تعقيبا على السيد ثروت قاسم (1-2) … بقلم: رباح الصادق
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أكتوبرية ولا إبريلية.. ينايرية مية المية!
داخلنا السيد ثروت قاسم في آرائه بشأن الثورة السودانية الحالية أو المقبلة (ثورة النيم) بتعبيره في نقطتين الأولى أن قلة الإنترنتيين في السودان حقيقة ولكنها لا تعني استحالة الثورة، والثانية رفضنا تحليله أن المرأة في تونس نالت حقوقها المطلوبة. وعقب السيد قاسم على ما قلنا بإيضاح نحمده عليه وإن لم يذكر اسمنا، وسوف نداخله عرفانا بقلمه المجد وآرائه النيرة. ولا تسطع الآراء ولا تنجلي إلا تحت ضوء النقاش وفوق نيران النقد. في المقال الأول نرصد مفاكرته لرؤانا ونركز على ما جاء حول طبيعة ثورة الشعب السوداني المرتقبة ومآلها. وفي الثانية نخوض حول المسألة النسوية.
قبل أن نناقش السيد ثروت في أمر نخالفه فيه نحب تأكيد أننا نعتبر قلمه نورا في ظلمات الفكر والكتابة في سمائنا الوطنية. وقلنا له من قبل إننا نراه حقا (ثروة) قومية وأفضل كاتب سوداني. وقد طربنا واتفقنا تماما مع معقبة على مقاله الذي نخالفه في بعضه بعنوان (متي يفجر الصاعق القنبلة التي بدأت في التتكان؟) إذ عقبت عليه سارة عيسى عبد الله قائلة: "لقد أصبحت يا أستاذ علامة مميزة لصحيفة الراكوبة التي تتفرد بنشر مقالاتك وتتبعها المواقع الأخرى فيما بعد" وأردفت: "وأنا اتصفح الراكوبة لكي أقرأ مقالك فقط، الذي يحتوي علي معلومات ليست متوفرة لمعظم القراء. كما أن تحليلك الموضوعي في لغة سهلة ممتنعة يزيد من قيمة مقالاتك . ولاحظت أنك تختلف من غيرك من الكتاب بأنك محيط بالأحداث العالمية وانعكاساتها علي الواقع السوداني. وأنك لا تلجأ الي الإنشاء ومكرور الكلام كغيرك من الكتاب. أرى أنه ظلم لك كبير أن نقارنك ببقية الكتاب فأنت في منزلة لوحدك. وتتفوق حتى على الكتاب الدوليين" وقالت له في النهاية: "أشكرك جزيل الشكر على توسيع مداركنا وفهمنا للأمور مجانا لا قرش ولا تعريفة. كما أشكر جريدة الراكوبة وأتمنى لها مزيدا من التقدم فهي البريمو الآن". هذه الكلمات تعبر بشدة عنا وإن لم نكتبها .ولنعد لأمرنا.
نشر مقال السيد ثروت المعني في صحيفة الراكوبة بتاريخ السبت 5 فبراير 2011م. وفي مقالنا بعنوان (هبة الشباب في يناير-1) المنشور في صحيفة الأحداث بالجمعة 4 فبراير، علقنا على مقالة له حول ثورة النيم في 30 يناير. قال السيد ثروت إن السودان يختلف عن تونس في شيئين: قلة نسبة المتعاملين بالإنترنت بدرجة فظيعة، وتحرر النساء في تونس مقابل اضطهادهن في السودان.
وقلنا بدورنا إن قلة المتعاملين بالإنترنت ليست حاسمة في استحالة الثورة فقد قدنا ثورتين من قبل لم يكن فيها الإنترنت قد دخل السودان (ولا العالم)، وقلنا إننا نرى النساء في تونس كذلك مضطهدات وسقنا على ذلك مثلا بفرض زي معين ومنع الخمار. وقلنا: "منذ زمان بعيد ونحن نعد الأنظمة السعودية والإيرانية والطالبانية والسودانية والتي تفرض الحجاب من جهة، والأنظمة التونسية والتركية والمصرية والتي تفرض أو تحبذ السفور من جهة، وجهان لعملة واحدة هي اضطهاد النساء وفرض رؤى السلطة الذكورية عليهن!".
وقبل أن نسوق آراء السيد ثروت نحب التأكيد على مسألة المصطلحات هذه فقد كثر الحديث عن زي المراة الشرعي في الإسلام وساد عليه مصطلح الحجاب. ومفهوم الحجاب هو الإخفاء الكامل للمراة وهو وارد في الكتاب والسنة بشأن نساء النبي (ص) ضمن أحكام كثيرة خاصة بهن فقد أحل للنبي (ص) أكثر من أربع زوجات، وحكم على نسائه ألا يتزوجن بعده، وأن من تأتي بفاحشة يضاعف لها العذاب كما فرض عليهن الحجاب. والحكمة الأساسية في ذلك أن لهن وضعا خاصا وحساسا بصفتهن نساء الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وقد صرح بذلك في القرآن (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء). أما الحجاب الكامل للمرأة فلم يمارس لعامة نساء المسلمين في صدر الإسلام، وهو عادة فارسية الأصل حسب بعض البحوث الحضارية، تم انتقالها للدولة الإسلامية في عصور متأخرة ثم عممت واتخذت قدسية الدين في بعض المجتمعات الإسلامية. والناظر لمصطلح الحجاب الآن يراه يطلق على كل زي تلبسه المرأة المسلمة استجابة لتعاليم دينها وقد اختلفت الاجتهادات في ذلك بين المشارقة (الذين يغلبون تغطية الوجه) وبين المغاربة (الذين يغلبون سفوره)، وهو استعمال خاطئ للكلمة.
نلخص أهم رأيين للسيد ثروت ردا علينا (بصفتنا بعض قرائه الكرام) بالتالي:
الرأي الأول: أن الدولة التونسية (والتركية) تستهدي بالنهج الذي يقوم على معرفة الواجب والواقع والتزاوج الصحي بينهما، وقد منعت السلطات التونسية ارتداء النساء للحجاب لأنه رمز نمطي ديني غير مسموح به في دولة مدنية، كذلك هو رمز لقهر المرأة وغير مسموح به في دولة مبنية علي المواطنة والمساواة.
الرأي الثاني: صحيح قدنا ثورتين بدون إنترنت، ولكن في ثورة أكتوبر تنازل الرئيس عبود عن السلطة بضمانة عدم ملاحقته قضائيا (وهذا لا يمكن في حالة الرئيس البشير الذي سوف تحاكمه محكمة الجنايات الدولية)، وفي ثورة أبريل انحاز الجيش للشعب بينما الجيش الآن (كيزان على السكين).
نبدأ بالرأي الثاني:
كيف تكون الثورة الآن؟
الأجندة الوطنية مطروحة للنظام وفي بطنها معالجة قضية محكمة الجنايات بما يوازن بين العدالة والاستقرار أو العدالة العقابية والعدالة المستقبلية وهذا كلام فيه تفصيل السيد ثروت وكثير من قراء أطروحات الإمام الصادق المهدي على إلمام به فلا داعي للخوض مزيدا. المقترح أن تتم مخاطبة المجتمع الدولي بإجماع سوداني ينقذ السيد البشير من أمر القبض مقابل تخليه عن قبض رقبة السودان! كذلك نحن نعلم أن الجيش السوداني يتسلط فيه (الكيزان) ورؤساؤه وكافة خلاياه أصابها العطب لكننا لا نيأس من سلامة في أرجائه قد تتحرك حينما يتعالى نداء الوطن.
وبغض النظر عن هاتين السابقتين وإمكانيات تكررهما، فلربما جاء الشعب السوداني بسابقة جديدة لا أكتوبرية ولا أبريلية، قال الإمام المهدي عليه السلام إن "علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بضبط القوانين ولا بعلم المتقدمين المتفننين بل يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"، سبحانه وتعالى نحن لا نقيس الشعب عليه، ولكننا نقتبس التعبير لنقول إن إرادة الشعب لا تتقيد بضبط القوانين ولا بعلم المتقدمين ولا السوابق التي وضعها الشعب نفسه وهو قادر على وضع غيرها، ومقالة السيد ثروت نفسها دليل على أنه بالرغم مما قال من فرق بيننا وبين تونس، وفرق بين حالتنا وحالتي أكتوبر وأبريل فإن الثورة ممكنة، وهي لا بد ممكنة بخط جديد لا هو تونسي ولا أكتوبري ولا أبريلي، وكفانا بهذا اتفاقا!
لكن لا زال في نفسنا شيءٌ مما قال: قال للشباب في بدء كلامه واصلوا الثورة: (يجب أن تكون انتفاضة النيم مستدامة! وأن تتواصل وتستمر المسيرات الاحتجاجية السلمية ,بأن يتمدد يوم الاحد 30 يناير 2011 لأسابيع على التوالي حتى يسقط الطاغوت! كما في تونس ومصر)، وقال في آخره (يفعل شباب الانترنيت خيرأ بالانتظار السكوتي حتي صياح الديك يوم السبت 9 يوليو 2011 م) ومنطقه هو أن كلاب اللوبيات الأمريكية سوف تكون في حالة نيام حتى حينها ولن تصحو ما لم يتم استيلاد دولة الجنوب بشكل رسمي. ويبدو أن الأخير هو الرأي المعتمد لديه وإنه ما قال بالأول إلا ليمتحنه ويسقطه، ونحن نتفق مع الرأي الذي يقول بضرورة مراعاة توقيت مناسب، هل هو بعد صياح الديك في يوليو أم متى يعتمد على جاهزية الشباب وعلى خططهم المنظمة بعد أن يعقلوها ثم يتوكلوا! ولا نرى لكلاب اللوبيات دورا حاسما في قيام ثورة الشعب. إن كلاب اللوبي الصهيوني ودولة العدو الصهيوني نبحت نباحا شديدا لأمريكا لدعم النظام المصري ولكن الشعوب لا تأخذ تأشيرة الثورة من أمريكا، وحينما تخرج للشارع لن يكون على المغتاظ إلا أن يموت بغيظه أو يعض أصابع الندم.. الجاهزية للثورة تستند بالأساس على العوامل الداخلية. صحيح أن نظام الإنقاذ قد أعطى العامل الإقليمي والدولي بعدا أضخم في الشأن السوداني، وجعل أفواه العالم صائغة نشيدنا، لكن إذا أراد الشعب السوداني أن يتحرر من هذا الذل فلا بد أن يستجيب القدر!
ونحن نؤمّن كذلك على أن تونس حالها أفضل من السودان في أوجه عديدة، مثلما حالها أسوأ منه في أخرى. والثورة كتعبير عن الغضب كامنة في سوء الحال وليس في تحسنه ولكنها في تنظيمها ونضج الطليعة القائمة بها كامنة في الوعي والتخطيط وهنا نجد أثرين لسوء الحال متضاربين.
تونس أفضل من السودان في مستوى التعليم وفي الإنترنت وفي الوعي بالحقوق والحركة النقابية القوية، وأفضل من ناحية عدم وجود حركات ومليشيات مسلحة خارج القوات النظامية، وهي أسوأ في غياب رؤى وأحزاب سياسية ذات بال خلا الحزب الحاكم وفي عدم السماح لأي هامش تحرك معارض إعلامي أو سياسي، وأسوأ بقوة قبضة السلطة وقوى الأمن.
ولو قارنا بين رئيسي تونس والسودان بحسب التقرير الصادر عن مجلة شرق أفريقيا في عددها ديسمبر2010- يناير 2011م والذي قامت فيه بترتيب 52 من الرؤساء الأفارقة من الجيد للسيء للقبيح، فإن كل من الرئيسين التونسي والمصري يقعان في خانة السيء والرئيس البشير في خانة القبيح. ترتيب الرئيس زين العابدين بن علي الثالث والعشرين (بدرجة 49%)، وترتيب الرئيس حسني مبارك الثلاثين (بدرجة 40%) بينما الرئيس عمر البشير قبل الأخير أي ترتيبه الواحد والخمسين ودرجاته 16% تقريبا. وذلك استنادا على مؤشرات ست هي: مؤشر مجموعة الإعلاميين بالبلد (Nation Media Group)مؤشر مو إبراهيم للحكم الراشد، مؤشر الديمقراطية، مؤشر حرية الإعلام، مؤشر الفساد، ومؤشر التنمية البشرية.
قد يعني ما سقناه أن درجة الوعي وسط عامة الشعب في تونس أعلى منها في مصر وأعلى منها في السودان. وقد يعني ذلك الحاجة الأكبر للتغيير ولكن صعوبة التغيير في السودان عنه في مصر عنه في تونس. ولكن المسألة فيها تشابكات أخرى قد تغالط هذه الاستنتاجات، فالثورة في السودان متخيلة أكثر من مصر وفي السودان يتعامل الناس مع نظام الإنقاذ منذ قيامه على أنه زائل لا محالة ولا زال هذا الشعور طاغيا بعد مرور أكثر من عقدين، وعلى العكس في مصر يتم التعامل مع الحاكم على أنه قاعد لا محالة.. وهي أمور مختلطة ومتشابكة لا حتميات فيها ولا قول فصل.
ولكننا نستطيع أن نقول من كل هذا وذاك إن السيد ثروت ما غالطنا حقيقة وإن بدا كلامه كأنه يفعل ذلك، لأنه إذ نادى باستمرار ثورة الشباب، ونبهها للفروقات بين الحالة السودانية والتونسية، ونبه للفروقات بين الحالة الحاضرة وبين أكتوبر وأبريل، إنما في حقيقة الأمر ينادي بلب ما قلناه وهو أن ثورة الشعب هذه لو قدر لها التفجر واستيلاد الحرية فإنها سوف تستند على تجاربنا السابقة وسوف تستنير بالأسوة العربية الراهنة، ولكنها سوف تكون لا تونسية ولا مصرية ولا أكتوبرية ولا رجبية بل ينايرية.. مية المية!
نواصل بإذن الله
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]