غرابة الأطوار بين القذافي وأبي نواس … بقلم: د. محمد وقيع الله
2-2
في اعتقاد العقاد أن أبا نواس لم يكن صادقا في شكه وزندقته ومجونه وتهتكه وتبذله وخلعه للعذار وتخليه عن الوقار.
وأنه إنما كان يصطنع ذلك، ويبالغ فيه، ويلهج به ويلغط ويصخب، من أجل أن يقال إنه شخص رقيع خليع ضليع.
ومن أجل أن يصيب نصيبا موفورا من الاشتهار الفِج، وحتى تتحدث عنه البرايا في كل صقع ورقع.
وقد تتبع إمام الفكر وعميد الأدب الأستاذ العقاد أخبار أبي نواس التي ذاعت في أرجاء العالم العربي واتصلت بما جاوره أو ندَّت عنه من الأصقاع البعيدة حتى جمع أطرافا مما كان يسمع ولا يزال يسمع حتى الآن بين أفراد القبائل الإفريقية وراء الصحراء.
وهي مجموعات من المُلح والطرائف كان ولا يزال يتداولها الخاصة والعامة والسحرة وأصحاب التعاويذ والكهانات الرابضين بأعماق الغابات.
وقد استنتج الكاتب أن أبا نواس انفرد بهذه الشهرة الضاربة بين أدباء العربية في جميع العصور.
ثم تساءل عن سر هذه الشهرة المتفردة.
ثم أجاب بأن أبا نواس كان يمثل بتصرفاته الغريبة المدهشة نمطا من أنماط (الشخصيات النموذجية) التي يولع الناس بأخبارها ثم يتطوعون بتلفيق كل خبر من جنس أخبارها وإضافته إليها.
وذلك مثلما فعل الناس بإضافة أخبار ملفقة إلى أشخاص حاتم الطائي وعنترة ولقمان الحكيم وغيرهم من الأشخاص النموذجيين.
وقد ذاعت شهرة أبي نواس بقدر ما توسع الناس في اختلاق غرائب ونسبتها إليه.
ولكن أبا نواس لم يقصر في اجتراح العجائب والغرائب التي تعزز شخصه النموذجي.
فقد كانت الفاكهة المحرمة بضاعته سواء حرمتها شرائع الأخلاق أو الأديان.
وكانت الزندقة والشذوذ الذي تعلق به وادعاه بعض ما يروج في سوق الفسوق.
وشأن الفاكهة المحرمة أن يسأل عنها سرا من لا يسأل عنها علانية.
وأن يقاربها من يألفها ويتجسس عليها من يجهلها وينكرها.
وهي كلها من بضائع السوق السوداء كما نقول في العصر الأخير.
فهي من بضائع المساومة والمغالاة.
وتلكم هي بضائع أبي نواس الخسيسة التي راجت بها شهرته وذاعت في الخافقين.
وقد كانت نفسيته النرجسية المنحرفة تلح عليه في الاستعراض والتحدي بالمخالفة والإباحية المتهتكة حتى يصبح حديث الناس.
وكان يحلو له رغم صداقته وتبعيته لإبليس أن يتحداه أحيانا بإمكانات التوبة والإقلاع عن المعاصي واللجوء إلى دنيا الصلاح والعفاف!
فالمهم عند أبي نواس أن يشبع شهوته في المخالفة والمغايظة للجميع!
وتلكم هي بعينها طبائع معمر القذافي ممثلة في شهوته المتأججة بحب الشهرة والذيوع.
فليس أحب إليه من أن تبسط له الصحف والمجلات صدور صفحاتها وأن تتصدر صوره نشرات أخبار التلفاز حتى ولو كانت التغطيات الإعلامية لأخباره مضادة له وتشوه صورته عند الناس.
وإذا نسيه المحررون حينا بسبب من ضعف أثر بلاده على المسرح العالمي فلابد أن يقرع أسماعهم بحادث صاقع أو كلام لاذع.
وهكذا عرف كيف يجذب أنظار العالم إليه.
وإذا استعرض المرء ممارسات القذافي الغريبة وأكثرها غريب لم يجد لها تعليلا إلا ذاك.
وإلا فلماذا ظل هذا الزعيم الجامح يجاهر بمساندة الحركات الإرهابية الموصوفة بأنها (ثورية) مثل الجيش الجمهوري في إيرلندة، والألوية الحمراء في إيطالية، وثوار الباسك في أسبانية، والجيش الأحمر في اليابان؟!
ولماذا شن الحرب على الشيوعيين العرب وسماهم بالكلاب الضالة ثم عاد ليتحالف معهم ويؤيهم ببلاده؟!
ولماذا قطع علاقاته مع العراق عندما وقعت معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفيتي السابق ثم عاد ووقع اتفاقية صداقة شبيهة مع السوفيت؟!
ولماذا ظل يؤيد السادات حينا ويحاربه حينا آخر؟!
ولماذا ظل يؤيد النميري حينا ويحاربه حينا آخر؟!
ولماذا ظل يؤيد صدام حسين حينا ويحاربه حينا آخر؟!
ولماذا أرسل جنوده لخوض الحرب الأهلية في صف رجل كان شبيها به في إتيان الحركات البهلوانية، وابتداع الحكايات العبثية، وهو الجنرال عيدي أمين، الذي خاض حربا لم يكن للقذافي فيها جمال ولا نوق؟!
ولماذا خاض القذافي الحرب الضروس من أجل الإطاحة بالرئيس التشادي السابق حسين هبري، تلك الحرب التي انهزم فيها جنده، وفروا إلى أمريكا، حيث شكلوا الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، التي تقود الثورة عليه الآن؟!
ولماذا انخرط القذافي في سياق الحرب الثورية الأرترية، واختار أن يقف في صف المستعمر الإثيوبي، وتبرع أربعة بلايين دولار لشراء أسلحة لجيش منغستو هيلي مريم، ثم عاد وانقلب على عقبيه ووقف في صف الثوار الأرتريين المطالبين بالاستقلال عن الإثيوبيين؟!
ولماذا ظل القذافي يستمرئ المزايدة والتهريج الرخيص بقضية فلسطين، ويدمن التحريض اللفظي ضد إسرائيل، ويستعجل الحرب عليها، ثم انكفأ وخنس عندما اندلعت الحرب التي ظفرت على الإسرائيليين - لأول مرة - في عام 1973م؟!
كانت تلك بعض الأسئلة التي حاولت أن أجيب عنها في البحث من المنطلق العقلاني فأعياني البحث.
ثم عدت لأجرب منهاج العقاد النفسي في تحليل شخص أبي نواس وفيه جدت الجواب.
وما سطرته في تحرير البحث الصغير (إياه!) إنما كان عبارة عن حيثيات وأدلة ذاك الجواب.
وما سجلته في السطور السالفة إنما هو بعض ما بقي برواسب الذاكرة من ذلك الجواب.
وذلك لأني فقدت البحث.
وإنما فقدته عامدا لأني كتبته من نسخة يتيمة سلمتها للأستاذ ولم أستعدها منه استخفافا بالبحث وبالموضوع.
ولكني أحس اليوم ببعض الندم لأنني لم أحتفظ لنفسي بنسخة منه.
ولو قد بقيت نسخته معي لعدت إليها بالتعديل والتنقيح.
حتى أضيف إليها تحليل وتفسير خبرة ثلاثين عاما تالية مما شهدنا من ممارسات القذافي في السياسات الخارجية اللا عقلانية على كل صعيد!
من مثل ممارساته على الصعيد السوداني الذي ظل يساند فيه حركات التمرد في دار فور وفي الجنوب.
ومن مثل ممارساته على الصعيد اليمني الذي ظل يساند فيه المتمردين الحوثيين.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]