ذكريات الهروب العظيم والغربة المفتوحة
(الحلقة 3)
gibriel47@hotmail.com
توطئة
الغربة ثقيلة على النفس إلا إذا كانت لفترة معلومة الأمد محفوفة بوعود وثمار قريب موعد قطفها. والغربة شرعا هي النفي من الأرض، ولكن في حالة معظم السودانيين كانت طوعا واختيارا. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. ورغم كل شيء، فهي خطى كتبت علينا (ومن كتبت عليه خطى مشاها).
لقد اضطررنا للخروج من السودان تحت وطأة الضوائق المعيشية وسعيا لتحسين الأوضاع الحياتية التي تسبب في ترديها ساسة فاشلون وعسكر أغبياء وأساتذة جامعات حمقى ومرتزقة وضعاف نفوس شاركوا في كل الحكومات – الديمقراطية والعسكرية - يجيدون مسح جوخ العسكر وتقبيل أيدي السادة ويعتقدون بأنهم يستطيعون سياسة الناس كما يجيدون تحضير رسالاتهم العلمية.
وكانت المحصلة النهائية أن هذا الثلاثي البائس لم يحسن تدبير أمور البلاد وتصريف أمور العباد ولم يستطع خلال أكثر من نصف قرن من الزمان توفير العيش الكريم لأقل من أربعين (40) مليون نسمة في بلد تكفي موارده لأكثر من مائتي (200) مليون نسمه.
ولم نكن ندري أن الغربة ستتحول إلى ثقب أسود كبير يبتلع كل أعمارنا ويأخذنا إلى ما لا نهاية فتصبح غربتنا غربة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات.
لقد خرجنا كغيرنا من السودانيين الذين ركبوا أمواج الغربة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي والذين ليست لديهم تجارب كبيرة في الغربة قبل ذلك، أو ربما كانوا هم الرواد من أسر لم تعرف ولم تألف الغربة قط.
ومنذ ذلك الحين توالت موجات الغربة واشتد زخمها وتكسرت على شواطئ ومرافئ كل بقاع المعمورة. وكنا كالهشيم الذي يحمله السيل الجارف لا يدري أين يلقى به!!! أو كالقصب في مهب الرياح العاتية المزمجرة التي تقصف بعضه وتترك بعضه (وما تدري نفس بأي أرض تموت).
وخلال هذه المسيرة الطويلة (التي تمطت بصلبها وأردفت أعجازا وناءت بكلكل)، ذاق السودانيون الذين يمموا دول الشرق الأوسط خاصة صنوفا من المعاناة لم يكونوا يتصورونها، وتعرضوا لاستهجان وازدراء من شعوب أقل منهم حضارة، وصبروا على آلام وتجارب كالحنظل وتبينوا لاحقا أنهم كانوا في سابق أيامهم يعيشون في رغد من العيش الكريم ومحفوظة كرامتهم في وطنهم الكبير ،قبل أن تجتزئه الذئاب وتمزقه أشلاء.
وفي هذه المحاولة أردت أن ألقي الضوء على تجربة غربة بدأت بالهروب العظيم من السودان في أواخر حكومة مايو وامتدت لأكثر من ثلاثين (30) عاما، ولا تزال، ولا أحد يدري أين ستحط هذه الموجه رحالها !!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
استميحكم العذر مقدما إن وجدتم في هذه التجربة ما يعكر صفوكم، وهو أمر لم أقصده. وأسألكم التكرم بالنصح أو بحسب ما ترونه من أفكار وآراء نيرة إن راقت لكم التجربة، فهي تجربة وددت توثيقها ليس إلا. وأنا بانتظار السماع منكم.
المؤلف
نيجيريا ومهرجان الأفارقة والسود العالمي
شاركت فرقة الفنون الشعبية أيضا ضمن الوفد الثقافي السوداني في مهرجان الأفارقة وكل السود في العالم والذي أقيم في لاغوس العاصمة النيجرية السابقة في أوائل عام 1977م. جمع هذا المهرجان كما هو ظاهر من اسمه كل الأفارقة والسود في العالم.
بدأ هذا المهرجان العنصري وعلى نطاق ضيق الشاعر ليوبولد سيدار سنغور 1928-2001، رئيس السنغال السابق 1960-1980 الذي ترأس لاحقا عقب تخليه عن السلطة السياسية أعلى هيئة فكرية بفرنسا هي الأكاديمية الفرنسية وربما كان المهرجان الأسود هذا تتويجا عمليا لاحتفال سيدار سنغور بنظرية الزنوجة (Negrititude)التي أسسها عام 1936 مع رفيقه الشاعر المارتنيكي أيمي سيزار أبان دراستهما بباريس والتي في جوهرها الإحتفال بالتراث الزنجي وعكسه جماليا.
ولكن المهرجان في نيجريا كان تحفة وآية في الروعة والجمال وعلى نطاق واسع جدا. فقد جاءت كل وفود القارة الأفريقية السوداء وآلاف السود من الولايات المتحدة ودول الكاريبي وأمريكا الجنوبية ومن شتى أنحاء العالم.
لقد كانت فرحة الزنوج الأمريكان لا توصف وهم ينزلون من الطائرات والبواخر الضخمة ويملأون الدنيا هتافا وصياحا ورقصا وهم في حالة هستيريا عارمة وينشدون الأيقونة المسيحية (هللويا. هللويا. هللويا). وهي كلمة عربية تعني (هللوا يا. هللوا يا. هللوا يا). والبعض الآخر أخذته نشوة الوصول إلى أرض الأجداد أفريقيا السمراء فكانوا يرددون غير مصدقين قائلين( لقد نجحنا. لقد عدنا إلى موطننا) (We made it. We made it. We are back home. We are back home)
فكلمة نيجيريا(Nigeria) ، والنيجر(Niger) ، ونهر النيجر(River Niger)، مترادفات لها صلة قوية جدا بكلمة نقر (Niger) التي تعني الزنجي أو العبد الأسود في قاموس الأمريكان الأفارقة. وتعتبر إساءة بالغة وسط سود أمريكا.
ويبدو أن العبيد الأفارقة عندما تم إحضارهم أول مرة إلى الدنيا الجديدة (أمريكا) لم تكن وسيلة الاتصال سهلة بينهم وبين السيد الأبيض. فأعتقد السيد الأبيض بأن كلمة نقر (Niger) تعني العبد الأسود وهو يراه ينطقها باعتزاز. ومن وقتها أخذت هذه الكلمة التي لا يحبذ نطقها الأمريكان البيض والسود على حد سواء ويرمزون إليها بالحرف الأول منها فقط أي (النون) أو بالإنجليزية (The "N" Word) تعني العبد الأسود وكل ظلال المأساة الإنسانية في تسخير الإنسان لأخيه الإنسان.
لقد كانت الزنوجة/الزنجية في الإمبراطورية الرومانية القديمة وغيرها من الإمبراطوريات التي سادت في أنحاء الأرض، ولا تزال، ترمز إلى الجنس الأسود. ولا تزال كلمة (مونتي نيقرو) في يوغسلافيا السابقة ترمز إلى الجبل الأسود.
اعترضت اللجنة المنظمة لهذا المهرجان على مشاركة دول شمال أفريقيا العربية والتي عُدَت غير سوداء برغم أن اسم المهرجان يشملها. فهي من الدول الأفريقية بحكم وجودها في القارة السمراء. وفي آخر الأمر أتيحت لهذه الدول فرصة المشاركة في المهرجان ، فشاركت مشاركة فاعلة رغم نشاز بشرتها وسط البحر المتلاطم من السود.
بنت الحكومة النيجيرية مدينة كاملة خاصة بالوفود السوداء وزودتها بكل المتطلبات الضرورية. وقامت على أطعام هذه الوفود الغفيرة طوال شهر كامل في قاعات للطعام أشبه بالملاعب المقفولة. وهو أمر لم يتسن لأي من الدول التي حضرت المهرجان أن تكرر هذا المهرجان العظيم.
كان وفد السنغال، الذي يسكن بجوارنا، من الوفود الراقية في كل شيء: أداء وسلوكا وانضباطا. وكانت هناك دول أفريقية تألقت في المهرجان رقصا وإبداعا وفنونا تشكيلية وثقافة وندوات وسينمات وأفلاما الخ. ولكن على نقيض تلك الدول كانت هناك دول اعتمدت الرقص في الليل البهيم شبة عارية بعد المشاركة في المهرجان نهارا.
كان الهدف من هذا المهرجان إظهار أن للسود يدا في رفد الحضارة الإنسانية لا تقل عن عطاء يد البيض. فكان التنافس في كل الفنون والعلوم والفعاليات ومناحي الحياة المختلفة. كان إستاد أبي بكر تفاوا بيليوا أحد أكبر ملاعب كرة القدم التي قدمت فيها العروض السوداء.
كانت ضربة البداية في إستاد أبي بكر تفاوا بيليوا الضخم حيث استعرض الرئيس النيجيري آنذاك الجنرال أولسيغون أوباسانجو الوفود المشاركة. كان الجنرال أوباسانجو مهذبا جدا. فقد وضع صورة الرئيس النيجيري الراحل مرتضى الله – الذي خلفه - بجوار صورته في كل الدواوين الحكومية وفاء وإجلالا لقدر الرئيس الراحل الذي كانت نيجيريا تكن له احتراما خاصا.
ورغم اتساع ملعب أبي بكر تفاوا بيليوا إلا أن الحشود السوداء كانت تتدافع بقوة لدرجة سقوط ووفاة الكثيرين من تلك المدرجات الشاهقة. وكان الرئيس النيجيري الجنرال أوباسانجو يناشد الجماهير عبر مكبرات الصوت بالهدوء وعدم التدافع قائلا: (أوقفوا إلقاء الناس) (Stop throwing human beings)
كانت نيجيريا أول بلد نفطي أحظى بزيارته. فكانت الشوارع واسعة للغاية ومعظم السيارات التي تنطلق بسرعة جنونية في الشوارع والطرقات جديدة. وكان بنيجيريا آنذاك أكثر من اثنتي عشرة جامعة عالمية. وكانت العمارات الرائعة تطل على المدينة من علو شاهق. ومع كل تلك المظاهر الحضارية إلا أن (لاغوس) كانت مدينة لم تنل حظها من النظافة مقارنة بالرياض " المدينة النظيفة". ويبدو أن ذلك أحد الأسباب التي دفعت الحكومة النيجيرية لاتخاذ (أبوجا) عاصمة لها.
كان الوفد السوداني من أصغر الوفود التي شاركت حيث كان عددنا بضعا وخمسين شخصا. ورغم ذلك قطعت حكومتنا السودانية، حكومة مايو، مشاركتنا في هذا المهرجان المدهش الذي كان مقرر له شهرا كاملا، بحجة عدم قدرتها على دفع المصاريف النثرية للوفد برغم قيام الحكومة النيجيرية بإيوائنا وإطعامنا وتقديم عدد من سيارات الفولفو الجديدة مع سائقيها والحافلات الصغيرة لخدمتنا. لقد كان الصرف النيجيري صرفا بذخيا وكرما فياضا أذهل الوفود السوداء.
كانت خطة الحكومة النيجيرية تقضي بنقل هذه الحشود إلى مدن كانو وكادونا وكاتسينا في شمال نيجيريا. ولكن قطعنا البرنامج وعدنا إلى سودان ثورة مايو بعدما أدى الوفد أداء رائعا نال إعجاب الوفود الأخرى.
تضمن الوفد الوزير، آنذاك، الأستاذ إسماعيل الحاج موسى، ووكيل الوزارة الأستاذ كابوس، ونخبة من الفنانين التشكيليين على رأسهم الفنان التشكيلي الكبير الأستاذ شبرين، و الفنان التشكيلي الأستاذ تاج السر، و الفنان التشكيلي الأستاذ صالح الزاكي، والفنانة التشكيلية الرائعة سعدية الصلحي المشرفة على أزياء فرقة الفنون الشعبية، والموسيقار المبدع المرحوم برعي محمد دفع الله 1929-1999 صاحب المقطوعات الموسيقية الشهيرة الذي دخلت ألحانه وجدان كل سوداني عبر حنجرة عبد العزيز محمد داوود، والأستاذ المهذب حسن عبد الوهاب من تلفزيون السودان والشاعر الغنائي المعروف الذي تغنى له وردي بأغنيتي " يا ناسينا، والسمحة ما تخجلي "، والأستاذ مأمون الباقر من وكالة السودان للأنباء وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة من تذكر أسمائهم. هذا بالإضافة إلى أعضاء فرقة الفنون الشعبية.
سهرت تلك الباقة الرائعة من التشكيليين السودانيين الأفذاذ الليل في تجهيز معرض السودان. وعند الصباح ذهبنا برفقة وزير الثقافة والإعلام إسماعيل الحاج موسى ووكيل الوزارة عمنا كابوس لنقف على تجهيزات المعرض.
عند دخولنا صالة المعرض أسرع عمنا كابوس، وكيل الوزارة، بحماس وعفوية تامة فأخذ صورة الرئيس جعفر نميري وأراد أن يضعها في موضع رآه مناسبا. أثارت هذه الحركة بركان غضب الفنان التشكيلي الرائع تاج السر الذي كنا نطلق عليه اختصارا لفظة تي. أس. تشبها باختصار الشاعر الإنجليزية تي.أس . إليوت (T.S. Eliot) ، فأسمعنا من المفردات التشكيلية الجميلة ما ألزمنا حدودنا وجعل كل منا يتحسس موضع قدمه ويده وبصره!!!
كان من ضمن المسئولين الإداريين للوفد الصومالي والد زميلي في جامعة الخرطوم في السبعينيات من القرن الماضي المرحوم حسن الصومالي صاحب بيت الشعر المشهور (نوال ونصرة جننوني يا بنات الجامعة أرحموني) الذي توفي في إحدى دول الخليج العربية. كما كان الوفد الصومالي يضم مجموعة رائعة من الفنانات والفنانين الصوماليين من بينهم الفنانة المبدعة المرحومة حليمة الصومالية.
كان تشابه الوفد السوداني والأثيوبي والصومالي مدهشا لدرجة كبيرة ما أربك الصحافة ووسائل الإعلام النيجيرية الأخرى التي لم تستطع التفريق بين هذه الوفود التوأم. فقد أتقنت أختام أفريقيا الثلاثة (الملامح، والشعر، واللون) عملها كما أجادت الأختام الثلاثة للفرع الآخر (عرب، مماليك، حلب، بوسنة وهرسك، ترك الخ) عملها أيضا. فخرجنا إلى الوجود بلوحة تشكيلية تحيرت فيها الملامح والشعور والألوان.
فكنا نشاهد صورا للوفد الأثيوبي أو الصومالي في الصحافة النيجيرية مكتوبا عليها الوفد السوداني والعكس صحيح. فقد ميزتنا تلك الخلطة الأفريقية مع الفرع الآخر عن بقية الدول الإفريقية السوداء والبيضاء، و(كنا أجمل الشينين).