درهم “إصلاح وتغيير” خير من” قنطار” ثورة … بقلم: عمر الترابي
ليس للثورة ظل بل لهب.
alnahlan.new@hotmail.com
الثورة، الغضب، هما شعارا هذا العام، وهما يعبران عن حالة التململ الشعبي في بعض دول المنطقة، ولكن السؤال الذي يواجهه الجميع، لماذا الثورة، و أهليتها، وما هي عواقبها، و ما هو الحل!.
إن قراءة الخارطة السياسية الاجتماعية في الشرق الأوسط، توضح أن حالة الغضب التي تستشري بين الشعوب في المنطقة ليست نبتًا شيطانيًا، و قراءة التاريخ تؤكد بأن التفاعل التاريخي بين هذه الشعوب حتمي وذلك استقراءً لتواريخ الثورات و الانتفاضات، والسقوط في الاحتلال، و السعي إلى الاستقلال ، ونيله، و كل ذلك متقارب بالرغم من تعدد المسببات وتباعدها أحيانًا، فيجوز لنا استخلاص علائق تاريخية روحية تربط الانفعالات السياسية بين هذه الشعوب في صيغة واحد ومنظومة متماثلة، بشكل من الأشكال.
ولكن الآن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا الثورة في هذه اللحظة؟، وقبل الإجابة ينبغي تحديد مسارها، بأنه لن يُضيرنا أن نتجاهل الكثير من العوامل الخارجية؛ وتجاهلنا لها لا يعني جهلنا بها بأي حال (فنحن نعلم بكثير منها تمامًا)، ولكنه لا ضير في أن نركز على العوامل والأسباب الداخلية و نحاول فهم بعض أوجهها التي خرجت بهذه الغضبة "الظاهرية" الثورية المدهشة، آخذين في الاعتبار أننا الآن نسمع لصوت واحد وهو صوت الشعوب، ولم نسمع بعد ما ستقوله الأنظمة لو قُدر له الكلام مرة أخرى، ولكن أيّا كانت مصادر رؤانا، فإن الموقف يستحق الدراسة.
تبدو المشكلات الاقتصادية والتنموية رأس رمح مسببات هذه الثورات، فنسب كبيرة من الشعوب يرزحون تحت خط الفقر في دول المنطقة، هذه الشعوب تعاني بمجملها من مستويات المعيشة المتدنية، بالإضافة إلى معايشت دولها لظلال الأزمة المالية العالمية و اكتواءها هي بنار ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى معدلات البطالة التي تواصل الازدياد والصعود. فكل قارئ يستطيع أن يتنبأ بما حدث وسيحدث حينما يعلم أن معدلات البطالة في العالم العربي هي الأعلى على مستوى العالم حسب بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، ناهيك عن ارتفاع معدلات التضخم، و اضطراب معدلات النمو، بالإضافة إلى مستويات التعليم المتدنية التي تفرز جيلًا يحتاج إلى إعادة تأهيل لربطه باحتياجات سوق العمل أو تأهيله للتنافس الخارجي.
هذه الأسباب الاقتصادية لا تقف وحيدة ولكنها تأتي أولًا حسب المشهد العام للغضب، و كل ما تلاها إنما بُني عليها، وإن كان ما تلاها أقيم في المعنى الفلسفي، و لذلك يمكننا أن ندعي أن المعاناة الاقتصادية أيقظت المعاناة السياسية الإنسانية وفجرت مطالبها، فمن مسببات الثورات هذه شق نجد فيه مطالب بالحريات، و توق إلى الديمقراطية، وسأم من إهدار كرامة الإنسان و عشم في التمتع بحقوق إنسان القرن العشرين: إنسان الحضارة التي تمجد الإنسان وتجعل لصوته قيمة و وزنًا، خاصة وأن هذا الإنسان لم يعد بعيدًا عن شعوب المنطقة، ولم تعد الشعوب بحاجة إلى الهجرة إلى دول الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لرؤية هذا الإنسان ومجده و قيمة الممارسات الديمقراطية في مجتمعه الحر، بل أصبح بإمكانها معرفته ومصادقته بضغطة زر، بفضل وسائط الاتصالات الحديثة، فيمكنه أيضًا متابعة احتاجاجاته وأفراحه بشكل يومي، والتفاعل معه والتأثر به والتأثير فيه.
تراكم هذه الإشارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى شكوك الفساد و انكشاف المستور عن الشعوب (تسربه بصورة غير رسمية دون دفوعات مقنعة من قبل الأنظمة)، واستمرار تعاطي الأنظمة القديمة مع الشباب والأجيال الجديدة بنفس الأسلوب الذي كانت تتعاطى فيه مع السابقين، فجّر الغضب، و فتح أفقًا له.
فخرجت الجماهير، لا تحركها الشعارات والأيدلوجيات كما كانت تفعل قديمًا، و لا توجهها الأفكار المستوردة، بل يحركها جوع البطن، و قلة الحيلة، واليأس ، والشكوى، والجأر، والغيرة ، هي ليست ثورات لتلد زعيمًا إسلاميًا أو لتتوجه، ولا لتستلهم أفكار اليسار وتعظمه، و لا لترفع أحزابًا وتسقط أخرى، فهي ليست ثورات بناء بقدرما هي ثورات غضب، ثورات عاطفية عارمة تضم الشعب كله، ثاروا لما ذكرناه من أسباب و لأسباب غيرها في مقدمتها أنهم ظلوا يصرخون على مدى سنوات على موجة بينما تستمع الأنظمة إلى موجة أخرى، ظلو يكتبون شكاويهم منذ سنوات على صفحة بينا تقرأ الأنظمة صفحة أخرى، لذلك الآن أدركت الحكومات و الأنظمة أنهم "فهموا" شعوبهم "غلط" و أنهم يحتاجون للتغير ليواكبوا شعوبهم .
خرجت هذه الثورات بلا رؤوس ولا تخطيط وبلا خط ثوري ولا مبادئ ثورية، ولا شعارات لها سوى "لا لـ"، و لا تضمن أي حل ولا حتى تطرحه، ولكن لم يكن بيدها أن لا تخرج ولم يكن بيدها أن لا تثور، فقد أيست من التغيير ويئست من خطى الإصلاح البطيئة، والتفاعل السقيم مع مطالبها، و الصمم المفتعل الذي تواجه به كل كلماتها، هذه الثورة التي تكلف (النظام والشعب) مليارات الدولارات، أصبحت منطقية في عيون اليائسين الذين لا ينالهم من هذه المليارات شئ، هم لا يعرفون ما تحمله ثورتهم من دمار للاقتصاد وللسياحة ، وبالرغم من ذلك لا يلامون فمالهم حيلة!.
حينما كنا نقول لا للثورة و نعم للتغيير، لم نكن نكره الغضب الثوري الشريف، و لم نكن نجنح للرضوخ للطغيان، ولم نكن نغاير الواقع ونجمل فلسفة الاستسلام، ولم نكن نغاضب ما انتظم الشعوب من هبات عفوية، بل كنا نعلن بأن الثورة بقدرما تُدمر الظالم فإنها تدمر معه قطاعات كبيرة في المجتمع، وتودي بقيم كثيرة ومعالم كبيرة، وبأنها مهما كان نبلها فإنها غير مضمونة العواقب، وأن تغييرها ليس إيجابيًا بالضرورة، فإن الثورات الغاضبة التي لا تأتي في حلقة من حلقات "التغيير" المدروس، تنجح في إزاحة الأنظمة والقادة والزعماء ولكنها لا تنجح في إفراز خط ثوري يحافظ على مكتسباتها.
إن الإصلاح العاجل الآن أصبح مطلبًا حقيقيًا يجب أن يقلبه الزعماء على طاولاتهم، وأن التغيير ينبغي أن يكون عاجلًا وسريعًا، والإصلاح السياسي يجب أن يمنح أولوية، بحيث يُعاد إشراك المواطن في صنع الحل والقرار، فإن خروج شعب "الدولة الفلانية" لا يعنى أن مسؤول الاقتصاد فاشل، فإحدى الدول التي ثار شعبها حققت معدلات نمو جيدة، فمعنى الخروج ليس بالضرورة فشل الاقتصاد ولكنه قد يعني أن المواطن لا يدري ماذا يحدث، لأنه مبعد من العملية السياسية ومن صناعة القرار. فيجب إحياء معاني المواطنة والإيمان بقيم مشاركة العمل من أجل الإصلاح، ويجب تجديد العقد الاجتماعي.
أدخلوا شعوبكم لمراكز صنع القرار، أشركوهم في رؤية التحديات، امنحوهم الفرصة ليقترحوا، وينتقدوا، علموهم ، أطعموهم، أحترموا كرامتهم، لن يقولوا لا لكم، ولكن حينها سيخرجون مثل شعوب الدنيا، ليقولوا، لا للفقر، لا للسياسات الجمركية، لكذا، تأكدوا من أنكم تقرأون الصفحة التي يكتبونها هم لا التي تتخيلونها. و أنكم تسمعون الموجة التي يتحدثون عليها لا صدى ما تقولون، فما أنتم لو صحت النوايا إلا بعض منهم!.
من يخاف على نفسه أو اقتصاده أو شعبه من لهب الثورة، عليه أن يعلم بأن درهم "إصلاح وتغيير" يقي" من شر الثورة، وأن الحوار الصادق، والتواضع الحقيقي والنزول إلى الشارع بنية محبة، لن يُقابل إلا بالحب والتقدير.
صحيفة الصحافة: الجمعة 4-2-2022