بسم الله الرحمن الرحيم
خطب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الجمعة بتاريخ 25 فبراير بالدوحة العاصمة القطرية، وانصبت الخطبة على أحداث ليبيا بجزئيها. وذهب الشيخ بعدها فصلى في ميدان التحرير بالقاهرة بعد حرمان طال من بلاده، فهنيئا له وللشعب المعلم حقا أن انتهت أيام القهر المقيتة. وأُعلن أنه قادم للخرطوم لحضور مؤتمر لنصرة القدس، وقالت مواقع إنه اشترط لقدومه إطلاق سراح الدكتور حسن الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي. وقيل كذلك إنه سوف يصلي بالناس الجمعة في مسجد النور وهو ذات المسجد الذي شهد دموعا رئاسية قبل قدوم القرضاوي بأسبوعين اثنين وكان السبب تفشي الفساد في البلاد.
قدوم القرضاوي للخرطوم ورسالته فيها، وخطبته بالدوحة، والدموع التماسيحية، ومسجد النور الذي لم يشيد على التقوى، كلها أثارت شجونا وحركت كوامن آلامنا وأهاجت البادي منها، ونحب أن نفاكر الشيخ القرضاوي، مفاكرة نرجو أن تقع لديه كما طلبنا موقع مراجعة وتفكر وتدبر فيما هو مقدم عليه في السودان. وكان الشيخ في خطبته بالدوحة استلف عبارة موشي دايان الشهيرة حينما قال واصفا العرب: هؤلاء لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يعملون بموجبه، استلف الشيخ القرضاوي تلك الجملة وجهها لمن هم حول القذافي.. ونحن نعلم علم الشيخ وغزارة اطلاعه وهو من أهم مراجع الفقه المستنير في قضايا كثيرة، ومع أنه من بين أفضل الكاتبين حول السياسة الشرعية، إلا أن مواقفه دائما ما يحكمها التحزب الإخواني وبقدر ما أضافت هذه الحركة – الأخوان المسلمون- إلا أنها خصمت أحيانا على الرصيد الإسلامي ثم إنها لم تحط بالدعوة للإسلام كما يدعي أهلها الذين يخرجون كل من عداهم من باحة الدين القويم، ولذلك فإننا لسنا واثقين من أن الشيخ يقرأ لأمثالنا فله في السودان مصادر معينة يستقي منها معلوماته، ولكن لا ضير، فالأمر عام، ويغري بالتداخل وتنفيس الآلام.
الشيخ القرضاوي من موقعه كرئيس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو اتحاد صنعته حركة "الإخوان المسلمون" العالمية، يعرف في السودان إخوانه القدامى والجدد، ممن أسموا أنفسهم بدون استحقاق بالحركة الإسلامية السودانية، وما كان حظ هذه الحركة من الإسلام حينما حكمت (حركة ولا ثباتا) تماما كسيف الإسلام بن القذافي الذي حظه من الإسلام ليس سيفا ولا عصا كما قال الشيخ في خطبته. وغاية ما يطمع إليه الشيخ القرضاوي هو أن يلم شملهم ليعيش (الإسلاميون) في السودان في تبات ونبات، ويخلفون لنا عبرات وآهات! ونقول للشيخ إن الإسلام في السودان أوسع بكثير من تلك المظلة الخربة التي يحملها في زيارته للسودان ولن تحميه من قيظ شمسه، أو غضب شعبه، وهو الخبير بغضبة الشعوب المؤيد لها مما أثلج صدورنا، ولكن!
الإسلام هو مفتاح الشعب السوداني وأي حركة أو جهة لا ترفع راية الإسلام أو تجاهر بعدائه في السودان فهي محروقة.. محروقة، ولكن الحركة التي سمت نفسها بالحركة الإسلامية هي إبطال لذلك المفتاح لأنها أفلحت في ربط الشعار الديني بالزور والضيم والاستبداد والفساد، وأي حريص على الدعوة الإسلامية في العالم عليه أن يجتهد بيديه ورجليه وبكل ما أوتي من قوة لكي يتبرأ من هذه التجربة ويؤكد أن حظ (الحركة الإسلامية في السودان) من الإسلام هو ذات حظ (سيف الإسلام) من الإسلام! هذا أول المفاكرة.
وثانيها، إن مواقف الشيخ القرضاوي- ومن ورائه الجزيرة التي تبشر برؤاه، وكذلك الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فيها شرخ ظاهر حينما يتعلق الأمر بالسودان، وهو شرخ يعود لأخوة الأخوان القديمة والمتجددة. إن الشيخ القرضاوي كرر كثيرا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الظالمة وإن كانت مسلمة) وأن العلماء سبقوا ابن تيمية في هذا القول. ولكن الشيخ لا يلاحظ أن الدولة في السودان تعلن الإسلام مع الظلم بأشكاله، ولو جئنا نعدد ما تفعله فإن مقالنا يضل طريقه للنيابات، ولكن على الشيخ أن يعود لمواقع سودانية أمثال (حريات- الراكوبة- سودانايل) تتيح حرية التعبير. وفي حين أن السلطة في الخرطوم تفعل ما تفعل بنا وتهددنا بمزيد من القهر والتنكيل وبالشريعة لكأن الشريعة بعبع أو سكين، نجد السلطة في جوبا بجنوب السودان تتحول عن شموليتها باتجاه إشراك منافسيها وحوارهم –تماما كبلقيس التي امتحدها القرآن الكريم وقد قالت ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون- ولكن الشيخ القرضاوي أفتى بأن تصويت الجنوبي المسلم للانفصال حرام شرعا. لم نكن نحب تصويت الجنوبيين للانفصال، ولكن مسلمين كثيرين حسنو الإسلام ومنهم أعضاء في المجلس العالي لمسلمي جنوب السودان وبعضهم أصله شمالي صوتوا للانفصال ربما بفكرة أن جوبا أقرب للعدل من الخرطوم، وإن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة! هل نطمع في أن يراجع الشيخ القرضاوي نظرته للنظام في الخرطوم بناء على عدله وظلمه لأنه هو المحك في الحكم، وليس بناء على إخوانية جذوره أم لا؟
وثالثها هو أن الشيخ القرضاوي سئل في بعض المواقع الإسفيرية عن درجات النهي عن المنكر ومتى يكون بالقوة؟ فدعا لتقويم منكر الحكومة أو السلطة عبر واحدة من ثلاثة أشياء أولها أن تملك القوات المسلحة التي بيديها الأمن، واستشهد بـ(شباب الفنية العسكرية) الذين قاموا بانقلاب بطلاب في مدرسة كقدوة سيئة وبانقلاب الأخوان في السودان كقدوة حسنة، قال: (في السودان، حدث خلخلة وكان لابد أن يقفز على الحكم أناس إذا لم يكن إسلاميين فشيوعيين أو غيرهم، فأخذوا الحكم دون يريقوا قطرة من دم، لا مانع من هذا، هذا أول شيء أن تمتلك القوة). فهذا الكلام يناقض ما يقول به الشيخ من محورية العدل في الإسلام، فالانقلابات العسكرية لا تصنع عدلا ولم تفعل يوما في التاريخ، الشيخ القرضاوي عليه أن يراجع فقه تغيير المنكر، ليؤكد بأن الانقلاب العسكري على الشرعية المدنية غير مباح حتى ولو قام به إسلاميون! إن الاستبداد ملة واحدة بيد مسلم أم مسيحي أم يهودي أم لا ديني كان، والشرعية الدستورية الديمقراطية لا يمكن أن تكون منكرا ليغير. فالعدل وكرامة الإنسان وحرياته هي معاييرالحق وليس المعيار أن يكون الحاكم إخوانيا!
إن خطبة الشيخ القرضاوي يوم الجمعة 25 فبراير كانت مشحونة بالعاطفة محركة للوجدان، فقد خاطب أشواق الشعب الليبي، وطيلة الخطبة التي استعمنا لها مرارا، كنا نقول: ماذا لو فعلنا صنع الأستاذ فتحي الضو الذي جاء ببيان هيئة علماء السودان حول أحداث ليبيا (وحظهم من العلم كحظ سيف الإسلام من الإسلام)، وغيّر فيه اسم ليبيا باسم السودان؟!
قال الشيخ القرضاوي في خطبته إن الأمم كالأفراد تتغير فيبدل الله الضعف قوة والخوف عزة، وإن أمتنا ظلت قرونا صابرة على الذل والاستبداد والجبروت أموالها تسرق ودماؤها تسفك، فعاشت على الوهم ولكن هذه الأوهام بدأت تزول، وتحررت الشعوب من الوهم والخوف، وأقسم إن ثورة ليبيا سوف تنتصر لأن سنن الله واحدة، وطالب الضباط والقيادات حول القذافي ومن يحبونه أن ينصحوه بالرحيل فالشعب لا يريدهم، وقال: إذا لم يفعلوا ذلك فسيحملون النار والعار النار في الآخرة والعار في الدنيا لأن أقوامهم ستلعنهم وستطاردهم هذه المواقف ضد أمتهم وشعبهم وقبائلهم.. وأشار لتهم القذافي لشباب بلاده وإساءتهم للشعب بقبيح الألفاظ، وإنه قتل آلافا، وإنه رجل كذاب ورجل ظالم، وإنه أكل أموال الشعب وأموال البترول. وليس هناك ميزانيات تعرض وتناقش ولا يعرف أين ذهب المال، وإن الخبراء قالوا عنده 131 مليار دولار، وإنه يسلط المرتزقة على قومه ليقتلوا البرآء، أباح لهم أن يدخلوا بيوت النساء يعبثون بالأعراض ويهتكون الحرمات وإن العذارى يصرخن من التلفونات يا كلاب! وقال إنه أفتى بأن القذافي دمه حلال لما ارتكبه من مذابح واتقاء للمزيد إذ قال سأقاتل الى آخر قطرة من دمي! وتساءل: يقاتل من؟ يقاتل الشعب! وقال: من استطاع أن يتقرب إلى الله بقتله فليفعل ودمه في عنقي! إن تلك الفتوى قد شككت في ورع الشيخ. لأن من هو في مقامه العلمي حتى ولو أفتى بحل دم القذافي استنادا على ما يرى من فقه المآلات وغيره فما كان عليه أن يحتمل دمه في عنقه وأن يقول لو كان مصدقا بفتواه: وأجره على الله! إن أبوبكر الصديق (رض) وكل التقاة كانوا يخافون مكر الله، أفيظن الإخوان أن الله عضو في إحدى خلاياهم السرية أو العلنية؟ استغفر الله العظيم وأتوب إليه توبة أمة ظالمة لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا!
هل يعلم الشيخ القرضاوي أن حكومة الخرطوم وهم أحبابه في الإخوانية تعترف بسقوط 10 آلاف قتيل في دارفور والمنظمات العالمية تقول إنهم مائتي ألف؟ وأن نقود البترول في السودان ظلت خارج الميزانية لسنوات رغم المطالبات ولم تدخلها إلا تحت ضغط الشريك اللدود؟ هل يعلم بأن هناك صرخات في مقاطع اليوتيوب ليست بعيدة عن صرخات ليبيا؟ وهل سمع ما يقول الخبراء حول أموال بعض المسئولين في السودان؟ هل سمع دعاية المؤتمر الوطني الانتخابية التي كانت في نهايتها: فليدم للدين مجده أو ترق منا الدماء وأنهم تحدثوا كثيرا عن آخر قطرة دم؟ هل سمع بإساءاتهم لنا أننا شحاذين ولقطاء وأبناء حرام؟ هل سمع تهديدهم لنا أن الراجل فليخرج للشارع؟ هل سوف ينصحهم الشيخ القرضاوي بأن يرحلوا أم سوف يحتمل لدى الله النار لأنه وقف إلى جانب الظلم بفعل الارتباط الحزبي ونسي أن الله ليس إله الإخوان وحدهم وأن الرسول ليس أخا مسلما، ويحمل كذلك بين السودانيين العار؟
في الخطبة الثانية تبدت ملامح عنصرية كانت أطلت برأسها في الخطبة الأولى حينما اتهم الشيخ القرضاوي المرتزقة بأنهم من أفريقيا وطالما أن ليبيا من أفريقيا وكذلك مصر (ما عدا شبه جزيرة سيناء) فإن الشيخ كان يعني بأفريقيا الزنوجة. بيد أن الارتزاق ليس له لون جلدة وأضخم المرتزقة والسماسرة في عالم اليوم ليسوا سودا. وبالرغم من أنه ذكر أن هؤلاء الأفارقة (يعني الزنوج) يهتكون الأعراض إلا أنه طلب في الخطبة الثانية من الليبيين أن يعطوهم الأمان فعدوهم الحقيقي هو الرجل الذي جندهم وليسوا هم. وقال إن "كثير منهم مسلمون من دارفور ومن موريتانيا" وقد تضافرت تصريحاته تلك مع التصريحات اللامسئولة للخارجية السودانية بأن حملة السلاح من دارفور يقفون إلى جانب القذافي فجعلت أهل دارفور وكل السودانيين يرتعدون فرقا في ليبيا وقد قتل منهم العشرات! لم يكن لائقا من الشيخ القرضاوي الدخول في ذلك المطب العنصري وهو الداعية الإسلامي والإسلام ضد العنصرية ورسوله نصب بلالا مؤذنا يرتاح لصوته برغم عجمته التي كانت تضايق ذوي الاستعلاء العروبي، وقدم السودان الكثير للإسلام وهم مبشرون بالمزيد. ولا زلنا في السودان نفتخر بأفريقيتنا من غلبت زنوجته فينا ومن قلت، ونؤمن أن التفاضل بين الناس بالتقوى وفي مضاربنا أرست بإذن الله أوتادها!
وختم الشيخ خطبته بدعاء نرجو أن يضعه الناس حلقة في أذنهم ويقتنون به في صلواتهم الجهرية منها والسرية: اللهم يا من أهلكت ثمودا الطاغية ويا من أهلكت عادا بريح صرصر عاتية خذ هذا الظلوم الطاغية اللهم خذه أخذة رابية كما اخذت فرعون وقومه وكما اخذت الظالمين من قبل يا رب العالمين. اللهم انزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين اللهم انا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم اللهم يا مجري السحاب ويا منزل الكتاب ويا سريع الحساب ويا هازم الأحزاب أهزم هؤلاء الطغاة ومن يعاونهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم اهزمهم وزلزلهم اللهم زلزل أقدامهم. اللهم انا نشكو اليك يا رب العالمين نشكو إليك هؤلاء الحكام الذين ظلموا عبادك والذين اكلوا أموالهم بغير حق والذين سفكوا دماءهم، نشكو اليك دماء سفكت واعراض هتكت وحرمات انتهكت واطفالا تيتمت ونساء تأيمت وامهات ثكلت نشكو إليك يا رب العالمين فاغضب لعبادك المؤمنين واثأر لعبادك المستضعفين وخذ حقهم من هؤلاء الظالمين يا رب العالمين.
وأتم بالدعاء المأثور: ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.. ونهدي بمناسبته للشيخ القرضاوي نكتة كان أهداها السيد عمر البشير للشعب السوداني إبان حملته الانتخابية الماضية، ففي لقاء تلفزيوني معه بقناة النيل الأزرق كان على سبيل الدعاية الانتخابية، روى بلسانه أن أحدهم جاء لإمام مسجد وقال له إن هؤلاء (الحاكمين) قد ضيقوا علينا فادع عليهم، فدعا الإمام بهذا الدعاء، فقال الرجل: لكنه قد سلطهم علينا وانتهى، فادعوه ليخفف عنا! ثم ضحك على تلك النكتة السيد البشير، ولا أظن قد ضحك معه من السودانيين خلق كثير! وكنا تحدثنا من قبل حول ثقافة الضحك المربك في غير مكانه، وكان الأجدى بالسيد البشير حينما سمع تلك النكتة أن يبكي، ولنا لبكائه المشار إليه آنفا عودة بإذن الله!
وأخيرا، قال الشيخ القرضاوي إن القذافي يصدر فتاوى شاذة ويجعل الليبيين يصومون رمضان وحدهم ويفطرون وحدهم، وقال إن من شذ شذ في النار. وإن الإسلام لا يحب الشذوذ. ويد الله مع الجماعة، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف فصلاته باطلة لدى البعض إذا كانت عنده فرصة أن يدخل في الصف.. فهل نعتبر أن هذه إشارة من القرضاوي لنا أن نسلك كسودانيين في سلك الثورة العربية المباركة، فلا نقف بمعزل عنها؟ أم أن الشيخ القرضاوي لإخوانية تعلو على الحق عنده يود لنا الشذوذ؟ وأن نسير خلف طواغيت المؤتمر اللا وطني بلا هدى ولا كتاب منير؟ وهل نحن في فقه الشيخ القرضاوي لا تسري علينا سنن الله في أرضه التي سرت على تونس ومصر وليبيا؟ أم أن سنن الله برأي الشيخ الجليل لا تطبق على الظلمة إذا كان أصلهم إخواني؟
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]