أحمد شاور .. رجل المهمات المعضلات … بقلم: د. محمد وقيع الله
السفير أحمد محجوب شاور أحد أذكى رجال الدولة وأحد كبار الحادبين على الشأن العام.
ويمكن أن يقال عنه إنه أحد أبرز رجالات الإنقاذ، وإن لم يتول منصبا وزاريا حتى الآن.
ذلك أنه يفضل أن يعمل بعيدا عن الإضواء ويحبذ أن يؤدي مهامه الوطنية بلا ظهور كثيف في الإعلام.
فهو يبرز في كل آن إنجازا حقيقيا ويقدم طحينا بلا جعجعة!
وقد تولى في سنوات الإنقاذ العشر الأولى إدارة مكتب رئيس الجمهورية، كما عمل لمدة طويلة قنصلا بسفارة السودان بعاصمة العالم العربي التجارية (دبي)، فتكاملت لديه معارف سياسية كثيرة واكتسب دراية جيدة بشؤون الاقتصاد الداخلي والخارجي.
وبهذا الإدراك المتسع أوكل إليه رئيس الجمهورية الأمانة التقريرية العليا لقضايا الاستثمار الخارجي.
ويفهم من هذا أن السيد شاور طلب منه أن يكافح وينافح على أكثر من صعيد ملتهب.
فقد طلب منه أن يكافح في الداخل أجهزة البيروقراطية السودانية التي لا يوجد ما هو أتعس منها ولا أثقل دم منها في الوجود.
وقد طلب منه أن يكافح على الصعيد الداخلي شراذم الفساد المالي ليبرئ ساحة الدولة منه.
وأما على الصعيد الخارجي فمن مهماته أن يعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية واستقطابها وتأمينها وتوجيهها التوجية الراشد الذي يضمن نجاحها في توليد أرباح مجزية لأصحابها وللوطن السوداني على السواء.
وهذه مهام جسام ضخام تنوء بالعصبة من أولى العزائم والبصائر والألباب.
وكم أشفقت عليه منها وكتبت عن ذلك مقالا قبل أعوام لم يتح لي أن أكمله وأرقمه وأنشره.
ولست أدري إن كان ما زال قابعا بين أوراقي أم أنه ضاع كما تضيع أوراق العمر وتتناثر ويضيع العمر نفسه ويتناثر ونحن نلهث في القَتام.
وما حفزني لأعيد تحرير الفكرة التي انطلق منها مقالي الفقيد هو هذا الخبر الذي نشرته صحف أخيرا نقلا عن مصدر علمي إحصائي تجاري أفاد بأن بلادنا تستورد سنويا من مسحوق اللبن المجفف نحو ستة آلاف طن تصل قيمتها إلى نحو عشرين ومائة مليون دولار!
وقد جاء في ذيل الخبر أن ما يسمى الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس، قد دعت بالتضامن مع اللجنة الفنية للألبان ومنتجاتها إلى إيقاف استيراد اللبن المجفف، وتشديد الرقابة على مصانع إعادة التعبئة، بالإضافة الى دعم الدولة لصغار المنتجين!
ولست أدري إن كان هؤلاء القوم الكرام جادين فعلا في شأن هذه التوصيات القاصرة التي تقدموا بها، أم أنها جاءت مرسلة هكذا عفو الخاطر على شاكلة التوصيات التي تصدر اعتباطا عن المؤتمرات والندوات (التي نسميها بغباء ورش عمل!) وهي التوصيات التي يوكل لبعض الإنشائيين أن يصوغوها وتصدر في صورة كلام (أي كلام) من أجل (حسن الختام)؟!
ولنفترض جدلا أن توصيات هؤلاء السادة الكرام قد طبقت بحذافيرها، فهل سيؤدي ذلك إلى توفير الحليب الطازج أو المجفف لبلادنا؟
وهل يؤدي ذلك إلى صيانة هذه الكمية الضخمة من العملة العزيزة الصعبة، من أن تتحول عنا لتستقر هنالك بعيدا في البنوك الهولندية والدنماركية وبنوك البلاد الأوروبية التي ظللنا نستورد منها الألبان المجففة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان؟!
لا أظن! ولا أحد يظن! ولا أظن أن أصحاب هذه التوصيات الظنية يظنون!
فهذه توصيات مبتسرة، ويَغرُب أن ينتج مثلها عن ندوة علمية يقصد بها تكثيف الرؤية إلى موضوع البحث المثار وطرقه من جوانب شتى، حتى يخلص الناس إلى الحلول المثلى أو الحل الأقرب إلى المثال.
وقد كان غريبا أن يتجاهل هؤلاء (الخبراء!) أمر الاقتصاد في لبابه وأن يهتموا بالمعالجات السياسية والإدارية (البيروقراطية) الشكلية العاجزة.
وأن يدعوا إلى إيقاف استيراد اللبان المجففة قبل توفيرها محليا.
وكأن إيقاف استيراد الألبان سيؤدي تلقائيا إلى إنتاجها في الداخل!
وأغرب من ذلك دعوتهم إلى تشديد الرقابة على مصانع التعبئة وكأن ذلك سيؤدي إلى زيادة الانتاج!
وأعجز من ذلك دعوتهم الدولة العاجزة إلى التدخل المباشر لدعم الدولة صغار المنتجين.
ولعلهم يقصدون بهذا باعة اللبن الملوث بالجراثيم ومضادات الجراثيم.
ولعلهم يقصدون بهذا أن تنشئ الدولة قطاعا اقتصاديا (بيروقراطيا) يفتح ملفا لكل بائع من باعة الألبان الطازجة الذين يطوفون بالأحياء يوزعون بأنحائها وحناياها جراثيم الأمراض الفتاكة من أجل دعمهم ودعم أبقارهم بالماء والأعلاف!!
وما أردت في الحقيقة أن أسخر من هؤلاء على التحقيق، وما تناولت شأنهم إلا لأنهم مثال متألق من أمثلة التفكير الجزئي السائد عند السادة البيروقراطيين السودانيين حسيري الرؤية العاطلين عن المواهب والتجارب الثرية المفيدة.
وأما الأستاذ السفير شاور فكما ذكرت عنه في المطلع فهو رجل دولة غني بالمواهب والمعارف والتجارب ولا تنقصه إرادة العمل وحماسة البذل والجهاد.
وقد تذكرت الآن أني صغت مقالي السابق عنه أيام اشتعال محنة الرسوم الكارتونية المسيئة لرسول الإسلام وعظيم الأنام محمد عليه السلام.
وقد رجوته في ذلك المقال أن يسهم من موقعه في إدارة الاستثمار الخارجي، بشأن محوري يركز ويثابر عليه، وهو شأن المتصل بتوطين صناعة منتجات الألبان ومستخلصاتها في السودان.
فذلك أمر يتيسر إقناع المستثمرين المسلمين به وحثهم على إنجازه بدافع اقتصادي محض مضافا إليه الدافع الديني الروحي.
هذا وإن كنتُ وكنا جميعا لا نفرق بطبيعة فهمنا الشمولي للدين الإسلامي بين الشأنين الاقتصادي والإيماني الروحي.
ولعلي قلت له يومها هلم وانجز لنا مشروعا اقتصاديا سودانيا بحجم تطلعات العالم الإسلامي وحاجاته الكبرى.
مشروعا يؤكد للغرب المعادي أننا نستطيع أن نرد عليه ليس بمجرد مقاطعة منتجات ألبانه بل بإنتاجها ببلادنا.
فهذا هو الرد الأجدى والأسدى.
لأنه يبدل الصورة النمطية للعرب والمسلمين من حيث أنهم غدوا يتهمون بأنهم ظاهرة صوتية مترجرجة تدمن الاحتجاج ولا تقدم على فعل عملي جاد.
ومن حيث أن هذا المشروع سيمثل ردا عقابيا أبديا على تعدي هؤلاء الكفرة على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
ومن حيث أنه يفيد بلادنا اقتصاديا فائدة جلى بتوفيره للعملات الصعبة التي يستنزفها استيراد الألبان.
وإعانته على اجتلاب عملات صعبة من الخارج بفعل التصدير.
وربما كان هذا هو لب المقال الذي أشرت به إلى السيد شاور يوم ناوشنا الكفرة الغربيون بسبهم لسيدنا وحبيبنا ونبينا ورسولنا المصطفى المجتبى سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وقد أثرت يومها معه مسألة الرد العملي الناجز على الكفرة الغربيين المفترين من خلال توفير استثمار عربي اسلامي ضخم يكفل حل مشكلة هذا القطاع الاقتصادي المهم من قطاعات الإنتاج المعطلة بالبلاد.
وذلك حتى نتخلى عن الاعتماد والتبعية فيه على الغرب.
وحتى تصبح بلادنا – وهي أهل لذلك من حيث الاستعداد بحمد الله – أكبر مصدر لتزويد العالم الإسلامي بالألبان ومنتجاتها.
وهذه هي خير الأغذية المباركة التي أوصانا بتناولها رسولنا محمد عليه أكرم صلاة وأتم سلام.
ولا بأس أن تستغل أيها السيد - والمخاطب هنا أحمد شاور - العامل الديني في الترويج لهذا المشروع الاقتصادي الاستراتيجي التأسيسي فتسميه بمشروع نصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لإنتاج الألبان والأجبان.
فالانخلاع عن التبعية للغرب، والاستغناء عن ألبانه وأجبانه، هدف مشروع جد مشروع.
وما فيه من استخدام مهين ولا من تجارة بغيضة بالدين.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]