المدن السودانية في شعر محمد سعيد العباسي 3- 3 … بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 


رأينا كيف وقف العباسي بأطلال قصر بادى أبوشلوخ بمدينة سنار، وكيف أن هذه الوقفة قد أعادت إلى ذهنه تلك العلائق التاريخية الحميمة التي كانت تجمع بين أجداده وملوك سنار فتحرّكت في نفسه دواعي الوفاء عندما أخذت الذكرى تنتابه وتأخذ من أحاسيسه شيئاً فشيئاً. وها هو يرى سنار الحديثة وفي خاطره تختال أطياف غابرة فبدى له عزها القديم وتراءت له القباب المزدانة والأعلام الخفاقة والخيول الضامرة والصاهلة في ميادينها ورحابها، غير أن اللحظة أحالته إلى أسى عميق فغلبت على نفسه لهفة أخاذة وهي تسلك في حقيقة الزمان الذي أفنى ملوك سنار فأصاب وارثيهم الشقاء والهول وتبدل العز هوناً ونعيم الحياة بطشاً وكداً، ومن بعد ركوب عشواء ضالةٍ لا يرشدها الضياء ولا يقودها النور فأنشأ يقول وكان يُرى في بعض قوله وكأنه حفيد سناري:
لهف نفسي فقدت يا قبلة الخير * كهولاً حموا حماك ومردا
كنت مثوى للأكرمين وميداناً * رخيّاً لخيلهم ومندى
ورحاباً قد زينت وقباباً * زان أرجاءها مليك مفدي
عاش ما عاش وهو جد أبي * لم يعفر لغير مولاه خدا
عجمته الخطوب وهي شداد * فأثارت منه الخشاش الأشدا
وبنوداً تهفو وخيلاً تنزي * بالأناسي سادةً وعبدا
أرخصوا في هواك كل عزيز * فتباروا في الحرب والسلم جندا
فرقتهم يد الزمان أناديد * وما خلفوا لعمري ندا
قد شقينا من بعدكم فوردنا * يا كرام الحمى من الهول وردا
واستعضنا من ذلك العز هوناً * ونعيم الحياة بطشاً وكدا
وركبنا عشواء لا يأمن الركب * عثاراً ولا يؤمّل رشدا
قدر غالب وهل يملك الناس * جميعاً لقدرة الله رداً؟
ثم تحين من العباسي إلتفاتة لسنار الحديثة فيتفوق على نفسه وهو يصف خزانها بأبيات يفسدها الشرح والتحليل.. قال فيها:
قف تأمل هذي العجائب وانظر * شامخاً يحسر العيون استجدا
واجل ناظريك فيما اصطفى العلم * لأحباره وما قد أمدا
غاص بناؤهم فأخرج بالفن * وآياته من النيل طودا
بفؤاد لم يدرع هيبة الروع * كأن سل أو من الصخر قدا
وانسياب المياه بيضاً عراباً * صيرتها عجاجة الحرب ربدا
بإنحدار كأنه غير منقوص * أكف الكرام واصلن رفدا
ثم تستمر قافية العباسي الدالية لتقف على المردود العظيم لسد سنار الذي بفضله ارتوت من النيل السهول واخضرت الجزيرة فبدا له السد كإنجاز علمي بشري كبير وضخم دفعه دفعاً ليلج إلى منبع مهم من منابع الرمز ليستلهم التراث الديني والتاريخي والأسطوري فبدأ يشبه السد بسد ياجوج وصانعوه بجن سليمان وانتهى بتقرير أفاد فيه أن ما رآه أحكم صنعاً.
مد للناس من رواقيه فأعجب * لمنيل أفاد جزراً ومدا
غمر السهل بالجزيرة حتى * لتراءت في زيِّ حسناء غيدا
زارها النيل وهي قفر يباب * فاكتست من نسيج يمناه بردا
كم بها من ندىً ومن بركات * قد بدت للعفاة لما تبدى
لا أقول: الصناع جن سليمان * ولا السد سد ياجوج مدا
فلعمري هذا لأحكم صنعاً * شاده اليوم أعظم الناس أيدا
ورغم إعجاب العباسي بالسد إلا أنه ومن خلال ومضة شعرية رائقة فيها ما فيها من أسرار الإبداع التي تجلب الدهشة والإعجاب يحني على النيل عندما بدا له كحبيس يعاني من القيد وككريم معطاء علموه الشح والتقتير وبذلك جعل العباسي للتعارض والتناقض ألقاً وسحراً فالنيل تارة يزور الأرض اليباب ويمنحها ماء الحياة فتكتسي بالخضرة الزاهية وتارة يحبس ماءه فيبدو شحيحاً ونحيلاً وهذه ليست صفة النيل وسمته إنما هي عمل السد ودوره.
نحن جيرانك الضعاف عنانا * ما تعاني يا نيل حبساً وقيدا
كنت فينا بالأمس براً حافياً * ما لهم علموك شحاً وقصدا
ثم بدأت مخاطبة العباسي للمهندس الإنجليزي (جبسن) الذي بنى السد وهي مخاطبة أخذت تعلو بعيداً في مدارج الرقي عالج فيها الشاعر معتقدين اصابهما الواقع بحرج التعارض، فالمعروف ان العباسي يعتقد في قيمة العلم والتعليم اعتقاداً راسخاً وما قصيدته (يوم التعليم) ببعيدة عن الأذهان. فيها يقول:
العلم يا قوم ينبوع السعادة * كم هدى وكم فك أغلالاً وأطواقا
فعلموا النشء علماً يستبين به * سبل الحياة وقبل العلم أخلاقا
أقسمت لو كان لي مال لكنت به * للصالحات وفعل الخير سباقا
ولا رضيت لكم بالغيث منهمراً * مني ولا النيل دفاعاً ودفاقا
إن الشعوب بنور العلم مؤتلقاً * سارت وتحت لواء العلم خفاقا
كما ان عقيدته تنطوي على كراهية عظيمة للمستعمر الإنجليزي، غير أن العلم الذي أحبّه العباسي اجتمع في المستعمر الذي لا يحبه العباسي وبالعلم شيّد سد سنار، وهذا ما عنيت عندما قلت حرج التعارض ودعونا نتأمل كيف استطاع العباسي أن يعالج الأمر وهو يوقِّر ويحترم العلم وفي ذات الوقت يتمنى الرحيل لهؤلاء الإنجليز البغاة، وذلك من خلال مقطع شعري ضمنه قصيدة سنار وهو مخاطبته لجبسن وكأنما أراد العباسي بهذا المقطع أن يصنع معجزة يقول:
جبسن إسمع أوليت قومك فخراً * وثناءً يروي وأوريت زندا
نحن من قد علمت وداً وأنت * المرء يولي الإحسان بدءاً وعودا
جئت في السد بالعجاب فهلا * شدت بين البغاة والناس سدا؟!!
بعد حين ترجمت هذه الأبيات ونشرت في كل الصحف الإنجليزية آنذاك بلندن بعد أن أوهم أعضاء من حزب الأمة المستر جبسن وهم يزورونه بضاحية من ضواحي لندن بأن العباسي معجب به وأنه قد ذكره في شعره مادحاً، وقد أراد بالبغاة المصريين، فعلّق العباسي على هذا الأمر مخاطباً رئيس حزب الأمة قائلاً له: أتوسل إليك بكل من تحب ألا جمعتني بأكبر رأس إنجليزية في هذا البلد أي الخرطوم لأفهمه إنما عنيت الإنجليز، أما المصريون فإنهم اخوتنا الأقربون. فصمت رئيس الحزب ولم يجب.
ومن بعد تسير قصيدة سنار إلى انتهاء لتحمل في طياتها نصح الشاعر لقادة البلاد والرأي وتمتلئ بالحكم ودعاوى الإئتلاف ونبذ الخلاف وبذل المال للعلوم والإخلاص للوطن.
كانت سنار هي المدينة الوحيدة في شعر محمد سعيد العباسي التي تقع جغرافياً خارج بادية الكبابيش فقد عرف العباسي بحبه الجارف لبادية الكبابيش، ولهذا الحب أسباب تتسق ونفس العباسي التواقة للحرية والانعتاق من القيود والأسوار والباحثة عن البساطة والصدق والمبتعدة عن التكلفة والصنعة اللذين يعتوران حياة المدن الاجتماعية، وقد وقعنا على ما يدل على ذلك من خلال ما أورده الأستاذ حسن نجيلة في كتابه (ذكرياتي في البادية) إذ يقول:
[وفي حي (أولاد طريف) حيث يعيش عدد كبير من أحبابه ومريديه، كنا نجلس مع أولئك الأحباب وهم يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم وكانت نساؤهم وبناتهم من حولنا، في براءة يتقدمن إلى الشيخ العباسي ويقبلن يده في إكبار واحترام].
وقد بحث الباحثون والنقاد عن أسباب حب العباسي العميق لبادية الكبابيش وقدروا عدداً من الأسباب أجملوها في ميله الطبيعي للفروسية وحبه للمغامرة والصيد والأسفار والتنقل يساعده على ذلك فتوته البادية وقوته الظاهرة اللتان تتلاءمان وخشونة الحياة في البادية، هذا وأن البادية قد بدت له كبديل جغرافي مناسب يبعده عن أجواء الخلافات مع بني عمومته في شأن خلافة السجادة السمانية ومن ضمن تلك الأسباب كراهيته للإنجليز الذين جعلوا من المدن ديار هونٍ وقهر لا بد أن تقاوم بالثورة التي قد يعينه عليها البدو الذين أحبوه وأحبهم، خاصة وأنه مؤهل للقيام بذلك لما يمتلكه من مزايا القيادة ولما ناله من العلوم العسكرية. الحقيقة التي لا مراء فيها أن الإنجليز قد خاب ظنهم في العباسي، وعندما رأوا فيه شخصية مهمة ومؤثرة تتسم بالوقار والعلم والثقافة العالية والأدب الرفيع أرادوا أن يستميلوه فعرضوا عليه منصب قاضي مديرية الخرطوم وهو عرض لاقى من العباسي رفضاً تاماً، لأن العباسي كان يستهجن كل من يقبل من السودانيين منصباً يمنحه الإنجليز زلفى وفي هذا الشأن قال العباسي:
فما بي ظمأ لهذي الكؤوس * فطوفي بغيري يا ساقية
على نفر ما أرى همهم * كهمي ولا شأنهم شانيه
طلبت الحياة كما أشتهي * وهم لبسوها على ماهيه
شروا بالهوان وعيش الأذل * ما استمرأوا من يد الطاهيه
فباتوا يجورن ضافي الدمقس * وبت أجرجر أسماليه
على أنهم - أي النقاد - رأوا أن استمرار حب البادية في نفس العباسي والذي لازمه طيلة حياته يعود أيضاً لذلك الحب العنيف الذي نبت في قلبه عندما كان يتنقل بين أرجاء بادية الكبابيش. وفي هذا الصدد يقول نجيلة: [ بين ربوع الحمراء وأحيائها نبت في قلبه حب قوي عنيف ، وما كان لقلبٍ كقلب العباسي ووجدان كوجدانه المشبوب إلا أن ينفعل بهذا الجمال البدوي الساحر من حوله]. ولعلنا واجدون إشارات ملفتة لهذا الحب في قصيدته (دارة الحمراء) إذ يقول في ديباجتها:
قل للغمام الأربد * لا تعد غور السند
وحيّ عني دارة الحمرا * وقل لا تبتعدي
منازل يا برق أروت * أمس غلة الصدى
يا ويحها كم نظمت * شمل هوىً مُبدد
قالوا غداً يوم الفراق * قلت بُعداً لغدٍ
يا متهمون هل لكم * علم بحال المنجد
صب بكم أمسي يعاني * صرف دهر أنكد
عطفاً مليكي إن في * كفيك ثني المقود
وعندما نأت الديار ديار الحبيب في الحمراء بأرض بادية الكبابيش ثارت أشواق شاعرنا فأخذ يقول في قصيدته (ذكرى حبيب):-
فيا دارة الحمراء بالله بلغي * هناك حبيباً بين كثبانك الرُّبد
بأني لا أنسى وإن شطت النوى * ليالي وصال غير مذمومة العهد
منىً قد أخذناها من الدهر خلسة * بزهرة ذاك الحي في عيشة رغد
فلم يبق منها اليوم إلا حديثها * وطيف يريني الرد في صورة الوعد
أحن إليهم والديار بعيدة * وإن كان لا يدني الحنين ولا يجدي
ولا تني دارة الحمراء تحط في أشعار العباسي كفراشة ناعسة وتذكرة بطبيعتها الساحرة كالحتان جبل البادية والمناشط مراعي إبلها وحشائشها ونبتها من القصيوم والطباق وحبيبة
غابت في ظلمة السنين والفراق، فيقول في ديباجة قصيدته العصماء، (يوم التعليم( :-
يا برق طالع ربا الحمرا وزهرتها * وأسق المنازل غيداقاً فغيداقا
وإن مررت على الحتّان حيِّ به * من المناشط قيصوماً وطُباقا
ومن إذا سمعوا من نحونا خبراً * والليل داج أقاموا الليل إيراقا
إنا محيوك يا أيام ذي سلم * وإن جنى القلب ذاكراك إعلاقا
واليوم قصَّر بي عما أحاوله * وعاقني عن لحاق الركب ما عاقا
وأنكر القلب لذات الصبا وسلا * حتى النديمين: أقداحاً وأحداقا
غير أن العباسي لا يعميه هوىً يثور في الأضلاع عن أن ينفعل بتلك الحضارة القديمة التي تشي بها الآثار الموجودة بوادي هور. ووادي هور كما أشار العباسي يقع غربي السودان وحوله من الآثار ما يدل على أنه كان مثوى حضارة قديمة، فقد وجدت به حجارة منحوتة منها ما هو على صورة الناس وما هو على صورة القدح الكبير، وقد يسع الواحد منها ثلاثة أشخاص. وشرقي هذا الوادي عثر على كتابات وصور للناس والحيوان منقوشة على صخور، كما عثر على أوانٍ خزفية مختلفة الأشكال والأحجام.. كل هذا ألهم العباسي، الشعر والقصيد فكانت قصيدته (وادي هور) التي انتظمت في ثمانية وتسعين بيتاً ابتدرها كعادته بالنسيب وتعددت فيها الأغراض الشعرية من غزل ومدح وحكمة وسياسة وذكريات، بيد أن العباسي خص في القصيدة وادي هور بصفةٍ عزيزة إذ فضله على وادي النيل الذي أحبه ومثل عقيدته السياسية، ولم ينس العباسي صناع الحضارة في هذا الوادي من الأوائل. يقول:
سبحان ربي أين وادي النيل * من وادي هورْ
وادي الجحاجحة الأُلي * عمّروه في خالي العُصُرْ
وعواصم القوم الذين * بذكرهم تحلو السيرْ
من ذللو أصعب الزمان * وكم أقاموا من صعرْ
درجوا فما رد الردى * بيض الصفائح السمرْ
متكافئين وربما * فضل العزيز المحتقر
فكأن عهد فخارهم * يا قوم بدر فاستتر
أو أنه عقد فخان * العقد سلك فانتثر
ولم تكن قصيدة (وادي الربدة) لتختلف كثيراً عن قصيدة (وادي هور) غير أن الشاعر أكثر فيها من الهجاء ومن ذكر مصر، وقد حوت هذه القصيدة الرائعة التي رفلت في واحد وسبعين بيتاً، شعراً غزلياً قصصياً رقيقاً ومدهشاً، رأيت أن أختم به مقالي هذا عن المدن السودانية في شعر محمد سعيد العباسي يقول:
مررت بالحيِّ ضحى * أروض مُهراً أدهما
مرتدياً من الثياب * ضافياً منمنما
لقيتُه في أربع * بيض كأمثال الدمى
شابهن أزهار الربيع * وحكين الأنجما
أو الجمان نظموا * فريدة فانتظما
وقفت فاستسقيته * وشد ما بي من ظما
جاء بماء قلت هل * حاجة مثلي منك ما؟!
أنشدته من فاخر * الشعر رصينا مُحكما
فرق لي مستسلما * ومال نحوي منعّما
طويته طي الردا * متعت من فمٍ فما
نصرم الوصل وكيف * ردّ ما تصرما؟
اسعد العباسي [asaadaltayib@gmail.com]

 

آراء