بسم الله الرحمن الرحيم
حول ثورات تونس ومصر والسودان
مخطيء من يظن أن الشعوب غرف صماء لا تتأثر بما حولها فتتعلم وتأخذ الدروس خاصة إذا كانت تسير في مؤخرة قافلة الأمم أو كما قال إبراهيم أحمد رحمه الله. كذلك مخطيء من يظن أن شعبا ما يستطيع أن يقلد آخر ويمشي وراءه حذوك النعل بالنعل لأن لكل صفاته الخاصة وظروفه ومتعلقاتها التي تؤكد أن طريق التقدم مثل ما فيه اعتبار بتجارب الآخرين هو طريق إبداعي خاص بالأمة المعنية لا يمكن أن تنقله من سواها. هاتان حقيقتان.
الحقيقة الثالثة متعلقة بالانتفاضة التونسية التي أطاحت بزين العابدين بن علي في يناير المنصرم وصداها الأبعد. حينما تفجرت تلك الانتفاضة بعد حادثة بوعزيزي الشهيرة تجاهلتها أنظمة عربية كثيرة كانت تأمل أن يقضي بن علي على تمرد المشاغبين في رأيهم، ثم لوت لها سوالفا باعتبارها حدثا معزولا وخاص بتونس دون سواها. مع أن كثيرين رأوا فيها بحق علامة فارقة فقد كانت تتصاعد ولا تتراجع، وكان الإعلام العالمي الذي يتصف بقدر من الموضوعية (البي بي سي كمثال) وإعلام قناة الجزيرة عربيا، كان هذا الإعلام وذاك يغذي لهيبها بنقل أخبارها لتونس وينمي شرارة الثورة داخل كل الأرض العربية المحتلة بتعبير محمود درويش رحمه الله.
ثم أتى يوم أغيث فيه شعب تونس وعصر بعد سنوات الشمولية القحطاء الجرداء. كانت فرحة الشعوب العربية ليس لها نظير، لأن نجاح الثورة التونسية يعني أن هذا الكابوس الشمولي الممتد كأنه سرمدي يمكن أن ينزاح، ويمكن للشعوب أن تصحو على فجر تغرد فيه طيور الحرية، وتعبر لانطلاقاتها، وأنه فعلا وحقا لا بد من صنعا ولو طال السفر.. رأت هذه الشعوب خيوط ضوء الفجر بعد أن قال بلسانها من قبل شاعرنا المرحوم مختار محمد مختار:
يا رب أما لليل غــــد والظلم أليس له أمد
تاهت بالظلمة أعيننا فكـــــأن نهايتها الأبد
نعم بعد الانتفاضة التونسية تسرب الحلم ليحل محل اليأس، واليأس راحة للقلب وللبدن حيث يتوقف القلب عن الاعتصار والوجع بدون ترقب أو أمل ويركن لحاله، ويتوقف الناس عن بذل الجهد وهم يائسين. الشعوب النائمة تيقظت، وانتبهت الجموع الخاملة لا كانتباهة الغراب الضال والبوم الناعق، الأذان الذي انطلق فأيقظها صدح أن حيّ على الفلاح، حيّ على الصلاح، حيّ على التحرير.
هذه الحقيقة الثالثة (حتمية التحرر) كانت جلية ساطعة جعلت الشعب العربي يقول: كلنا توانسة، وجعلت الجموع تتحرك في الجزائر ومصر والأردن وموريتانيا والسودان واليمن وسوريا، والبقية تأتي، إلا أن بعضهم غالطها غلاطا بائنا. بعض هؤلاء المغالطين أذناب شمولية لو لم يثبطوا الحرية لقطعهم الرأس وأحل محلهم ذنبا جديدا يحسن الهش والنش، ولكن للأسف كان بعضهم دعاة حرية بيد أنهم لا يريدون التمسك بأهداب الأمل وما فيه من معاناة الإحباط إذا لم يتحقق، وكثير من الناس يهيئ نفسه لأسوأ النتائج متشائما حتى لا يكون وقع الفشل عليه عظيما، وهو ميكانيزم دفاع نفسي معروف.
كتب د. عمر شوبكي في صحيفة (المصري) اليوم بتاريخ 16/1/2011م أي قبل دستة أيام فقط من يوم الغضب الرهيب (الجمعة 28 يناير)، وقبل نحو أسبوع من تفجر انتفاضة مصر، كتب مقالا بعنوان (مصر ليست تونس) وقال فيه "إن ما يجرى فى تونس من الصعب أن يتكرر فى مصر" وساق مقارنة بين الحالتين قال إن النظام التونسي لم يكن يسمح بالتنفيس كما في مصر، وقال إن "تونس احتجت لأن مجتمعها ظل فى حالة صحية، وبها تعليم عام ربما هو الأفضل فى العالم العربى" مشيرا للحالة النقابية الجيدة في تونس والسيئة في مصر، واعتبر أن اللوثة الدينية في مصر جعلت احتجاج المصريين من أجل أى قيمة عليا كالحرية والعدالة ومواجهة البطالة والحد الأدنى للأجور غير وارد باعتبار أن تونس عقلانية متعلمة نسبة الأمية فيها 10% وليس فيها أخوان مسلمون.. بل انطلقت التقارير الخبرية تقول إن مصر محصنة بسبب دعم المواد التموينية الأساسية.. وعند جهينة: الشعب المصري كان الخبر اليقين! فما أن لعق الشعب التونسي جراحه بعد نحو ستين شهيدا وفر بن علي وأسرته وطارت فضائح النظام وأزكمت الأنوف وظهر المخبأ ولكنه معروف، حتى تحرك المارد المصري مكذبا أقوال المثبطين من أذناب الشمولية، والمتشائمين من أهل الحرية الذين رضوا باليأس ملة وبالثرثرة الغاضبة التي لا تثق في شعب ولا في قائد رسولا! ثورة الشعب المصري قدمت حتى الآن نحو ثلاثمائة شهيد أي خمسة أضعاف ما قدمه التوانسة، وجعلت سودانية تفخر ببلدها حتى النخاع تكتب قائلة:
ما بتبقى عيشة الذم والدنيا قهرية
لا بنهدا لا بننجم كيدتنا مهريــــــة
شمينا ريحة الدم نروي التراب رية
وأنا شن أسو يا هم شان أبقى مصرية؟
الشعب الذي وصفه الكاتب المصري أعلاه بالأمية وباللوثات الدينية، وقال إن لديه متنفسا ليس كالتوانسة فعلها. والرئيس المصري لا زال يتمسك بعرشه بشكل يدعو للاستهجان، وبعد سقوط مئات الشهداء ماذا ينتظر ليحفظ بعض تاريخه وبعض ماء وجه؟! وحتى لو لم يرحل الرئيس المصري وظل حتى الانتخابات القادمة فإن النظام قد سقط: أولا بتأكيد عدم إعادة انتخاب الرئيس، وثانيا بتأكيد عدم التوريث، وثالثا بالرضوخ لمطالب المعارضة التي كان النظام المصري لا يعيرها أي التفات. المارد الشعبي المصري لم يقل كلمة شبيهة إلا مرتين في 1919م و1977م.
بعد انتفاضة 1919م التي انتظمت مصر ريفا وحضرا عزل الحاكم البريطاني حينها كما حققت الانتفاضة فك أسر سعد زغلول ورفاقه المنادين بالاستقلال المصري وتواصلت الانتفاضة بأشكال أقل حدة حتى ذهب الاحتلال في 1922م ثم صدر دستور 1923 الذي أعطى الملك صلاحيات أقل وجرت الانتخابات التشريعية التي فاز فيها سعدٌ وشكل حكومة وصار بطلا مجمعا عليه في التاريخ المصري ولكن بقي الملك. وفي انتفاضة الخبز عام 1977م انتفض الشعب في جميع المدن الرئيسية تقريبا بسبب مضاعفة أسعار الغذاء. تراجعت الحكومة إثر الانتفاضة من قراراتها ولكنها وصمت المنتفضين بـ"الحرامية". فهل تكون هذه كالأولى أم كالثانية أم أنها تكمل الدورة كاملة؟ الله أعلم! ما نعلمه هو أن الشعب المصري أبدا لم يقلها كاملة في تاريخه ولا حتى في انتفاضة 1919م حيث بقي الملك، ولم يتغير إلا في ثورة يوليو 1952م التي قادها الضباط الأحرار، وليس الجماهير. وإذا أفلحت الجماهير المصرية اليوم في أن تكمل الدورة تماما كتونس فإنه سوف يكون تاريخ جديد لمصر، لم تشهده في تاريخها منذ عهد الفراعنة.
ولنأت للسودان. قال السيد ثروت قاسم وهو كاتب إسفيري سوداني ديمقراطي السنخ إننا لسنا كتونس وقارن بين الشعبين في حالتين: الأولى في استخدام الإنترنت مؤكدا أنه وسط كل خمسة في تونس هنالك واحد يستخدم الإنترنت (2 مليون مستخدم من بين 10 ملايين نسمة هم التوانسة) بينما في السودان النسبة تتضاءل لتكون واحدا كل عشرة ألف أو ما يشابه. والثانية إن تونس تحترم المراة بينما نحن نذلها ونضطهدها! سَمِح كما تقول النسوة السودانيات: لقد فجرنا انتفاضتين من قبل ولم يكن حينها واحدا في السودان يستخدم الإنترنت، أما أننا نضطهد المرأة وتونس تقدرها هذه ففيها قولان! تونس الرسمية تعلن المساواة بين الجنسين والخرطوم الرسمية تؤمن بالفرق الشاسع بينهما كما بين البني آدم والبهيمة، هذا صحيح! لكننا نتجرأ على القول إن تونس الرسمية كانت تضطهد المرأة مثلما تفعل الخرطوم الرسمية ولكن تحت لافتة المساواة: فالمرأة في تونس ليست حرة فيما تلبس وعليها أن تسفر وتطرح الخمار وتخرج شعر رأسها عنوة، للدرجة التي يفتش النظام ضباط أمنه (الذين يسميهم الأعوان) فإذا كان لأحدهم قريبة (زوجة أو ابنة أو أخت) تلبس (اللباس الطائفي) فإن ذلك يبلغ عنه كما يبلغ عنه لو كان يطيل البقاء في المساجد! وإذا أرادت فتاة أن تدخل الجامعة أو امرأة أن تذهب لمكتب رسمي فعليها أن تسفر رأسها لتدخل، مثلما على الفتاة في السودان أن تغطي رأسها لتدخل حرم الجامعة أو المكاتب الرسمية، ومثل هذا الاستبداد على النساء لدينا ملة واحدة سواء أفرض الحجاب أم فرض السفور. إن احترام المرأة معناه تحرير خياراتها الشخصية والدينية لأنها هي التي تملك الأهلية لتقرر ماذا ترتدي هل تلبس خمارا أم تطلق شعرها للهواء الطلق، وأي تدخل في حرية النساء بالقانون وفي خياراتهن معناها أن النساء يحتجن لذكر أو لسلطة تحدد لهن الخطأ والصواب، إن الشريعة الإسلامية التي طالبت المؤمنات بزي محتشم لم تحدد لتجاوزه عقوبة أو تسلط أحدا لفرضه عليهن بل خاطبهن سبحانه وتعالى بمصلحتهن (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) كذلك وفي المقابل لا يمكننا قبول فرض مخالفة الشرع! ومنذ زمان بعيد ونحن نعد الأنظمة السعودية والإيرانية والطالبانية والسودانية والتي تفرض الحجاب من جهة، والأنظمة التونسية والتركية والمصرية والتي تفرض أو تحبذ السفور من جهة، وجهان لعملة واحدة هي اضطهاد النساء وفرض رؤى السلطة الذكورية عليهن! ونتجرأ أكثر لنقول إن في السودان المراة حاضرة وظاهرة وفاعلة برغم سلطة الإنقاذ، وبالرغم مما نالته لبنى وفتاة الشريط وعشرات الآلاف غيرهن، وبالرغم مما تقذفه أبواق النظام ومنابره من إساءة للنساء وتوزعه يمنة ويسرة.
إن ظروف مصر لم تكن كظروف تونس ولكن الثورة انطلقت شعارات ترددها القلوب. وظروف السودان ليست كظروف مصر ولا تونس. ومع إننا لا نحب المقايسة وكررنا برمنا من القياس باعتبار أنه لا تكون حادثة كحادثة أبدا، إلا أن الأمر مطروح، طرحه شباب 30 يناير السودانيون بفصائلهم المختلفة: ثورة السودان عبر الإنترنت.
هذه الثورة معها محفزات وضدها مثبطات. من محفزاتها أن هناك ظرف تاريخي جديد في كل المنطقة، الأسوة التونسية فضحت الفرعون الميت كما فعلت دابة الأرض مع سيدنا سليمان حينما أكلت منسأته فخر جسده على الأرض. قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ). والشعوب الآن تدرك أن هذه العروش لا تملك مقومات الحياة أمام هبتها ولن تلبث بعد في العذاب المهين.
الظروف المساندة أيضا في السودان هو أننا بلد تسري الحرية في عروق أهله ولا نتقبل الاستبداد أو السلطة الأبوية المفروضة، فمنذ زمان بعيد والثقافات السودانية تعايش السلطة الاختيارية حيث يختار الناس زعيمهم لا بالغلبة والسيف سواء أكان شيخ قبيلة أو طريقة وغيرها. والسلطة المركزية الغاشمة بحد السيف كانت دائما في السودان تنام على أسنة الرماح في غير ارتياح. أهرامنا في السودان كثيرة جدا بالآلاف وحجمها قريب لأحجام بيوت الناس تشعر المواطن بانها منه وإليه، وفي مصر هي معدودة وضخمة تشعر المواطن بأن هذا ما لا قبل له أن يواجهه وبعيد عنه. وتاريخنا يروي أننا لا نقبل الذل والمهانة ولذلك فالشعب برغم أنه كان يفتقد للسلاح الناري وجه للحكومة التركية بانتفاضته المهدوية درسا بالسلاح الأبيض بداية وحتى اقتنى الناري وأتقنه! انتفض كله وحرر أرضه، وفعلها في أكتوبر 1964 وفي أبريل 1985م. أما انتفاضة 1924م التي كانت من أثر انتفاضة الشعب المصري في 1919م فقد قام بها مثقفون وطنيون، ولكنهم عانوا من عدم تجاوب الشعب مع ثورتهم كما يطلبون، وهذا ما وثقته دراسة اليابانية فاطمة يوشيكو كوريتا. لقد خاب فأل ثوار 1924م من منبعين: من الجانب المصري الذي ظنوه سوف يساندهم خاصة والحكومة المصرية بعد الثورة قضت على الاحتلال البريطاني وانتخبت زعماء شعبيين هذه المساندة لم تحدث، ومن جانب سواد الشعب السوداني العريض الذي لم يحرك ساكنا إلا في نطاق محدود.
صحيح أثمرت الثورة أدبا غنيا لا زال يغذي الوطنية السودانية بأمثال (يا أم ضفاير قودي الرسن) لكن الخيبة أورثت قواد الثورة واحدا من مصائر ثلاثة: إما الموت الزؤام وكان ذلك مصير البطل عبد الفضيل ألماظ، أو الخبال وكان ذلك مصير البطل علي عبد اللطيف داخل السجن، ومن نجا من هذا وذاك أسلم لليأس. المهم أن ثورة 1924م وقد كانت ثورة مثقفين لم تستطيع تحريك الشارع السوداني فتحطم عرشا أو تعطي الحاكم درسا.
الشعب السوداني اليوم أمامه تواريخه كشعب معلم له سجلات ثورية عظيمة وله ظروفه الخاصة التكنلوجية والمعرفية وطبيعته المختلطة بين النخب السياسية والقبلية والطائفية والإنتلجنسيا. وأمامه الأسوة التونسية والهبة المصرية الملهمتان واللتان ابتدأتا بجدارة عصر الشعوب. هنالك رياح مواتية للإبحار، وهنالك خواص بالبحر الذي نبحر فيه إذا جئنا له بالسفن التونسية أو المصرية كما هي ربما غرقت، تماما كما أثبت دكتور يوسف حسن مدني أستاذ الفلولكور أن سفن الترك الضخمة لم تعش طويلا في السودان لاختلاف طبيعة النيل في مصر عنه في السودان.
إننا ننطلق من هذه الأرضية التحليلية لنخاطب ثورة الشباب اليوم ونحدد مسادير السداد التي يجب انتهاجها لتكون مفتاحا يدير القفل لباب الشعب السوداني نحو الحرية. وإذا لم تمتلك هذه الانتفاضة وعيا كافيا بظروف بلادها واقتصرت على النقل بـ"الذبابة" من التجربة التونسية أو المصرية فإن أفضل تاريخ ينتظرها هو تاريخ ثورة 1924م والتي برغم البطولة فيها والأدب الرفيع الصادر عنها ظل الحال على ما هو عليه، وهو أخشى ما نخشاه!
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]