بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
البطالة والمعاناة والغبن وانسداد الأفق أمام الشباب وصلت الآن منتهاها فتفجر غضب الشباب ملاحم ثورية عملاقة سوف تظل تلهم الضمير الإنساني لحقب من الزمان قادمة. تظل هذه الثورة الشبابية دروسا وعبرا خالدة تبشر وتؤكد على مر الأزمان بأن الإنسان كما خلقه خالق الخلق هو من قبس الهي في سموه وعلوه وكرامته. حين خلق الله جل وعلا أبانا آدم, نفخ فيه من روحه,قال جل من قائل: "ونفخت فيه من روحي", وأمر الملائكة أن يقعوا له ساجدين, إكراما له وإجلالا لأن فيه قبسا من روحه جل جلاله, فسجدوا له بأمر ربهم إلا إبليس إبى واستكبر فكان من الطاغين. الكرامة الإنسانية أصل أصيل في خلق الإنسان ووجوده على الأرض, ولذلك حرصت الديانات كلها, كما حرصت التشريعات الإنسانية جميعها على صون الكرامة الإنسانية, وحرصت على حرمة دمه وماله وعرضه لأنه مخلوق من روح الله خالق الخلق. في المقابل إهدار الكرامة الإنسانية واستحلال دم الإنسان وماله وعرضه وإذلاله وتمريغ آدميته هي من عمل الشيطان, حيث أن سجد الملائكة أجمعين لأمر ربهم إكراما لآدم( وبنيه من بعدهـ) وإذ أبى إبليس أن يكون من الساجدين تشير إلى أن من لا يحترم حرمة الإنسان وكرامته هو من قبيل إبليس اللعين وهو من الطاغين. فالطغيان والتجبر وإهدار كرامة الإنسان هي بالضرورة صفات شيطانية والعياذ بالله. وسوف ينتقم الله سبحانه وتعالى من الطغاة الجبابرة ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر لأنهم أهانوا قبسه الرباني الذي أودعه في خلقه من بني آدم. أخذ الله الجبابرة الطغاء كالفرعون والنمرود وقوم عاد وثمود, كما أخذ- في التاريخ الحديث- النازي هتلر, وشاوشيكو, وميلوسيفينس, وصدام حسين وزين العابدين بن على, ومحمد حسنى مبارك, ومنفستو, وجعفر النميري, وسوف يأتي وعدهـ على المتجبرين من الطغاة كعمر البشير والقذافي وبقية قبيل الطغاة.
الكرامة أصل الإنسان:
جوهر خلق الإنسان يكمن في كرم روحه التي هي من فيض الهي. قد يحتمل الإنسان الجوع أو الرهق أو المكابدة, لكنه لا يحتمل إهدار كرامته الإنسانية وإذلاله وإخضاعه وكسر شوكته. لكن أنظمة الحكم القائمة عندنا تفعل بمواطنيها بالضبط ما هو محرم فعله, فهي أنظمة حكم كلها استبداد وطغيان وجور وظلم واضطهاد لكرامة شعوبهم. فظلت الشعوب تواقة إلى استعادة طبعها الإنساني على السليقة والفطرة- طبع الحرية والكرامة والانعتاق من جنازير الاستعباد والإخضاع والقهر والكبت التي ظلت نظم الحكم القائمة تكبل بها الشعوب لإخضاعها بالقهر والطغيان, وبالأجهزة الأمنية, والقبضة البوليسية الباطشة. ما درت هذه الأنظمة المستبدة أنها تقف في حزب إبليس, بينما تستجير الشعوب بخالقها الذي هو مالك الملك وقاهر الطغاة المتجبرين. هذه الأنظمة القائمة ما درت أنها تسعى لحتفها بظلفها حين توقد براكين الغضب في صدور الأحرار والحرائر فوارة تنتظر لحظة انفجارها ثأراً لكرامتهم المهدرة, براكين حمم تحرق الطغاة وتدك معاقلهم المحصنة بطوابير الأمن والجواسيس وفرق الموت. يثور الشباب اليوم في كل مكان رداً لإنسانيتهم التي أهدرت وكرامتهم التي امتهنت ومستقبلهم الذي بدد, وسنين شبابهم التي ضاعت تبطلاً وتشردا ًوانكساراً. يثور الشباب اليوم ضد كل تلك القوى التي كبلته من الانطلاق وحرمته من حقوقه في العيش الكريم- تمثل هذه القوى الحكومات الفاسدة والأحزاب المقعدة التي لم تقدم له شيئاً, بل ظلت تلهث وراء بريق المال وشهوة السلطان, ولم تلتفت إلى زفرات الشباب المحروم والأوطان الجريحة بسبب عقوق قادتها الذين أورثوا أوطانهم التخلف والفقر والجهل والتبعية للنظام العالمي والدول الكبرى.
حقيقة طبيعة شباب اليوم:
الحقيقة الغائبة على كل قادة دولنا تقريباً هي أن شباب اليوم يختلف اختلافا نوعياً جوهرياً فارقاً عن جيل آبائهم وأجدادهم في كل شيء تقريباً- في سلوكهم, في نمط حياتهم, في نمط تفكيرهم, في نظرتهم للحياة, في تطلعاتهم, في آرائهم, في شعورهم الإنساني المستقل والعميق بإنسانيتهم المشتركة. هذه الاختلافات الفارقة في جيل الشباب اليوم نمتها وغذتها وسائل الاتصال الإلكتروني والرقمي التي أتاحتها التكنولوجيا المعاصرة. أتاح التواصل بين الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعية مثل الفيسبوك وتوتير, أتاح لهم التعرف على بعضهم البعض "عبر القارات" ما ألغى الحواجز الجغرافية والمكانية, ورفع الكثير من الحواجز والأطر التقليدية. أخذ الشباب يتعرفون على بعضهم البعض ويأتلفون حول المعاني الإنسانية الجامعة. فأصبحت قضايا الحريات والحقوق والكرامة الإنسانية والحد الأدنى من العيش الكريم هي مسلمات وثقافة عامة بين جيل شباب اليوم. (تذكر كيف أن فتاة فرنسية مراهقة هشمت جهاز التلفاز أمامها في حالة هسترية غضباً حين مشاهدتها مقطع جلد الفتاة السودانية على يد زبانية الأمن وهم يقهقهون). هذه الحقيقة هى التى قلبت موازين الحسابات السياسية فى فرنسا وكل دول اوربا وامريكا بأن نفاقهم السياسى الطويل على شعوبهم بأنهم دعاة حرية وديموقراطية, فى الوقت الذى يدعمون فيه أنظمة القهر فى الدول الفقيرة لم تعد تنطلى على جيل شبابهم اليوم. المشاهد المخزية التى يشاهدها الشباب على كل قارات العالم تدفع بالشباب فى اوربا وامريكا الى مطالبة حكوماتهم بالتدخل لوقف هذه الانتهاكات الشنيعة. يعرف الساسة فى تلك الدول أن تجاهل مثل هذه الدعوات سوف يكلفهم فقدان مقاعدهم البرلمانية فى أول انتخابات, كما صرحت تلك الفتاة ومناصريها أن واجب الحكومة الفرنسية أن تسعى بكل مااوتيت لجلب من ارتكبوا تلك الانتهاكات للعدالة الدولية, أو اسقاط الحكومة فى أول انتخابات قادمة. لا مكان لمثل هذه الأفعال في عالم اليوم. لكن واضح أن حكومتنا تعيش جاهلية سحيقة نفصلها عما يدور في واقع الحياة المعاصرة. هناك في الواقع خط فاصل كبير وفارق بين جيل شباب اليوم وبين قادة مجتمعنا الذين لا يزالون يريدون أن تسير الحياة حسب مفاهيمهم التي عفا عليها الزمن. المطلوب الآن أن ينتحي جيل الحرس القديم "............." ويفسح المجال للشباب لكي يعيشوا حياة إنسانية كريمة, أو سوف يقتلعهم الشباب بقوة الثورة التي انتظمت العالم بأسره, ثورة إندياح العلم والتقنية في مساقها التاريخي الطبيعي, وسوف تجرف كل من يقف في طريقها.
الشباب ضد الفراعنة وديناصورات السياسة:
يتطلع الشباب اليوم الي العيش الكريم في حياة هادئة وسعيدة توفر الحد الأدنى من المتعة في واقع الأمر لا يحب الشباب الدخول في معترك السياسة أو دهاليز الحكم فهذا ليس من تطلعاتهم وقد أثبتت الدراسات مؤخراً أن الشباب بصفة عامة في أوروبا وأمريكا يعزفون عن السياسة والانتماء للأحزاب السياسية. لكن يهمهم أن من يدبر شؤون البلاد السياسية والاقتصادية أن يسعى لتوفير العيش الكريم لأبناء الشعب- الحريات, الكرامة- حق العمل والكسب توفير الأمن والطمأنينة.
إن الحكام الذين يريدون أن يحكموا أبد الدهر حتى بعد مماتهم كما فعل الفراعنة بناة الأهرامات, لا يمكنهم فعل ذلك إلا بقدر هائل من الجرم فى حق الشعوب وفرض الوصاية عليها والإضطهاد والاستعباد وكتم الحريات وإطلاق يد زبانية الحاكم من قوى الأمن والعسكر للتنكيل بالشعوب وقهر إرادتهم. وهذه تقف في معارضة مباشرة مع قوة الشباب التوّاق للحرية والعدالة والعيش الكريم. رأينا كيف أن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك كان قد نصب نفسه فرعوناً لمصر الحديثة, وهو الرجل الثمانيني لا يزال يريد أن يتشبث بالسلطة, مستعيناً بجيشه الجرار من قوى الأمن والشرطة والفاسدين والمجرمين لكسر إرادة الشباب, لكن الشباب انتصر على الفرعون ودك حصون زبانيته من الفاسدين وجلادي الشعب المصري العظيم. وكذا فعل الشباب بزين العابدين بن على في تونس, إذ نصب نفسه فرعوناً آخر على تونس حاكماً مطلقاً بأمره, عاثت زبانيته من قوى الأمن فساداً في أرض تونس الخضراء, ففسد الحكم وفسدت البطانة واستشرى الظلم والفساد والطغيان وأكل أموال الناس بالباطل. فثار الشباب ثورته التي لم تمهل الطاغية حتى ليهييء نفسه للرحيل, بل أجبر على الفرار هرباً من غضبة الشباب الثائر. هذا المصير المخزي ينتظر كل الفراعنة الطغاة الذين طغوا وتجبروا وقهروا شعوبهم وأذلوها. سوف ينتصر الشباب لكرامته وكرامة الأوطان, سوف ينهض الشباب لإطاحة الفراعنة الطغاة في الخرطوم, وفي طرابلس, وفي صنعاء وكل من يظن أنه في مأمن من هذه الثورة المباركة التي انتظمت كل المنطقة والعالم أجمع, برعاية الله وحفظه واستجابته لدعوة المظلومين وانتقامه ممن أهدروا كرامة عباده الذين خلقهم ونفخ فيهم من روحه.
قادة الأحزاب السياسية المرجفة:
قادة الأحزاب السياسية الذين ظلوا على مدى العقود الماضية في لهاث مستمر لخطب ود الطغاة والحظوة عندهم, وترويضهم وتخويفهم بشتى الوسائل من قبل الحكام الطغاة هم جزء من المشكلة. لم يقدموا حلولاً للمشاكل الوطنية الكبرى, ولم يطوروا ممارساتهم الحزبية, ولم يلتزموا البناء الديمقراطي في أحزابهم, ولم يقدموا رؤى وبرامج نيرة ساطعة تقنع الشباب وتزرع فيهم الأمل, بل ظلوا أسرى مناهيهم العتيقة وفكرهم العقيم ومماحكاتهم التي لا تقدم بل تؤخر دوماً. ففشلوا فشلاً ذريعاً في مناهضة النظم الاستبدادية وفشلوا في استقطاب الشباب وإقناعهم. وثالثة الأثافي أن قادة الأحزاب بدلاً من أن ينحازوا إلى ثورة الشباب ويدعمونها وينضجونها بالتجربة والتوجيه, سعت القيادات الحزبية العتيقة إلى تخذيل ثورة الشباب, وتثبيط همم الأنفس الحرة الثائرة التواقة إلى الحرية والكرامة. لا يفوت على ذي بال أن التخذيل المتعمد من قيادات الأحزاب السودانية لثورة الشباب السوداني التواق إلى الحرية هو أن قيادات الأحزاب تدرك جيداً أن ثورة الشباب القادمة لا مكان فيها للوصاية والحرس القديم الذي ظل يطل بوجوهه المعتادة على الشعب السوداني مع كل الحكومات والأنظمة المتعاقبة مدنية كانت أو عسكرية. تلك الوجوه التي أدمنت شهوة الحكم كما أدمنت الفشل فيه. حقيقة الأمر أن قيادات الأحزاب في الخرطوم لا تمثل قطاعات الشعب السوداني, بل هي مستفيدة من الأوضاع إذا كانت في الحكومة أو في المعارضة. رأينا كيف أن قادة الأحزاب قد انخرطوا في حوارات ومفاوضات وتفاهمات مع نظام الخرطوم القمعي, في الوقت الذي تهيأت فيه كل الظروف لقيام الثورة بقيادة الشباب لإحداث تغيير جذري في تركيبة الحكم في السودان. وهذا بالضبط ما يرعب النظام ويرعب قادة الاحزاب على حد سواء – فكلاهما يخشى تغييراً جذرياً كاملا في تركيبة الحكم في السودان, حيث أن مثل هذا التغيير الجذري الشامل من شأنه أن يطيح بمصالح النخبة الحاكمة في الخرطوم – النخبة الحاكمة سواء كانت في الحكم أو في المعارضة, ظلت هذه النخبة تتداول دولاب السلطة ومفاتيح الثروة والجاه والسلطان فيما بين أعضائها منذ الاستقلال وحتى اليوم. وما نراه اليوم من حوارات وتفاهمات هو في حقيقته تحالف غير مقدس بين الفراعنة الطغاة المفسدين وبين المرجفين من القيادات الحزبية الذين يجمع بينهم كلهم الخشية من فقدان صولجان الحكم والسلطان حين تدهمهم ثورة الشباب وثورة الجياع الذين سيطالبون حتماً بتغيير جذري كامل بطال كل أطر الحكم وهياكل الاقتصاد ومصادر الثروة.
الخيار بين حكمة العقل ووسواس والشيطان:
تقتضي الحكمة بالنسبة لكل من حكومة الخرطوم المتهالكة وبالنسبة لقادة الأحزاب أن يفيئوا إلى الحق ويسمعوا إلى صوت العقل. فهذه الثورة التي انتظمت هي ثورة كونية تأتي في إطارها التاريخي الطبيعي, وهي إندياح طبيعي في تقدم البشرية, ولا سبيل إلى إيقافها أو الوقوف ضدها فالواقف ضدها خاسر والمتفرج عليها خاسر, بل يحتم علينا الواجب والضمير والأخلاق والعقل والمنطق أن نبارك هذه الثورة وندعمها وندعو للشباب بالخير والتوفيق. هذه ثورة فيها خير كثير, وهي من لدنُ عزيز قدير, يسيرها ويرعاها. أما إذا رفض القوم إلا سماع وسواس الشيطان وما يزينه لهم من سوء أعمالهم فقد خسروا خسرانا مبيناً. ولكأني أسمع وقع حوافر خيل الثوار تدكـ حصون الطغاة الجبابرة ومن شايعهمـ من المرجفيـن.
إلى الأمام ياشباب وطني, رصوا صفوفكم يوم 21 فبراير كالبنيان المرصوص. يرعاكم الله ويكلأكم بعنايته وحفظه وتوفيقه حتى النصر.
د. أحمد حموده حامد
الأحد 20 فبراير 2011 الموافق 17 ربيع الأول 1432ه
ahmed hamid [fadl8alla@yahoo.com]