هيلدا جونسون تروي أسرار وخفايا التفاوض في نيفاشا -1-

 


 

 


قصة محارب الحرية والإسلامي الحذر

kha_daf@yahoo.com
كانت الخرطوم تضحك ملء شدقيها علي تلك القصة التي كانت بطلتها  هيلدا جونسون وزيرة التعاون الدولي النرويجية الأسبق وهي تدلف الي الاحتفال البهي في باحة القصر الجمهوري  في أحدي المناسبات الوطنية الهامة في العقد الأخير من القرن الماضي. فعندما أرادت أن تجلس في الكرسي المخصص لها في الصف  المعد للضيوف الأجانب كان الموظف المختص والمشرف علي التجليس يعدل من وضع الكرسي ، كان الجسد الأوروبي المسترخي يتهاوي علي الكرسي المعد، وكان الموظف إمعانا في الاحترام الفائق يحرك من وضع الكرسي ليناسب الجلسة المسترخية، إلا أن تقديراته قد خابت إذا سرعان ما ضل ذلك الجسد طريقه الي الكرسي بفعل فاعل غافل وحسن النية. وفي ثانية كانت المشهد يعج بالتفاصيل السعيدة والمزعجة، إذا سرعان ما حولت هيلدا ذلك الموقف الحرج الي ضحكة متطاولة امتصت بها ذلك التوتر البروتكولي، كما أنها بنشاطها المعهود لم تترك سانحة لمتلصص حتي يمعن النظر في الخارطة الأوروبية المرسومة علي النجيلة المشتعلة بالاخضرار. هذا المشهد يكشف بقوة عن شخصية الوزيرة الأوروبية التي تمتلك القدرة وزمام المبادرة لتجاوز المواقف الحرجة، هذا إضافة الي قدرتها الفائقة علي التقاط التفاصيل الصغيرة ، وتحويل الأحداث العابرة الي صداقات ممتدة وهي ذات المزايا التي نجحت في نسج ذلك الغزل من أنكاث النقض والتردد،وتصدع الثقة والمرارات والعبور بها الي بناء عمارة السلام الشاهقة في السودان . سبق وأن رافقت الدكتور مصطفي عثمان إسماعيل وزير الخارجية الأسبق في شتاء عام 2002 وهو يدلف الي سفارة النرويج في واشنطون ليلتقي بهيلدا جونسون. كانت في ذلك الوقت تنشط في ردم هوة الثقة بين الحكومة والحركة الشعبية، وما أن أهداها الدكتور مصطفي عثمان أحدي روائع المصنوعات اليدوية السودانية حتي بادرها بالقول إن هذه التحفة السودانية صنعت لتحصن من يلبسها من وساوس الأنس والجن حتي تكمل مساعيها نحو السلام.وما كان منها إلا أن التقطت تلك الإشارة الذكية لتؤكد له أن واشنطون تبارك مساعيها نحو تجسير الهوة والثقة بين زعيم الحركة جون قرنق والقيادة السياسية في السودان.
  في بداية شهر يناير الجاري أستضاف مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بواشنطون حفل تدشين كتاب هيلدا جونسون التي خلعت لقب وزيرة التعاون الدولي لبلادها النرويج لترتدي عباءة نائب المدير التنفيذي لليونيسيف بنيويورك. هذا الكتاب  الذي صدر من دار نشر (سوسكس) تحت عنوان (تحقيق السلام في السودان:السيرة الخفية للتفاوض الذي أنهي أطول حرب في أفريقيا) جاء في وقته تماما ، وتناسب محتوياته وأسراره خفايا الدور لعبته في تحقيق السلام في السودان.يقع الكتاب في 248 صفحة من القطع المتوسط.جاء توقيع الكاتبة في صفحة الغلاف الداخلي للكتاب الذي أهدانيه صديقي الحميم سيف الدين ياسين المستشار الأعلامي في واشنطون في خط مموج رسمت عليه حرف التاء العربي كأنه وجه ضاحك خارج للتو من مأساة الحرب في السودان.
بدأت القصة بمكالمة هاتفية يوم 31 أغسطس 2003 من الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك ناقلا انشغالاته وقلقه لأن التفاوض وصل الي طريق مسدود بين وفد الحكومة والحركة الشعبية بعد الأختراق التاريخي الذي حدث في يوليو 2002. لقد التقي الأستاذ علي عثمان الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية آنذاك لأول مرة بوزيرة التعاون الدولي النرويجية هيلدا جونسون في روما خريف عام 1997 . كان الأوروبيون ينظرون الي علي عثمان بإعتباره رجل الخرطوم القوي وكثيرا ما يعمل خلف الستار. وفي ذلك اللقاء الذي يعد الأول بينهما قال إنه يريد أن يرفع مستوي التفاوض مع الحركة الشعبية ليشمل شخصه وجون قرنق زعيم الحركة. كانت خطته التي طرحها علي هيلدا جونسون أنه سيحضر الجنازة الرسمية لنائب الرئيس الكيني بنيروبي وسيكون ممتنا إذا استطاعت هليدا أن ترتب لقاء مع جون قرنق أثناء تواجده في نيروبي لحضور مراسم الجنازة الرسمية. هذه الشهادة تؤكد أن المسعي الأول ابتدرته الحكومة السودانية لترفيع مستوي التفاوض بعد العثرات الكثيرة التي اكتنفت طريق التفاوض. لم تعد الوزيرة النرويجية النائب الأول للسودان بأي شئ ولكن أكدت أنها ستحاول. لم يكن قرنق رافضا ومترددا فقط بل كان متشككا في أن تفضي المفاوضات لأي حل مع الخرطوم. وحسب رواية هيلدا جونسون فأن شكوك قرنق كانت تتركز حول العلاقة بين الرئيس البشير ونائبه علي عثمان لأن الكثيرين حينها كانوا يعتقدون أن علي عثمان يصطنع هذه المناورة ليضعف من سلطة الرئيس البشير. ولعل المدهش أن قادة الجيش الشعبي لم يكونوا يقيمون وزنا سياسيا معتبرا لنائب الرئيس علي عثمان. وفي إجتماع حاشد في رومبيك ضم أكثر من 1250 ضابطا من قيادات الحركة كانت الأغلبية تقاسم زعيم الحركة جون قرنق رأيه بعدم مقابلة علي عثمان. هذا رغم الضغوط ومحاولات الأقناع التي قام بها الفريق النرويجي المختص في الشأن السوداني. ولكن حسب رواية شاهد عيان ثلاثة ضباط فقط أسدوا النصح لقرنق وحثوه لمقابلة علي عثمان علي رأسهم سلفاكير ميارديت. وأخيرا وافق قرنق علي المقابلة بعد تدخل سلفاكير. جاء علي عثمان لحضور مراسم جنازة نائب الرئيس الكيني علي رأس وفد كبير، وأصر قرنق علي أن يقتصر اللقاء علي التحايا القصيرة والعابرة ، ولكن ذلك اللقاء الذي بدأ صامتا وزجاجة الماء التي كانت الشاهد الوحيد تقبع في المسافة الفاصلة بينهما، كأنها ترمز للمسافة الفاصلة بين دماء الضحايا والمعاناة وأشواك السلام. بادر قرنق وصب الماء في الكوب الي النائب الأول. ومن حينها مرت مياه كثيرة تحت الجسر ، وتم تدشين خط ساخن بين الزعيمين حتي توجت إتفاقية السلام الشامل. لذا تصف هيلدا جونسون أن هذه الاتفاقية بأنها مولود طبيعي للتمازج الكيميائي والشخصي لهذين الزعيمين ولمواقف الفريقين المفاوضين.
قبل الدخول في تفاصيل الكتاب واستعراض الأسرار والخفايا دعنا عزيز القارئ نقف علي طبيعة الشخصيتين المحوريتين في صنع السلام كما تفضلت بوصفهما هيلدا جونسون أو كما أسمتهما مقاتل الحرية والإسلامي (قرنق، علي عثمان). التقت هيلدا جونسون بجون قرنق للمرة الأولي أثناء رحلة إنسانية الي بحر الغزال في 1998. ونسبة لمخاطر الحرب ، و إمعانا في التخفي وتغيير المواقع فقد تم تغيير مكان اللقاء من نمولي الي شقدوم مما كلفها مشقة إضافية. قرنق حسب تقدير هيلدا كثيرا ما يستخف بشخصيته الآخرون في الوهلة الأولي، ولكنه مفكر ثاقب النظر ، محاور بارع وقائد عسكري من طراز رفيع يجيد التعبير عن النظريات  والتكتيكات. ولعل أول أسرار الكتاب هو أن أبل ألير أعترف بأنه أرسل قرنق الي منحة دراسية في الولايات المتحدة ليتخلص من وجوده المزعج في الخرطوم لأن ظل وثيق الارتباط والاتصال مع مجموعة من الضباط الجنوبيين لأحداث تحرك عسكري ضد السلطة المركزية. كان قرنق حسب رواية هيلدا شديد الحذر، ولا يستطيع أحد كسب ثقته إلا بعد سنوات من الحوار والعمل والاختبارات المتكررة، وذلك يناسب مهمته كقائد لحركة تمرد وتلك الحيطة هي ما أنقذته من انقلابات كثيرة دبرت ضده داخل الحركة. لذا فأن خلصائه المقربين يعدون علي أصابع اليدين. يملك طاقة هائلة للعمل والانجاز، كما أنه جامح التصميم للوصول لأهدافه التي رسمها في ذهنه. وهو كما وصفه علي عثمان للكاتبة "يملك قدرة هائلة علي إدارة الحوار والإلمام بالموضوعات، ويملك مهارات عالية للحوار والجدل والنقاش،كما يملك المواصفات والمواهب التي يجب تتوفر للقائد". احدي أكثر الانتقادات الموجهة إليه من كبار ضباط الحركة هو أنه ديكتاتوري، ولكنه ظل رأيه دائما أن الحركات المتمردة لا تتخذ قراراتها بالشوري والإجماع. المقربون منه يتحدثون عنه بتقدير وقدسية عالية. حاول كبار حكماء الدينكا في منطقته بور استفزازه أكثر من مرة وحثه علي الزواج بأكثر من امرأة لأن هذه عادة وتقليد زعماء القبيلة، إلا أنه كان دائما ما يرفض ويردهم خائبين قائلا this is out of question. أشد ما يميز شخصيته بالإضافة إلي الذكاء الحاد هو الذكاء الاجتماعي والمرح والقدرة علي الخطابة أمام الحشود لساعات طويلة ، وكذلك صنع النكتة والمفارقة والمواقف الطريفة.
أما علي عثمان فتصفه هيلدا بأنه مختلف عن شخصية جون قرنق كاختلاف الليل والنهار.إذا كان قرنق يوصف بأنه كارزيمي ويحب الحركة والنشاط فأن علي عثمان يمتاز بالحذر وبأنه خجول شيئا ما في بعض الأحيان.حبه للأضواء الخافتة وإدارة السلطة وراء الستار هي أهم ما ورثه أثناء عمله في الصف الأمامي للحركة الإسلامية. من الاعترافات الكبيرة التي قالها علي عثمان في هذا الكتاب هو قوله أن الترابي لو كان علي قيادة الدولة والحركة لما تحقق السلام في الجنوب. وتتفق هيلدا جونسون علي هذا الحكم وتروي قصة لقائها الأول مع الترابي في منزله. وقالت إنه تحدث لمدة 40 دقيقة دون توقف ولم يترك لها مجالا للحديث.وفي النهاية اضطرت لمقاطعته وإيصال رسالتها ومن ثم انسحبت من الاجتماع بكل تهذيب. وكانت هيلدا تتساءل عن ذكاء وعبقرية الترابي ومصدر قوته وإلهامه وسحره. وتقول إن علي عثمان رغم الأنطباع السائد عنه بأنه (إنسحابي) النزعة إلا أنه شديد المراس فيما يريد أن يفعله، ووصفته بأنه مستمع جيد ومخطط سياسي بارع وله القدرة علي الفعل والإنجاز. له ميزة منح الآخرين فرصة للتحدث والتعبير عن آرائهم، ومن ثم يعمل علي تقدير الأمر وأتخاذ القرار المناسب بعد تأني ودراسة وتمحيص هذا رغم أنه لا يحب المخاطرة والمغامرة.وكمثقف فأنه يري الأشياء من زوايا مختلفة، ويقدر ببراعة الممكن والمستحيل لذا فهو يتحلي بتفكير وحس براغماتي. ويقول منصور خالد في شهادته لهيلدا إنه نادرا ما يرفع صوته أو يفقد أعصابه. (نقلا عن السوداني)
 
 

 

آراء