هيلدا جونسون تروي أسرار وخفايا التفاوض في نيفاشا -2- … بقلم: خالد موسي دفع الله

 


 

 


صراع الفنان والقاضي وهل صنعت
 الخصائص الشخصية لقرنق وعلي عثمان السلام ؟

هذا باب في دراسة الخصائص الشخصية لكل من قرنق وعلي عثمان وقدرتها علي صنع السلام في السودان..ففي هذه الحلقة نستعرض شهادة هيلدا جونسون حول الخصائص الشخصية بين صانعي السلام، فرغم التباين والاختلاف الظاهر بين شخصيتيهما إلا أنهما يتشابهان في الذكاء والتكتيك والنظر الإستراتيجي. فكلاهما يملك تاريخ حافل في التمرد ضد السلطة في شبابهما الباكر. الأول في جامعة الخرطوم والثاني في مدرسة رمبيك الثانوية. جون قرنق تغلب عليه خصائص الفنان، من حيث القدرة علي صنع المفارقة ومخاطبة الجمهور لساعات طويلة علي المسرح المفتوح، وهو يقدم الوصلة تلو الوصلة والجمهور يصرخ ويضحك استحسانا والملل لا يتسرب الي أوصاله.  أما علي عثمان فتغلب عليه شخصية القاضي الذي يميل الي استدارة الرأي والتثبت والتأني وعدم التعجل لأصدار الأحكام، وهو أقرب في طبعه الي الخصوصية منه الي الانفتاح والعمومية..
استعرضنا الأسبوع الماضي الحلقة الأولي من كتاب وزيرة التعاون الدولي النرويجية هيلدا جونسون (تحقيق السلام في السودان: القصة الخفية للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهلية في أفريقيا) الذي دشنته في شهر ديسمبر الماضي في واشنطون ونيويورك. وقد هاتفني البعض متوقفا ومتسائلا عن مرامي الحكم القاسي الذي أصدرته هيلدا جونسون علي الدكتور حسن الترابي . و للدقة دعني أنقل ما قالته جونسون عن الشيخ الترابي بعد أن إبتسرت بعضه المرة الماضية لأغراض التلخيص والإيجاز. قالت وهي تصف زيارتها للخرطوم عام 1998: "في الوقت الذي يبدو فيه رياك مشار معزولا بالقرب من القصر رغم سلطته ومنصبه الرسمي كانت هناك شخصية اخري تمتلك كامل القوة والتأثير والنفوذ ولكنها متخفية وراء الظلال.بالطبع هذه الشخصية هي حسن الترابي الذي كنت ادرك جل تاريخه السياسي. قابلته في منزله ، وفوجئت بأنه أصغر حجما مما ظننت. وكإمرأة أروبية شابة لم أتوقع كثير احترام.بالطبع كانت نقاط حديثي معدة وجاهزة وهي تتضمن حقوق الانسان والسلام مع الجنوب والحكومة القومية الممثلة للجميع.الترابي كان يعلم نقاط حديثي، لذا تحدث لمدة 40 دقيقة متواصلة ولم يمنحني أي فرصة سوي أن أقول مرحبا.كنت أعاني من صعوبات في فهمه، لغته الإنجليزية جيدة ولكن رسالته كانت مشوشة ومضطربة.جلست متعجبة هل هذا الرجل المشهور بالذكاء مجنونا؟أم أنه يحاول منعي من التدخل والمقاطعة؟ كوزيرة كاملة الأهلية في بلدي كان لا بد من طرح رسالتي، وعندما أقترب الإجتماع من نهايته حاولت بطريقة لبقة  مقاطعة الترابي وطرح نقاطي، إلا أن إجاباته لم تكن مقنعة . حاولت طرح موضوع آخر إلا أنه تعمد تجاهله ، حيث واصل حديثه المندفع، وعندما لم تجد محاولاتي فتيلا نظرت الي أعضاء وفدي والي ساعتي اليدوية، ففهم الترابي الرسالة وأنهي الإجتماع. وبكل تهذيب شكرنا سعادته علي إقتطاعه هذا الزمن الغالي لمقابلتنا. وعندما خرجنا من المنزل هززنا رؤوسنا  متعجبين من شهرة هذا الرجل. بالطبع يبدو ذكيا جدا ونعلم قدراته علي الخداع والمناورة في المياه السياسية العميقة والمضطربة. وتساءلت هل أخفقت في فهم شئ؟ وبعد عام من ذلك اللقاء لم أتعجب عندما علمت أن الترابي قد تم إقصاؤه بواسطة الرئيس البشير.ولكن المثير للحيرة حقا أن هذا الرجل ظل رقما مؤثرا في الساحة السياسية مهما اختلفت أوضاعه سواء كان تحت الإقامة الجبرية، أو في الظلال أو في الهواء الطلق. لذا فأن درجة منصبه لا تهم فمهما تكن أسمية ورمزية منصبه إلا أن له القدرة علي التأثير وتحريك الأمور" .أنتهت هنا روايتها عن الترابي.  وتقول هيلدا جونسون أنها علمت لاحقا بالخلافات والعلاقة المتدهورة بين الترابي وعلي عثمان وهو أمر سعدت له وأعتبرته أشارة موجبة  . لهذا السبب نقلت هيلدا عن علي عثمان شهادته التاريخية بأن الترابي لو كان علي سدة الحكم لما تم التوصل الي إتفاق سلام مع الحركة الشعبية. وأشارت الي أن علي عثمان صار هدفا لنقد الترابي بعد أن قبل بإعلان المبادئ للأيقاد وهو في منصب وزير الخارجية. لهذا ما أن تم إقصاء الترابي حتي أستتب الأمر لأجراء مفاوضات مباشرة أفضت الي توقيع إتفاقية السلام الشامل.
عقب نشر الحلقة الأولي الأسبوع الماضي هاتفني أحد سكرتيري الشيخ حسن الترابي نافيا هذه  الحيثيات ، وقال إن الترابي هو أول من بادر للإستجابة الي طلب البرلمان السويسري الذي إقترح عقد لقاء يجمع بينه وقرنق.وحسب شهادته وأقواله فقد إجتمع الترابي وقرنق بالفعل في نيروبي في منتصف التسعينات.وأكد سكرتير الترابي أن طلب البرلمان السويسري تم عرضه علي القيادة السياسية لأخذ الرأي وتوسيع دائرة الشوري ، وللحق فقد أكد أن الأستاذ علي عثمان كان أيجابيا للغاية وأوصي بالموافقة علي المقابلة بين الترابي وقرنق، وأعلن في ذات السياق أن الدكتور غازي صلاح الدين كان أكثر تشددا من علي عثمان بل أوصي بعدم الموافقة علي قيام المقابلة لأنعدام جدواها ومبرراتها السياسية. ولعل هذا الرد من سكرتير الترابي جاء ليؤكد أن الشيخ كان ساعيا للسلام مسارعا في دربه ، وفي ذلك نفي مبطن لشهادة الأستاذ علي عثمان بأن الترابي لو كان علي قيادة الدولة والحركة لما تحقق السلام في الجنوب. ولعل شهادة هيلدا جونسون جاءت لتدعم هذا الزعم حول تعويق الشيخ حسن الترابي للسلام حيث ذكرت أن الترابي لم يكن صبورا علي الحوار والأخذ والرد والتعاطي الإيجابي للوصول الي سلام. وفي المقابل قالت عن علي عثمان أنه مخطط سياسي بارع، وصبور، ورغم الأنطباع السائد عنه بأنه (إنسحابي) النزعة إلا أنه شديد المراس فيما يريد أن يفعله، ووصفته بأنه مستمع جيد وله القدرة علي الفعل والإنجاز.
يصف البعض الزعيم الراحل جون قرنق بأنه كان إنفصاليا متخفيا حيث يظهر الوحدة ويبطن الإنفصال وذلك ما أشارت الي ربيكا قرنق مؤخرا.ولكن هيلدا جونسون تري أن قرنق كان وحدويا ولكن وفق رؤية السودان الجديد، حيث يزعم قرنق أن النخب التي حكمت السودان لم تهمش الجنوبيين فحسب بل همشت وأضطهدت كلي مواطني البلاد ، لذا فأن رؤيته للوحدة المطلوبة تتأسس علي العدالة ، والحرية والديمقراطية والعلمانية. وللحق كما ذكرت هيلدا جونسون فأن قرنق كانت له رؤية واضحة حول العلاقات مع الشمال ، فكثيرا ما كان يرسم دائرتين متقاطعتين، والمساحة التي تتقاطع فيها الدائرتان تمثل السلطات المشتركة بين الشمال والجنوب وهي الدفاع،السياسة الخارجية ، إدارة الحدود المشتركة والجمارك. وكان يطلق علي هذا النموذج الذي يمنح الجنوب سلطات واسعة (النموذج الكونفدرالي) وكان يظن أن الشمال إذا قدم نموذجا جاذبا للوحدة فإنه علي إستعداد لقيادة هذه المعركة وهزيمة الانفصاليين. ولكن القيادي البارز أبل ألير ينفي هذا الأفتراض ويؤكد أن تحقيق هذا الرأي الذي يدعو له قرنق مستحيل لأن الجنوبيين إذا أعطوا حق تقرير المصير فإنهم بلاشك سيصوتون للإنفصال. وقد قال ياسر عرمان في شهادته لجونسون إن قرنق كان يطمح إذا فشل مشروع السودان الجديد أن يبسط سيطرته علي الجنوب وان يكثف من تأثيره ونفوذه علي الشمال حتي يحدث التحول المنشود من الداخل.
تقول هيلدا جونسون في المقارنة بين صانعي السلام أن قرنق يمكن تشبيهه بالفنان الذي لا تمل صحبته أو الحديث اليه حيث يستطيع أن يخاطب الحشود لساعات طويلة دون ملل ، ويملك القدرة علي جذب الإنتباه والإصغاء بحكاية القصص والأمثال وعقد المقارنات، وكذلك إطلاق النكات، ودراسة الموضوع والواقع محل الحديث، حيث إستطاع أن يبهر سامعيه عند زيارته الي كاودا بجبال النوبة ،وأظهر معرفة عميقة بالواقع وتاريخ المنطقة. وتقول نادرا ما أخرج من إجتماع معه وأنا لا أقهقه أو تغمرني الضحكات لقدرته علي اصطناع النكتة والمرح. أما علي عثمان فهو أشبه بالقاضي. وتصفه بقولها أن تأثيره وقدرته علي الفعل ليست مستمدة من مناصبه الاسمية التي يشغلها ولكن من قدرته القوية علي شد الأوتار والعزف من خلف الستار.وهو ليس مغامرا أو متعجلا ، يفضل إتاحة الحوار والشوري والإتفاق علي رأي جماعي، وهو في كل الأحوال مستمع جيد ، يميل الي لعب الأدوار الخفية وصنع القرارات من خلف الحجب. وجه الشبه بين القاضي (علي عثمان) والفنان (قرنق) هو أنهما  يبنيان الثقة حول الأفراد ببطء، ولعل ما يميز طه هو أنه لا يتردد في التقريظ والإشادة بأي جهد إيجابي كما ان له القدرة أيضا للتعبير عن امتعاضه وخيبة ظنه اذا لم تسر الامور كما ينبغي لها. قالت جونسون أنها تحب انفتاحه في التعبير عن رأيه إشادة أو نقدا ولكن مع كل ذلك تغلب علي شخصيته صفة الخصوصية. وتقول: نعم في كثير من محادثاتنا كان يحكي عن أحداث أسرية ولكن غالب الحديث كان عن المفاوضات.
الآن تقدم هيلدا جونسون شهادتها عن رؤية علي عثمان الفكرية لمستقبل السودان. فمثلما كان قرنق يؤمن بالسودان الجديد فأن علي عثمان يستمد رؤيته من قناعته الفكرية وأجندته الإسلامية. وغالبا ما يعبر عن رؤيته بكثير من الحميمية .فهو يتساءل مثل غيره من الإسلاميين حول مدي ملائمة الطرح الإسلامي لبلد متعدد الأعراق متباين الثقافات والتوجهات؟ أم أن اختيار طريق أكثر مرونة وبراغماتية هو الأنسب للسودان؟ وتقول هيلدا لا يهم مدي جدية النقاش حول هذا السؤال داخل قيادة المؤتمر الوطني لكن الواضح أن علي عثمان أثناء المفاوضات أتخذ قرارا راشدا وهو يسبح ضد أمواج متلاطمة ، بضرورة أبداء بعض التنازلات حول هذا القضايا الأصولية.وهذا بلا شك قرار شجاع . فقد أحسن النائب الأول علي عثمان حينها قراءة الواقع السياسي محليا ودوليا. ولكن كان علي عثمان في لحظات مفصلية من التفاوض يدرك أن خط التنازلات التي يمكن أن تدفع المفاوضات للأمام خط احمر غير قابل للتجاوز لارتباطها بقضايا الدين. وكان لا يتردد في إفهام الذين يريدون ضغطه لمزيد من التنازلات في القضايا الحساسة أن هذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه. وقالت هيلدا في هذا الأمر قولة فصل: وهي أن علي عثمان كان يحتفظ في أعماقه بإشعاع خاص من أيدلوجيته العقدية وقناعته السياسية. ولكن مهما تكن الخلافات والتباين بين شخصية قرنق وعلي عثمان إلا أنهما يعكسان الخصائص الشخصية للسياسة السودانية.  وتقول هيلدا أن ما يجمعهما أيضا خاصية التمرد الباكر علي السلطة، فقد قاد علي عثمان إضراب الطلاب ضد جعفر نميري في عام 1970 وهو رئيسا لأتحاد طلاب جامعة الخرطوم. في ذات التاريخ كان جون قرنق و وزميله كول دينق يحرضان الطلاب ويقودان المظاهرات في مدرسة رمبيك الثانوية ضد سياسات الرئيس الراحل جعفر نميري. يقول علي عثمان في شهادته عن هذه الخاصية المشتركة بينهما " نعم تحدثت مع قرنق عن هذه الخاصية فكلانا له تجربة في التمرد ضد المؤسسات السياسية في السابق. كما تحدثنا حول مدي أخلاقية حمل السلاح ضد السلطة في السبعينات في أطار الأحداث السائدة آنذاك. اكتشفنا أن كلينا حمل السلاح للانتصار لقضيته السياسية. لذا بيننا الكثير من التشابه". ولكن رغم الأختلاف الواضح بين الشخصيتين إلا أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، فبغض النظر عن خلفياتهما الأكاديمية إلا أن كليهما مثقف، مفكر وأستراتيجي. وتقول هيلدا أنها أنبهرت بحدة ذكائهما،وموهبتهما التكتيكية العالية. وتقول: طه إعترف أنه أنبهر بشخصية قرنق، كما أن قرنق إعترف أنه لم يكن يدرك أن علي عثمان يملك كل هذا الذكاء والدهاء السياسي.
 ( ونواصل).

khalid Musa [kha_daf@yahoo.com]

 

آراء