سيكولوجيا العدوان .. وتراجيديا السياسة في السودان

 


 

ندى حليم
23 January, 2011

 


        ترددت كثيرا قبل أن أكتب ذلك الموقف في كلمات ، تزامن هذا الموقف مع ميعاد تجهيزي لصفحة "هدير الصمت" الأسبوعية ، كلما أبعدتة عن مخيلتي واحساسي وفكري وشرعت أبدأ الكتابة تسرب بل قفز على سطح صدري وقاومتة لافشل ، وأوقف الكتابة ثم أذهب ،  أفعل أشياء عشوائية لست في حوجة اليها كشرب الشاي أو مشاهدة التلفاز ، وأعود ثانية للكتابة ثم يقفز هذا الموقف الى سطح انفعالاتي وعمق أفكاري ، فأبعدة وأبدأ في الكتابة من جديد ، حتى أنني كتبت ثلاث مقدمات لمواضيع مختلفة دون أن أستطيع أكمالها وحفظت كل منها في ملف مختلف في جهاز الكمبيوتر ، أتنهد عميقا وأشعر بغصة في روحي وأنني غير متوازنة نفسيا ، ثم أقاوم الكتابة في ذلك الموضوع ، وأفشل للمرة المليون            واليكم ماأريد: فهو البوح اليكم لأنكم ملاذ همومي رغم أزماتكم في وطن "المدغمسين " :
تندهني " أمي " ، في ذلك الليل "ندى ، ندى ، تعالي نشوف المره دي مالا" وتتجة نحو الشارع ، فقط كنا أنا وهي مستيقظين ، الظلام دامس في الخارج وأمي تصر على أن آتي حالا ، لم تنتظرني ، عندما خرجت أمام المنزل  ، كانت في منتصف الساحة الواسعة في منتصف الحي أسرعت للحاق بها ولكن قبل أن أتقدم أكثر من خطوة بدا عويل وصراخ أمرأة متألمة يخترق اذني يشق صمت الليل ويحمله الفراغ بعيدا ولا حياة لمن تنادي ، كلما اقتربت بخطى مسرعة أسرع الصوت أكثر في اقتحام أذني وذاكرتي الروحية   ،  الصرخات مستغيثة ليس لها هوية تختنق تارة وتخرج موجوعة تارة ، الهواء بارد جدا والارتجاف لم يمهلني أن أتحمل سماع ذلك العويل ، الرياح تصارع "التياب" السودانية وكأنها تلعن زينا التراثي   ، بين مقاومتنا أنا وأمي للرياح كأننا نحتج على رفضها لثوبنا السوداني الأصيل الذي بات مهددا بالانقراض في زمن تجريم حرية التعبير الثقافي عفوا "التعبير الدغمسي عن الهوية" ، آناء صراعنا مع تلك الرياح ، وارتجاف أوصالي بسبب البرد ، كانت هي لاتبالي بشيء ، تلك المرأة المكومة على الأرض ، لا تأبة لتراثها ، زيها الممزق تلعب به الرياح كما تشاء ، عضلاتها لاتعير اهتماما للبرودة الجريئة ، لأن جرئة الارهاق في جسدها كانت أقدر على تخدير خلاياها ففقدت الاحساس ، تتلوى في الأرض وتارة ترفع رأسها وتصرخ بحروف متتالية متتداخلة لانفهم منها شيئا ، سوى عيالي ، "ايالي " ،  وأمي يعلو صوتها وتوجه لها الحديث بتركيز شديد "بيتك وين" ، "انتي جاية من وين؟" "أهدي ورينا مالك عشان نساعدك" "كدي براحه ورينا في شنو ؟"   بعد كل سؤال كانت تجيب بصوت مترنح ممزوج بالدموع والنحيب وتضرب بكفيها في الأرض ، وتتفوه بكلام غير مفهوم .. شكلت لها وقفتنا حولها واحساسنا تجاهها بضرورة الدعم ، شكلو لها شعورا بالامان في تلك اللحظات أستكانت له وأصبحت ترغب في المزيد ، مما جعلها تتهاون في الحديث بوضوح ، فهي تخاف أن ننصرف عنها بمجرد حصولنا على الأجوبة التي نريد . طالت وقفتها في الهواء البارد وتعمق الالم بداخلي ازاء عدم أكتراثها بالبرد والرياح ، "سوف تتجمد، أو سوف تنفجر، أو سوف تنشطر أو سوف تغرق ،لا أبالغ أعزائي، فالبرودة الخارجية وهواءها المندفع في تلك المساحة الشاسعة قد يؤدي للتجمد ونحن أهل الشمس وخط الاستواء ، وحرارة أوجاعها الداخلية قد تؤدي لانفجار أحشاءها ، دوعها الغزيرة قد تؤدي الى اغراقها ، أما شهيقها العميق القوي  فقط يؤدي لشطر صدرها الى نصفين ، كل تلك الاحتمالات التي جالت بخاطري وأرهقتني مئة عام من الترحال ، مع ادراكي لحالتها النفسية عند تلك اللحظة والتي تشعر فيها بالأمان من وقفتنا تلك ، جعلتني أستخدم معها بعض حيلي الخاصة فقلت بجدية " أسمعي اذا ما اتكلمتي كويس نحنا حنمشي منك ، واذا كوركتي البوليس حيسمعك ويجي يسوقك " ، رفعت بصرها فجأة نحوي لتلتقي نظراتها بعيني وأشهد لأول مرة تجمع الشفق الأحمر وظلام الليل والغيوم المتقطعة والقمر الرمادي والضباب في آن واحد . وأندهش وأتوجع من فرط الاندهاش لهذا الاكتشاف الكوني " وللحاكم في رعيته شؤون" ، تقول بأحرف أكثر وضوحا لكنها مازالت متداخلة : "عيالي كلو في مستشفى أمدرمان  ، توب ، جلابية واحد بس ، عيالي بموت" . حثثناها على القيام وطلبنا منها الذهاب معنا الى المنزل ، أتكأت على كفها استعدادا للنهوض بسطت أصابعها على التراب وبدت بشرتها السوداء مدفونة جزئيا في التراب الأسمر تعانقة باصرار ويتكيء حمل كل جسدها على كفها لتندفن أصابعها أكثر عمقا في التراب كأن سوادها يعانق الأرض باصرار ولايريد الفراق ، لكن هيهات ارتفع جسدها ناهضا بثقل مرتجف كأنما حملة الثقيل أرهق كفها الذي أراد أن يرتاح فنهضت وارتفع  عن تراب الأرض وتخلص هذا الكف  من حمولة الجسد المرهق وفارق الأرض السمراء ... شكرا للحكومة على تلك الانارة في الشارع العام ، لكن أسفا على مايتكشف لنا تحت الضوء . لن أنسى ذلك المزيج الكوني في عينيها الباكيتين ، ولن أتألم أكثر مما تألمت عند فراق بشرتها السوداء لسمرة الأرض الا عند استدعائي لتلك الجملة التي قالتها وهي تتجرع  كوب الشاي بعد تناول الطعام وبعد أن صارت أكثر هدوءا وطمأنينة حيث قالت  بمناسبة  أسئلتنا لها عن مسكنها وحال عيالها في المستشفى  "جون قرنق مات ، كان جون قرنق حي كان معليش لكن ماخلاس مات " ، ونكست برأسها في الأرض ، التي خسفت بكل كياني دفعة واحدة ،  نحو عمقها المملوء بقتلى الحروب من مواطني بلادي . لتلتقي بهم "أي روحي" وتجد بعضهم أرهقه البحث عن الحور العين  وبعضهم  يقرأ مزيدا من كتب التاريخ والديالكتيك ، وبعضهم يبكي من الندم حد العذاب وبعضهم يتلذذ بعذاب غيرهم هذا.... هكذا حدث لي عند نطقها لتلك الجملة وأنا التي كنت لا أعتقد ولو لثانية أن تلك المرأة يمكن أن تكون ذات بصيرة بمايدور حولها في تلك اللحظة فاذا بها تخبرني بأنها تمتلك بصيرة الوجع الخرافي وخرافة الوطن الموجوع ، ولا أمتلك أنا سوى النظر  في كوب الشاي الأحمر الذي يرتجف في يدها تارة والى كون عينيها تارة حتى أخال  أن بجامع الاحمرار في كليهما سوف ينفجر المكان . لكن الذي انفجر حقيقة هي عروقي المؤدية الى رأسي عندما قالت لي تجاوبني حين سألتها "انتي دايرة وحدة ولا انفصال " ، تقلب في كفيها الاثنين بعد أن وضعت كوب الشاي على الأرض ، كلنا أخوان يا أختي وحدة مالو ماحاجة كويس جنا عرب كويسين كان جعت بديني قرقوش وكان ماعندي جلابية بديني جلابية شوفي جلابية انا لابساو ده اداني ليو مره هناك وأنهت حديثها بنظرة فاحصة الى أمي وقالت لها كلنا كويسين يا أمي ولا يا أختي كبير مس كده ؟؟
        " ياااااااااادي البلاد الكل ماطايبتها فتحت على جرحك جرح ، كلما نقطلا الكلمات عسل نزلت علي خاطرك ملح " . ماهذا مالذي أسمع ؟؟ رأسي يكان يخرج عن جمجمتة ويهرب من مصيدة أفكاره . تلك المرأة تفرح بالعيش الناشف القرقوش الذي تتحصل علية بعد أن تشحذه ، ومن أجلة ترغب في الوحدة ، هي لاتعلم أن نصيبها في  هذه البلاد مليارات ، لاتعلم أن لها من البترول نصيب ومن الغابات نصيب ومن الذهب نصيب ومن القطن نصيب ومن الثروة الحيوانية نصيب ، هي لاتدري أنها صاحبة أملاك وأرض مغتصبة ، لم تسمع يوما ببنوك سويسرا وماليزيا المكدسة بحساب  أؤلائك ، لم تسمع بالفلل الرئاسية التي نبتت كالشيطان . كل الذي سمعته صراخ أبناءها من المستشفى يأتيها من بعيد وينغرس فيها أشواكا من نار وأشواقا للرغيف الجاف .
    تذكرت نظرية "الاحباط العدوان" النفسية . كم مرة هضمت الظروف الموضوعية آمال تلك المرأة وأحلامها في أن تبني بيتا وترضع طفلا وتسد حاجة  جوع ؟ كم مرة ؟ وقفت الظروف في ضد رغباتها كي تلحق أبناءها بالمدرسة ؟ كي تكسوهم من البرد كي تعالجهم ، كم مرة ارتد اليها الاحساس خائبا وحسير ، انها قرابة الألف مرة بفعل تلك الظروف المصنوعة لأن "الجاتا جاتا من الأرض ماجاتا من تال السما ، ما أعتى غبنك ياولد " ، هذا المقطع الشعري للشاعر السوداني "حميد" هو تلخيص ذكي لنظرية الاحباط العدوان . التي لطالما راودتني وأنا أستمع الى حديث الكثيرين من أبناء الوطن عن شراسة وعدوان بعض الاثنيات الذين هم في الأصل ضحايا حروب أو أصحاب مركز اجتماعي يتعالى علية التيار المستعرب زيفا في هذه البلاد السوداء السمراء الغبشاء .
        بعد الأحداث التاريخية الشهيرة بأحداث جون قرنق في العاصمة القومية الخرطوم والتي أعقبت  مباشرة رحيلة "الفيزيائي" الأبدي ، بعدها كثر الحديث عن عدوان المواطنين من أبناء الجنوب وشراستهم ، والآن يكثر الحديث عن ضرورة الانفصال تفاديا للمشاكل والأزمات الاجتماعية التي سوف تتفاقم بين أبناء الشمال والجنوب بسبب السلوك الفردي العدواني أو الجماعي . ما أريد أن أقولة هو أنه ليس هناك شخصا عدوانيا بطبعة وفطرتة الأولى ، فالعدوان سلوك مكتسب دوافعة ذاتية تتولد نتيجة  لتفاعل الظروف الميحطة بالفرد مع العصب والحس والنفس .  
          واليكم ماجاء مبسطا  في كتاب علم النفس الاجتماعي المعاصر للدكتور محمد السيد عبد الرحمن : "قد يحدث  مشجعو كرة القدم شغبا ، فيستخدمون مقاعد الملعب ، ويقفزون خلف الحواجز التي يضعها رجال الشرطة ليهاجموا مشجعي الفرق الاخر بسبب غضبهم الشديد من خسارة فريقهم ، وقد يتسبب شعور طالب بالاحباط في مضايقته للطلاب الأصغر منه حتى وان كان هذا السلوك سيؤدي الى نفور زملائه منه . ويتح من هذه الامثلة أن العدوان وخاصة العدوان الانفعالي _ لايقتصر على رد الضربة لمن أغاظني أو أغضبني ومن هنا ظهرت احدى النظريات الهامة التي تتعلق بالدوان وهي نظرية أو فرضية الاحباط / العدوان التي تذهب الى أن أي احباط يصيب الانسان يؤدي حتما الى العدوان ، وهي تعرف الاحباط بأنه كل مامن شأنه أن يسبب منع تحقيق هدف أو اشباع حاجة هامة لنا ، وليس من الضروري أن يوجه العدوان نحو من سبب الاحباط خاصة اذا كان المصدر قويا ، بل نجد على العكس من ذلك ، اذ ترى هذه النظرية أن العدوان الناتج عن الاحباط يمكن ان يوجه الى اهداف بديلة (ازاحة) . فالموظف الذي نال قسطا من التوبيخ من رئيسة في العمل سوف يصب كل غضبه على زوجته أو اطفاله في المنزل أو أول شخص يستفزه بعد خروجه من المؤسسة ، والوالدان اللذان يشعران بالاحباط بسبب كثرة خلافاتهما سوف يصبان عدوانهما على أطفالهما ، والذين سيتحولون بدورهم الى تفريغ انفعالاتهم على أهداف بديلة فيشدون ذيل قطتهم أو يحطمون الدمى التي يلعبون بها .
  فما بالكم أعزائي القراء بتلك المرأة التي أحبطت في امتلاكها لمنزل وفي علاجها لأبنائها وفي حصولها على "جلابية" ، وفي حصولها على "ملاية من البرد" ، وفي وفي وفي . مابالكم بملايين مثلها عاقت الحرب التي استعرت خمسين عاما في الجنوب مسيرتهم نحو اشباع رغباتهم وتلبية احتياجاتهم ومازالت الاعاقة مستمرة بفعل حرب الأفكار القاصرة ذات النزعة العنصرية . وللأسف تلك الافكار قد تكون مدعومة مؤسسيا  فيصبح تأثيرها أقوى على كل الشعب الذي أصبح يخطو حثيثا نحو التجمع في بؤر اثنية رافضة للانصهار والتمازج . شخصيا أجد العذر لتلك المرأة ان فعلت أي شيء ، نعم القوانين يجب ان تحمي المواطن وتعاقب على ارتكاب الجرائم لكن القوانين أيضا يجب أن تكون ناصفة في توزيع الثروات وخيرات البلاد . البلاد ليست فقيرة . البلاد مفقرة لصالح اغناء تلك العصبة المعصومة من الخطأ . ليصبح الغلابة مخطئين مرتين مرة عندما طالبو بحقوقهم ومرة عندما احبطوا من أجل عدم الحصول عليها وفرغوا احباطهم هذا .
        تقول النظرية : "ليس من الضروري أن يوجه العدوان نحو من سبب الأحباط خاصة اذا كان المصدر قوي " . أهناك مصدرا أقوى من الحرب التي تصادر كل الآمال والطموحات في تحقيق الرغبات ؟؟؟ اهناك مصدرا أقوى من السلطات المفروضة بالقوة عبر القوانين وعبر الأجهزة الدولية المنفذة ؟؟
   لعل ماحدث عند الرحيل "الفيزيائي " الأبدي للمناضل الدكتور جون قرنق ، من أحداث شغب اذا استبعدنا الذين استغلو الموقف فسرقوا ونهبوا ، فان العنف الذي عقب خبر موتة مباشرة كان رد فعلا عنيفا يعبر عن تفريغ الاحباط للملايين التي انتظرتة ومن بينهم كانت تلك السيدة ذات النحيب .
  وهذا ماسيحدث في البلاد ويفجر بركانها اذا ما لم يتحصل شعب جنوب السودان على حقة الدستوري عبر الأعتراف بنتيجة الاستفتاء الحالي ، حيث أنة شعب يريد أن يحقق احتياجاته الآدمية المادية والمعرفية والنفسية التي فشلت الحكومات في منحها له عبر السياسات العوجاء . سياسات " علي الطلاق ، وعلي الحرام ، ولحس الكوع ، والدغمسة ، والرقص ، ومهرجانات التهليل والتزوير " .
        اذا لرواد العلم التحية والاحترام .
        ولشعب الجنوب الصمود والحرية .
       ولشعب الشمال كتاب من دفاتر التاريخ والنظرية .
      ولتلك السيدة محبتي وتقديري وقلمي الذي لن ينضب .
      ولأمي عميق الشكر وهي شعلة حياتنا .
       ولبلادي السلام .
      
ندى حليم / اختصاصية نفسية وناشطه في مجال حقوق الانسان


Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]

 

آراء