في نفسيهما، وكيف زادهما شجاعة وإقداماً وصموداً الى أن تحقق لهما النصر على فزع البازة الذين تركوا أرض المعركة وفروا ناكصين على أعقابهم كما فرت حُمرٌ من قسورة، ثم سرت ارتعاشات سكرى غشت كيانه ورجّت وجدانه رجاً عندما سمع صديقه الضرير يقول:
كم شديت على تيساً بتب بي عقالو (24)
خرت الدرعة بي عزمو وطرح شيالو (25)
مريبيت البشاري أب مسكنا جبالو (26)
ود ضحوية منك وا درادر حالو (27)
فقفز من جمله وضرب الأرض برجله وهو يحاول ان يرد الفضل بالفضل ويقول:
أبوك يا الزينة عكاهن قبض في روسن (28)
الهوج والشرق فوق العواتي بكوسن (29)
أمسوا الليلة بي الصنج الكتير جاموسن (30)
نووا العودة لي الغاليات ورفيع ملبوسن
هكذا كانت تسير بهما الحياة وتعطيهما من أليفها ووريفها ما تمنياه، ومن لدنها الرفقة الأنيسة، ومن أغوارها الصحبة النفيسة. ولكن أين هما الآن من كل ذلك وقد باعدت بينهما ديار القهر والهوان وظلام الزنازين الآثمة.
نقف هنا قبل أن يفيق ود ضحوية من رؤاه وذكرياته وسندرك في الجزء الثالث والاخير من هذا المقال كيف تصرف الطيب ود ضحوية حيال محنة صديقه طه الضرير.
1- الزول أب عوارض: يقصد المرأة.
2- عداد أيامن: أي يحسبن الأيام ترقباً للقاء.
3- قوز برة: هو إسم لموضع. متيامننو: أي على يمينه.
4- كش: تقدم وهو يزيل.
5- المعنى العام للشطرة أنهم تغلبوا على جميع مطارديهم.
6- الميترة: المعركة وساحتها، وقعنا عليها كذلك بمعنى الصخرة.
7- بتب: يهب متعجلاً.
8- عامدة: من عمد أي إشتد حزنه.
9- حميدة وحامدة: فتاتان من إحدى قبائل الشرق مشهورتان بالحسن.
10- الرباع: الأصدقاء والزملاء.
11- إحتج البطاحين لدى الطيب عندما ظنوا أن الشاعر يعني بالهامدة قبيلتهم غير انه أشار إلى أانه ما كان يعني سوى أن طه هو ضوء كل قبيلة هامدة.
12- عتمرتبن: أي ضربت بهن الصحراء فالعتمور هي الصحراء. القجة: أعلى الجمل أو سنامه، العبادي: جمل الشاعر.
13- غصتلن: من غاص ويقصد البعد والدنادر مناطق نهر الدندر.
14- الديفة: الظبية الصغيرة تشبه بها الحسناء.
15- الفشق: لعلها من الفاشوق وهو جزء من الساقية.
16- التبس: الزرع المتيبس بعد قطعه.
17- ودي مسعود: ودي تصغير وادي ووادي مسعود هو أحد الأودية التي يزرع بها الضحواب.
18- التمبل: قصير القامة ذو الكسل والتبلد.
19- الشوافي: القويات. النيب: مفردها ناب وهي الناقة المسنة.
20- القربين وأب عشرة : نوعين من الأسلحة النارية القديمة.
21- السلوب: الحبال.
22- السوسيو: اسم جمل الشاعر.
23- الواحية: الصحراء أو الفلاة في البادية.
24- التيس: الجمل.
25- الدرعة: ما يدرع به الجمل حول عنقه.
26- مريبيت البشاري: المقصود هو الجمل البشاري وهو نوع جيد وسريع. جبالو: جباله.
27- درادر: من دردر وتعني أتعبه وأساء استخدامه.
28- الزينة: إبنة طه الضرير. عكاهن: من عك أي أنهك وأضنى والضمير يعود للإبل المنهوبة.
29- الهوج: هي المنطقة الجغرافية الواقعة مابين النيلين الأبيض والأزرق.
30- الصنج: الفلاة.
اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]