المخاض العسير للإنتفاضة المُزدوجة ضد الحُكم والمعارضة، معاً
mahdica2001@yahoo.com
في أُمسية الأربعاء الموافق 05 يناير 2011، كُنت بدار حزب الأُمة القومي في اُم درمان، أستمع إلى قادة أحزاب التحالف الوطني (ياسر عرمان، كمال عُمر، مُبارك الفاضل، صديق يوسف، فاروق أبوعيسى، محمد ضياء الدين، عبد الرحمن الغالي،،،،،إلخ) وهُم يستعرضون الوضع السياسي المأزوم ويؤكدون على عزمهم الإطاحة بالنظام الحاكم، واسترعت إنتباهي ثلاثة مُلاحظات:
- غياب عُنصر المرأة (نصف المجتمع) عن منصة الخطابة، وعدم وجود كوادر خطابية شبابية لأحزاب التحالف وخاصةً قوى اليسار التقليدي وإعتمادها على كبار السن (فاروق أبوعيسى، صديق يوسف مثالاً) ولا أتصور كيف يكون الشخص كادراً خطابياً حماسياً وهو في العقد الثامن من عُمره!!!!.
- حديث الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي/ كمال عُمر عن "تغيير إستراتيجية مناهضة النظام بإحداث الثورة في الأطراف والهامش، وشد المركز ومحاصرته ومن ثم تفجير الإنتفاضة من داخل كرش الفيل"، وسوف أعود إلى هذه المسألة بالتفصيل في مقال قادم قريباً بإذن الله، وذلك لأهميتها القصوى.
- تحذير القيادي بحزب البعث العربي/ محمد ضياء الدين، لرفاقه في تحالف الأحزاب قائلاً "لا نُريد أن نسمع بعد أيام، أن الحزب الفلاني إلتقى بالمؤتمر الوطني، من خلف ظهرنا، لبحث كذا وكذا،، إلخ"، مما يشي بتزعزع الثقة بين المُتحالفين، وبالتأكيد فإن المُتحدث لم يكُن يرجُم بالغيب وإنما كان يستقرئ تاريخنا القريب ويستقي الدروس من تجارب التحالفات المُجهضة بفعل فاعل؛ وها هي الأيام تُثبت صدق حدسه وصواب تحليله وتحقق مخاوفه، ولو إفترضنا حُسن النية في التحرك الأخير لحزب الأُمة وإجتماعه مُنفرداً بحكومة الإنقاذ، ألم يكن الأجدر به إخطار حلفائه في تحالف الأحزاب، خاصةً وأنه سبق وأن لُدغ من هذا الجُحر أكثر من مرة وشرب سُماً زعافاً من سياسة "فرق تسُد" التي يتقنها دهاقنة المؤتمر اللا وطني، والذين أصبح منسوبوه في الداخل والخارج خُبراء في نسج مؤامرات تقسيم الأوطان وزرع الفتنة بين الجماعات والجاليات وحتى بين ذوي القُربى والوداد، وما تجربة التجمع الوطني الديمقراطي وإتفاقيات جيبوتي (إتفاقية الأرنب والفيل) وجنيف والقاهرة وأسمرا وأبوجا وأنجمينا وطرابلس و"الخرطوم للسلام" و "الدوحة الإطارية"، حتى "نيفاشا الإنفصالية"، ببعيدة عن الأذهان، وقد كتبنا وكتب غيرنا حتى جفت الأقلام وطويت الصُحُف، عن نقض المواثيق والعهود والدساتير وتفريغها من محتواها، ولكن ثبت أن آل البوربون لا ينسون شيئاً ولا يتعلمون شيئاً، ومن جرب المُجرب حاقت به الندامة وباء بخُسران مُبين، ولئن كُنا قد جربنا الأحزاب الطائفية خمسة أعوام مُتقطعة فلقد جربنا الإنقاذ أكثر من عشرين عاماً مُتصلة، فلم نجد لدى الطرفين ما يُبرئ أسقام الوطن العليل، فكفى دوراناً في حلقة جهنمية مُفرغة.
نحاول هُنا الإجتهاد والإجابة على تساؤلات مُثبطة للهمم (بعضها بحسن نية وجُلها عن قصد خبيث) تدور وتمور في أذهان العديد من السودانيين والسودانيات، عن أسباب تأخُر إنتفاضة السودان (من ضمنها مقالة بروفيسور/ عوض محمد أحمد، بعنوان "لماذا تأخرت إنتفاضة أهل السودان ضد نظام الإنقاذ؟" المنشور بصحيفة سودانايل الإلكترونية بتاريخ 02 يناير 2011)، كما نسعى إلى سبر غور ومعرفة أسباب تعسر المخاض، رغم الحال المايل الذي لا يُقارن بدول الجوار العربي التي سبقتنا إلى الثورة والتغيير، وتدهور أوضاعنا السياسية والإقتصادية والإجتماعية إلى درجة غير مسبوقة، والفساد والفشل اللذان لا يوجد لهما مثيل حتى في تونس ومصر اللتان كانتا سباقتين إلى الثورة رغم أن نظام زين العابدين بن علي أحدث تنمية بشرية هائلة، وأن النظام المصري لم يُفرط في شبر واحد من أرضه (ولا حتى طابا الميكروسكوبية) فالنياشين التي تُزين صدر وأكتاف رئيسه "حُسني مُبارك" لم يحصل عليها لشنه الجهاد على مواطنيه أو حرق قُراهم ورجمهم بطائرات الإنتينوف، وإنما لقيادته طيران جيش مصر في حربها ضد عدوها التاريخي "إسرائيل" في أكتوبر 1973، فجيش مصر لم يوجه سلاحه إلى صدور أبناء شعبه (حتى وإن تواطأ بالحياد السلبي مؤخراً) ولكن جيش الإنقاذ بقيادة البشير وعبد الرحيم لم يواجه قط عدواً خارجياً وصوب كُل سلاحه نحو رفاق دربه ومواطنيه العُزل، وهذه سقطة لن يغفرها التاريخ أبداً. ففي سودان الإنقاذ لم تبق موبقة أو كبيرة لم تُرتكب، ومع ذلك هُنالك من يُطبل ويقول بكُل سذاجة حيناً وخُبث أحياناً "ما البديل؟؟"، كأنما حواء السودان الولود أصبحت عقيماً وتوقف رحمها عن الإنجاب، أو كأنما كُنا نعرف من هو البشير وزُمرته قبل ليل الثلاثين من يونيو 1989 الكئيب.
أينما ووقتما وكُلما حاورت مواطناً سودانياً- وخاصةً إذا كان من جيل الشباب- عن مساوئ وفساد وفشل هذه الحكومة، إلا وأقر بكل مثالبها وسوءاتها، لكنه لا ينفك يُجابهك بهذا التساؤل "ما هو البديل؟؟" ويردفه بعبارة أصبحت محفوظة كجُزء عمً (نعم، إنها حكومة سيئة ولكن البديل أسوأ!!!). ومع عدم حُجية هذا المنطق- إذ المطلوب ليس إستبدال أشخاص وإنما تغيير نظام للحُكم- إلا أن شيوعها على نطاق واسع وتكرارها بصورة مُملة يستدعي التأمُل فيها وإعمال المبضع لتشريحها وتحليلها.
يبدو أن الحيرة التي يُبديها الشباب بشأن البديل لنظام الحُكم الراهن، ليس منشؤها عدم وجود البديل كما يقولون خطلاً، وإنما المقصود أن البديل المُتاح والمطروح على الساحة، أي قيادات الأحزاب التقليدية (وبالتحديد المهدي والميرغني والتُرابي ونُقُد)، غير مُقنعة في شخوصها ولا في مُمارساتها ومُجافاتها للديمقراطية وسدها لمراقي التدرج والتغيير في أروقة أحزابها، ويزداد طينها بللاً بعدم وجود برامج لها. ولهذا فإن تمسك قواعد هذه الأحزاب بقياداتها التقليدية وعدم قُدرتها على تغييرها وعجزها عن تقديم قيادات جديدة على مدى أربعة عقود كاملة، يؤكد عجزها عن أن تكون بديلاً موضوعياً، وهكذا يسقط الشعب السوداني الصابر في لُجة اليأس ودوامة الإختيار البائس بين حكومة فاشلة ومُعارضة عاجزة، وهكذا يستطيل ليل الإنقاذ البهيم بسبب هذه الأحزاب وقياداتها الشائخة. وقد قال نفرُ من الشباب، بكُل وضوح وصراحة، إنهم ليسوا على إستعداد للتعرض للضرب والسجن والإعتقال وربما الإستشهاد، من أجل أن يأتي إليهم مرةً اُخرى ذات السادة القُدامى، و"كأننا يابدر لا رُحنا ولا جينا"، ولذلك أصبحت أحزابنا المُعارضة وقواعدها المُستسلمة-بوعي منها أو بدونه- عاملاً أساسياً في بقاء الإنقاذ وإطالة أمد المُعاناة وإستفحال الأزمة الوطنية، ولذلك فقد يكون في إلتحاق المهدي والميرغني وبقية جماعة الكهنوت بقطار الإنقاذ، خيراً كثيراً وتسريعاً لوتيرة الثورة (وفرزاً للكيمان)، وإسقاطاً لحُجة سوء البديل، كما ييسر إسقاطهم سوياً، ضربة لازب.
في مثل هذه الأحوال التي تنبهم فيها السُبُل وينسد الأُفُق، يترجى الناس أن ينبري الثوار المُجددين القادمين من صُلب الكادحين والمُهمشين والمُناضلين بالأصالة لا بالوكالة، لملء الفراغ وقيادة المُعارضة، وهذا دور طليعي تقوم به عادة أحزاب اليسار في الدول النامية والمتخلفة، ولكن مأساتنا أن المُمثل التاريخي لليسار أكثر رجعية من آل البوربون الذين أشرنا إليهم آنفاً، بل أصبح كُل هم قادة حزب الطبقة العاملة ورصفائهم في تيار السودان الجديد، الإنسياق وراء محاولات تكبير الكوم بالتحالف مع الذين يسعون في آخر المطاف لتفكيك سُلطتهم المادية والروحية، علماً بأن مثل هذه التحالفات غير المبدأية ليست سوى أورام وإن كبُر حجمها وعددها، وعندما تحين ساعة الجد يلوذ كُل حزب بقواعده وطبقته وتتمايز الصفوف ويحدث البيع في سوق النخاسة السياسية عند أول منعطف، ويتقاسم الجلابة (تُجار السياسة) كيكتهم وحدهم (كما يتحاورون الآن خلف الأبواب المُغلقة)، ويُفيق عرمان ونُقُد على حقيقة أنهم كالأيتام على مائدة اللئام.
لا يوجد شخص عاقل يعترض على وجود قوى اليسار والسودان الجديد ضمن التحالفات الوطنية العريضة التي تسعى لإسقاط نظام الإنقاذ، الذي أصبح إستمراره يُشكل خطراً على وجود الأُمة السودانية بأسرها، ولكن الإعتراض أن يكون السعي لهذه التحالفات هو غاية مُبتغى القوى الحديثة، فالأجدى والأنفع السعي بدأب لتوحيد القوى الحديثة (وأعني بالتحديد الحزب الشيوعي، الحركة الشعبية، كافة قوى السودان الجديد، وكافة الديمقراطيين والإشتراكيين والعلمانيين والمُهمشين على مختلف ألوان طيفهم وأقاليمهم).
لا ينبغي توصيف وتفسير توجه الصادق والميرغني صوب الإنقاذ وإنعطافهم يميناً بالإنتهازية السياسية فقط إذ أنه حتمية ونتيجة منطقية لطبيعة تكوين أحزابهم والقاعدة الإجتماعية والإقتصادية التي إنبثقوا منها ويستندون عليها، والتي لا تختلف كثيراً عن قاعدة الحركة الإسلامية، إذ أن جميعهم ينهلون من معين واحد وإيديولوجية مُتشابهة ويرفعون راية العروبة والإسلام فإختلافهم إختلاف مقدار وليس إختلاف نوع (والعرجا لمراحا)، ولذلك صدق الطيب مُصطفى عندما سماهم "أهل القبلة؛ ذوي الحق الإلهي في حُكم السودان" ودعاهم إلى التوحد ضد عدوهم المُشترك المتمثل في قوى السودان الجديد وجموع الهامش الزنجي الإفريقي في دارفور وجبال النوبة والأنقسنا وحزام الفقر والجوع حول العاصمة وجيوب مُثلث حمدي اللعين. لهذا فإن على الثورة "القادمة لا ريب فيها" أن تُنجز في آن واحد وفي ذات اللحظة؛ كنس النظام القائم ومنع المُعارضة التقليدية من التسلل وتولي زمام الأمور، مع الإقرار بصعوبة التحدي وعظم المسئولية وإدراك جسامة إنجاز هاتين المُهمتين المهولتين في آن واحد (إزالة الحكومة الفاشلة، وإبعاد المُعارضة العاجزة).
لقد كان العشم أن تُنجز هذه المُهمة عبر حملة التغيير والأمل التي قادها قطاع الشمال إبان بلبال إبريل الكذوب وإنتخابات التزوير والخج، إلا أن الأخطاء الجسيمة التي إرتكبها هذا القطاع (خطأ ترشُح عرمان إبتداءً لرئاسة الجمهورية ثُم خطيئة إنسحابه، مثالاً) وعدم المؤسسية في إتخاذ القرارات والتردد وعدم القُدرة على المُبادرة وإتخاذ القرار المناسب في الوقت المُناسب والإستسلام المُشين لتيار الإنفصال، أضعف كثيراً من مصداقيته، ويبدو أنه ينهج ذات نهج القيادات التقليدية (وهذا ليس أوان أو مجال هذا الحديث).
رغم القتامة والعبثية التي يتسم بهما المشهد السياسي السوداني، إلا أن ثمة إيجابيات عديدة تتمثل في بروز تنظيمات المجتمع المدني ومنظمات المرأة والشباب والقوى الحديثة (شباب من أجل التغيير، كفاية، قرفنا، نساء ضد القهر، القومة ليك ياوطن، تجمع القوى الوطنية الحديثة "توحد"، الجبهة الوطنية العريضة، تحالف كُردفان للتنمية "كاد"، وكافة التجمعات والتنظيمات الجهوية، والنقابات الوطنية ،،،،،،إلخ) متجاوزة كُل الأُطُر والهياكل القديمة وخيراً فعلوا، ولكن عليهم الحذر من ألاعيب تُجار السياسة والتيقظ لمحاولات الإلتفاف على تحركهم وتجييره لصالح القوى والتنظيمات التي أقعدت السودان منذ فجر إستقلاله وحتى الآن. فجُل ما يرجوه هذا الشباب من أسلافهم، عدم التآمر عليهم وتركهم وشأنهم، فهُم أدرى بما يريدون وكيف يحققون أهدافهم النبيلة، ولتكن مبادئ المُساءلة والمحاسبة وإسترداد حقوق الشعب المنهوبة ومحاكمة المفسدين من أولى أجنداتهم، ولا عفا الله عما سلف. وبلا شك سوف يدرس شباب الإنتفاضة ويستفيد من تجربتي مصر وتونس، وقبلهما دروس ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985، وهذا لا يعني البتة أن كُل شيوخنا عاجزين وإنتهازيين (حاشا وكلا) فمنهم وفيهم من يمحض النصيحة الخالصة، ومن يُمكن الإستفادة من رؤاه وتجاربه الثرة، ولكن الحذر واجب أيضاً من جماعة "نافخ الكير الضار" (ولا أريد إستخدام تسمية خالد عويس لنافخ الكير "أبو العفين"، والتي إستحق عليها براءة إختراع) و"الطفل المُعجزة" و"الطاؤوس التُركي" وغيرهم من العناطج وشيوخ السوء.
ختاماً: أعلن الغطريس، نائب الرئيس (الحوار الغلب شيخه) عن "إجراء "تعديلات في آليات الحُكم، وتغييرات في القيادة والأشخاص في فترة الجمهورية الثانية، ودعا الأحزاب إلى الحوار الجاد لبناء دولة جديدة مُتحضرة" (في أقرار ضمني بأن الدولة التي يقودها ويُنظر لها، غير مُتحضرة) ولكنه أضاف- ويا للهول والتناقض- "أنه لا مجال لتفكيك المؤسسات القائمة للدولة بإعتبارها دستورية وليست إنتقالية".
أفيدونا ياعالم، كيف تجرون تعديلات في آليات الحُكم وتبنون دولة جديدة متحضرة، وفي نفس الوقت تُحافظون على ذات مؤسسات الحُكم القائمة؟!. هل تتسق مُقدمة هذا الحديث مع آخره، أم أنها الفهلوة واللعب بالكلمات، وصدق الشيخ الحبيس/التعيس عندما قال " كُنت أظنها حماقة.... ولكني وجدتها خُبث....، واللبيب بالإشارة يفهم، وإنت عارف وأنا عارف، وربنا أعلم منا جميعاً بخائنة الأعين وماتُخفي الصدور.
وليسمح شاعرنا محمد المكي إبراهيم (ودالمكي) حادي أكتوبر الصيداح، أن نستلهم (بتحوير طفيف جداً) دُرة من أناشيده الإكتوبرية لنٌضمخ بالعبير أجواء الثورة الفتية، ونقول لشباب التغيير:
"من غيركم يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر؛ من غيركم ليُقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير؛ من غيركم لصياغة الدُنيا وتركيب الحياة القادمة؛ جيل العطاء المُستجيش ضراوة ومُصادمة؛ المُستميت على المبادئ مؤمنا؛ هدم المُحالات العتيقة وانتضى سيف الوثوق مُطاعنا؛ ومشى لباحات الخلود عيونه مفتوحة؛ وصدوره مكشوفة؛ بجراحه مُتزينة؛ مُتخيراً وعر الدروب وسائراً فوق الرُصاص مُنافحا؛ جيل العطاء لك البطولات الكبيرة والجراح الصادحة؛ ولك التفرد فوق صهوات الخيول روامحا؛ جيل العطاء لعزمكم حتماً يُذل المُستحيل وننتصر؛ وسنبدع الدُنيا الجديدة وفق مانهوى؛ ونحمل عبْ أن نبني الحياة وننتصر".