سيكولوجيا الجريمة .. وسياسات الأفقار : “نموذج السودان ”
قطرة أولى : تكية على كتف ماما ميري
أحبائي : أعذروني ، على مابكم من هموم سوف أشكي لكم وأتكيء عليكم ، فأنتم شعب أكتوبر الأخضر وأبريل المجيده ، مفجري الثورات ومناهضي الظلم والدكتاتوريات ، أنتم أطباء وعمال وعاملات ومعاشيين مضربين ومعتصمين لأسترداد الحقوق كاشفين عن الصلابه والقوه رغم القهر ،أنتم "خالتي ميري وماما عشه " في الشوارع خلف طبق الكسره والفول المدمس وكفتيرة الشاي في صراع محتدم كل يوم من أجل لقمة العيش رافعات راية العزه والصبر ، أنتم الكماسره وعمال النظافه وجرسونات المقاهي تركتم شهاداتكم الجامعيه معلقه على جدران المنازل وغصتم في دهاليز لم تتخيلو يوما أنكم سوف ترتادونها محتملين أرتال الاحباط وخيبة الأمل من أجل اخوتكم الصغار وآبائكم الكهال ، أنتم مراهقون يغسلون العربات الفارهه في الشوارع تاركين مقاعد الدراسه وقلوب حبيبات الصبى فارغه الا من الصدى ، أنتم في المعتقلات يوما بعد يوم تموتون تعذيبا وتتكاثرون مبدءا وفكره . . . . . .
مابي هو أن ضغط الحيره أرهق نواة العصب فيني وكاد يشلني ، ان هذه البلاد لاتتيح لك فرصة أن تنعم بالصفاء الذهني والنفسي للحظه فتظل كالماكوك تحلل وتستنتج وتراجع وتقلق وتخاف وتحبط وتتوه ، تتمنى أن تسافر في رحله الى شط نائي فقط أنت والطبيعه لعام كامل لمجرد أن تدوام على قراءة الصحف اليوميه مدة ثلاث أيام ، أخبار الموت والقتل ، جرائم الفساد ، فاجعة الانتخابات وقضايا "التشوه" الديموقراطي ، الدماء والأسلحه والجثث ، النهب والفساد الاداري ، الزيف والتلفيق والتحرش والقمع. . . . . الخ.
قطرة ثانية : جدل الجوع
أن نتقاسم "النبقه" هو حد معقول من مآل الحال الآسف وأن يخبئها أحد من المجموعة ليلوذ بها خادعا الآخرين أيضا معقول ،ففي ظرف الجوع محتمل كل شيئ ، أن تظهر الأنانية ، أن يظهر التكافل، أن يظهر التكتل ، أما نقتل بعضنا بعضا ،أن نرتكب جرائم الأذى الجسيم والتمثيل بالجثث والذبح والاغتصاب، فهذا جنوني ،انه ما استجد على هذا الشعب ليس الجريمه وانما انتشار الجريمه ، أصبت بالهلع عندما طلبت منى احدى الجهات الاعلاميه تفسير نفسي لانتشار جريمة القتل في المجتمع السوداني مؤخرا . فالحالات التي عرضت أمامي ليس بها حالة تكرار واحده لما اطلعت عليه في تقرير احدى الصحف لرصد جرائم 2010، وأيضا لم يتكرر ماصادفني باعتبار مهنتي داخل المستشفيات والعيادات النفسيه ، ففي كلا الجهات الثلاث تنوع بشع لأنواع جرائم مختلفة في كل الفئات العمرية ، وكل المؤسسات ، داخل المنزل الواحد بين أفراد الأسره ، داخل الفصل الواحد في المدرسة ، داخل الكليه بذات الجامعة ، في الحي بين الجيران ، بين الزملاء في نفس دور العمل .
قطرة ثالثة : بيت الأشباح
ان انتشار الجريمة في أي مجتمع يعد مؤشر حيوي لوجود تغييرات سلبية في بنيته الاجتماعية والتي بالضروره مربوطه بالعوامل الاقتصادية والسياسية .
فما هي الدوافع المباشره والأسباب غير المباشره لتوليد ذلك ؟
ان الانسان كائن حي راقي كي يعيش يتطلب ذلك تلبية العديد من الاحتياجات أهمها على الاطلاق الحاجات الفطرية من أكل وشرب وراحة واشباع للغريزه ،وصولا الى اشباع حاجات الشعوربالحب والأمن والانتماء وحاجة تحقيق الذات وحاجة المعرفه والابداع "نظرية عالم النفس ماسلو للحاجات" وهذا بالضروره يتطلب توفر المقابل المادي ، والا أصبح الانسان عرضه للضغوط الناجمة عن
الحرمان ، وعليه فالعامل الاقتصادي هو عصب الحراك الاجتماعي ، وبما أن السودان قطر في الأساس مصنف كقطر نامي تتفشى فيه الحروب والأميه داخل اطار أصبح أكثر ضغطا اقتصاديا على المواطنين ،من مظاهره الواضحة تفشي العطالة والعطالة المقنعة "المهن الهامشيه" .فان ذلك يعتبر بيئة خصبة لتفجير عديد من السلوكيات الشاذه على المستوى الجماعي أو الفردي ، لأن الاضطراب النفسي لايظهر من تلقاء نفسه ، وانما يحتاج لعامل "مفجر" يكون بمثابة القشه التي تقسم ظهر البعير . وبالمقابل قد يكون الفرد حامل لجين المرض ولا يظهر عليه اطلاقا مدى الحياه، لأن البيئه التي يعيش فيها معافاه للحد الذي يلبى احتياجاته المادية والمعنوية ويبعده عن التعرض لمستوى غير طبيعي من الضغوط .
فمثلا أضطراب الوسواس القهري الذي أكدت الدراسات أن نسبة انتشاره الأكبر في الدول النامية ، قد تظهر أعراضه في شكل أوامر بالقتل دون تفرقه بين القريب والبعيد ، فقد يستهدف الأب أو الأم أو الزوجة أو أي شخص ليس ذي صلة قربى أو معرفة، والمريض لايستطيع أن يمنع نفسه من تنفيذ ذلك الأمر الملح . والخطوره في هذا الاضطراب أنه عصابي وليس ذهاني ، بمعنى أنه لايصاحبه خلل ذهني فيعيش المريض في كثير من الاحيان وسط المعارف وزملاء العمل دون ان يشك في سلامته احد .
أما اضطراب الشخصيه السايكوباثيه "المضاده للمجتمع" ، والتي في ظل ظروف ضاغطه تتوفر لها كل العوامل المساعده لارتكاب الجريمه وأذي الآخرين ، دون أدنى أحساس بتأنيب الضمير أو الندم ، وجرائمهم الأبشع والأكثر غرابة، ويظهر ذلك في حالات التمثيل بالجثث بعد القتل أو التعذيب حتى الموت بأساليب متنوعة، يصعب اكتشاف هذا النمط من الأضطراب مبكرا في ظل مجتمع يرحب بل ويرعى ثقافة العنف ابتداء من عقاب الأطفال في المدارس انتهاء بالمليشيات المسلحة.
أما حالات الهذيان وفقدان السيطره على النفس والهلاوس السمعية والبصرية وعدم القدره على تمييز ماهو واقعي عما هو خيالي ،فسبب مباشر لارتكاب الحوادث والجرائم والأذى ،عندما يكون هذا الوضع نتاج لتعاطي المخدرات التي تفشت بأنواعها المختلفه وسط فئات الشباب ، فهي أكثر الشرائح تعطشا لتلبية الحاجات وتحقيق الذات ،وأكثرها حوجة للرعاية المؤسسية من الدولة عبر المشاريع الداعمة علميا وثقافيا وترفيهيا "لكن هيهات" .
ومن زاوية أخرى فالسرقة كوسيلة غير مشروعة لتلبية الحاجات بعد أن انعدمت كل السبل المشروعة "يشهد علي ذلك تجاربكم وحال أصدقائكم وذويكم "، قد تكون مصحوبة بالأذي أو القتل دفاعا عن النفس أو لاخفاء الجريمة.
أما الطامة الكبرى والتي فجعت لها قلوب الامهات ، وأصبحن في حالة قلق دائم يفرض حالة حصار اجتماعي على اطفالهن ، رأيتهن يسألن والحيرة بادية على وجوههن كيف نستطيع أن نكتشف شخصية المعتدي وسطنا ؟؟ موجهين هذا السؤال للمختصين من الأطباء ووحدة حماية الاسرة والطفل في الندوة التي أقامتها جمعية جسر السلام لمناقشة تلك الظاهره "العام الماضي بأمدرمان" فكانت الاجابة للأسف أنه لاتوجد سمات مميزة واضحة لهذه الشخصية ،كي يتم تجنبها . ان التفريغ غير السوي للغريزه يمكن أن يكون نتاج احباط مزمن لحرمان طال أو صدمات وجدانية أو سيادة سيطرة " الهو" على شخصية الفرد وهو مكمن الغريزه "بحسب فرويد" ، وضعف سيطرة "الأنا الأعلى" وهو مكمن المثل والقيم العليا ، وهذا ناتج عن ضعف "الأنا " الجهاز الاداري والمنظم للشخصية ، نتيجة للتعرض للضغوط العالية .
أما الأذى المعنوي أو المادي الذي يظهر دون وعي في الحلقة الأضعف للسلسلة الاجتماعية لمجموعة من البشر تعيش سويا ، فهو تفريغ غير سوي لضغوط وأحاسيس مؤلمة ومحزنة واحباطات متراكمة يمر بها الفرد في حياته اليومية، تتبدى واضحة في حالات الأطفال والمراهقين المعنفين مثلا من ذويهم أو أساتذتهم "فهم في موقع سلطة اجتماعية " ،لكنهم معرضون لضغوط معيشية تفوق حد الاحتمال الطبيعي، لا بد أن تجد لها منفذ . كحالة آلاف الأمهات اللآئي يتولين مسؤولية الأسره بكل جوانبها بمفردهن بعد هجرة أزواجهن الى الخارج اثر التعرض أيضا لضغوط اقتصادية ، أعرف حالة طفل أمه تضربه ليل ونهار يوميا لمدة أكثر من ربع ساعة بالحذاء،لمجرد اتيانه بمخالفة بسيطة جدا ، مع انها تحبه وتندم دائما على ذلك . فأصبح الطفل شرسا في الشارع مع أقرانه ، يتهجم عليهم ويضربهم حد النزف ، كل هذا حدث بعد ستة أشهر من هجرة الزوج . ولعلكم تذكرون حالة الطفل الذي طعن زميله في المدرسه بالسكين .
أما جرائم الحرب واللا باده الجماعية فهي في ذات اطار التفسير العام "العامل الاقتصادي"، لكن هذه المره الدافع مختلف ، فليس اشباع الحاجات الاساسية، وانما الجشع والنهم نحو تراكم الثروات .
اذن فانفجار تلك الاضطرابات وتجسيد أثرها في الحياة اليومية نتيجة لضغط الحرمان المادي والمعنوي ، من أهم الأسباب لتفشي الجرائم والحوادث . "لأنه كما قلت لكم المرض النفسي لا يظهر من تلقاء نفسه ".
قطرة رابعة : عطش على ضفاف النيل
كل هذا يحدث في بلاد فيها ثروات مهولة : بترول ، معادن بأنواعها ،أطول نهر في العالم ، محاصيل متنوعة ، مناطق أثرية سياحية مميزة ، ثروه حيوانية ، غابات ، مراعي ، كوادر بشرية أكاديميه علمية وفنية ، ...... الخ
كنت ماهل يا ابوي وساهل
كل دربا بي ناسو آهل
ياحنونا دافي المناهل
مالو زولك ممكون وناحل
وانت عندك يا با السواحل
والسهول غاباتك مراحل
والشمس والنيل والغمام
التحيه الشاعر العظيم محجوب شريف وانت لسان حال الشعب .
جاء في مقال للاستاذ طارق بشرى بصحيفة الميدان :
من خلال النظر الى الفترة الزمنية المحددة ب 10سنوان (قطط سمان) من 1998الى 2008(اختيرت هذه الفتره لتوافر بيانات سواء من تقارير المراجع العام أو غيره ) نجد أن مجموع الأموال التي ضاعت جراء الفساد هي 223مليار جنيها سودانيا (بالجديد)و428مليار دينار و25.162مليار دولار. من لغة هذه الارقام يمكننا القول أن هذا الفساد لهو أسطوري قياسا بتاريخ السودان المعاصر ، وأنه أي الفساد صار قطاعا رابعا اضافة للقطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المشترك بين العام والخاص ، ومن ذات لغة الأرقام يمكننا القول أن من "جيب" كل مواطن ومواطنه قد تم سرقة مايعادل 634146دولار (بالعمله الصعبه)و10439024دينار
و5439024جنيها ، بافتراض أن سكان السودان 41مليون نسمة . (عدد السبت 2فبراير "شباط" 2010الموافق 13ربيع الاول 1431العدد 2186.
وعليه فما يؤخذ من الجيوب عنوة وغشا وقمعا ، يسترد اليها مرضا وقتلا وذبحا للاحلام والطموحات واهدارا للكرامة .... ربما كان هذا هو المشروع الحضاري؟؟؟ ..أو أن ما جفف من اشجار الغابات والمراعي سوف تعوض عنه شجره واحده لأن جذرها ثابت وفرعها في السماء يناجي الله تقربا ووقارا وايمان؟أو أن من قتلو وماتو وشوهت أعضائهم ووجوههم وأرواحهم سوف يستحدثون في أبهى صوره بعد فترة أخرى من عمرنا وعمر البلاد ننتخب فيها عرش "ود أم بعلو" .
قطرة خامسة : فيضان تحركه الأنامل
ولهذا الشعب الاحترام، ومياه النيل كفيلة بأن تغسل كل الدماء وترطب ثخونة كل الجراح ، فقط على الأنامل السودانية الحراك .
ندى حليم / اختصاصية نفسية وناشطة في مجال حقوق الانسان.
Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]
\\\\\\\\\\\\\