عبقريات الإنقاذ: الدولة..الحزب..الأسرة؟!
يعتبر كتيب لينين "الدولة و الثورة" المرجعية التى تأسس عليها جهاز دولة الإتحاد السوفيتي السابق، و الذى قامت على أساسه أركان تلك الدولة التى عاشت لفترة تربو على السبعين عاما. لقد شهدت تلك الفترة نهوضا و هبوطا، نهضة و تراجعا، تقدما و تخلفا فى جميع مناحى الحياة أثناء تلك الفترة الطويلة من المراحل المختلفة لحكم السوفيت. لقد ثار جدل كثير بين الأكاديميين و المفكرين و السياسيين و المؤرخين حول تقييمهم لفترة حكم السوفيت. وقد إختلفت آرائهم حول إنجازات تلك الفترة و إخفاقاتها، لكنه يوجد شبه إجماع حول الطبيعة الدكتاتورية لتلك الحقبة و الغياب التام للحرية و إنعدام الديمقراطية بشكل كامل. و لا غرو فى ذلك حيث سمى مؤسس تلك الدولة نفسه مؤسساتها ب"دكتاتورية البروليتاريا"، أي دكتاتورية الطبقة العاملة فى مواجهة الطبقات المستغلة لها.
جوهر النظرية التى إحتواها ذلك الكتيب يمكن تلخصيها فى التالى: إن الشرط الأساسى و الضرورى لنجاح أي "ثورة"، و ضمان إستمرارها، و تنفيذ برنامجها، يتمثل فى هدم جهاز الدولة الموروث من الحقبة السابقة لها تماما، و بناء جهاز دولة جديد بالكامل على أنقاضه. إن عملية هدم جهاز الدولة القديم و إستكمال بناء جهاز الدولة الجديد لا يمكن أن تتم بنجاح إلا وفقا لدستور الثورة و قوانينها و مؤسساتها الجديدة من أدنى المستويات الى أعلاها، بما فى ذلك إبعاد رموز وقيادات العهد "البائد" التى قطعا لن تتمكن من مواكبة مستجدات العهد الجديد، أي إجراء تطهير كامل، بلغة العصر، لجهاز الدولة من "عملاء" و سدنة النظام السابق.
ومن المعروف تماما أن حسن الترابى، عراب نظام الإنقاذ فى عشريته الأولى، هو الذى أفتى بضرورة الإستفادة من النظرية الماركسية-اللينينية، فكرا و ممارسة، لتثبيت أركان نظام "ثورته"، التى أسماها بالإنقاذ. هذا هو الأساس الذى قامت عليه نظرية السيد الترابي فى "التمكين". و هذا هو الأساس الذى بنى عليه نظريته فى تأسيس جهاز دولة الفساد و الإستبداد وفقا لمبدأ التعيين حسب الولاء، و ليس الخبرة و الكفاءة، داخل مؤسسات دولته الجديدة.
أعتقد أن تطبيق السيد الترابى لنظرية لينين فيما يتعلق بجهاز الدولة بحذافيرها هو سبب البلاوى التى ألمت بالسودان منذ مجئ حكم الإنقاذ، ذلك أنه قد قام بإلغاء جميع القوانين و النظم التى حكمت جهاز الخدمة المدنية فى السودان لعقود خلت، و حل أجهزة و مؤسسات الخدمة المدنية المشهود لها بالكفاءة على جميع المستويات، وقام بفصل أكفأ الكوادر التى كانت تدير تلك الأجهزة، و أحل محلهم الكوادر الفاشلة، و الفاقد التربوى الذى يدين له شخصيا، و لثورته المزعومة، بالإخلاص و الولاء. لقد إرتكب السيد الترابى أكبر جريمة فى تاريخ الخدمة المدنية فى السودان، مصحوبا بإرتكاب أكبر منها فى حق أسر كريمة كانت تعيش و تقتات على الراتب الشهرى الذى كان يتقاضاه أرباب تلك الأسر الذين قام الترابى بتشريدهم. لقد إرتكب الترابى تلك الجريمة دون أن تأخذه أدنى رحمة أو شفقة ودون أي وازع أخلاقى أو ديني. و إننى أزعم بأن لينين نفسه قد كان أكثر رحمة و شفقة بالشعب الروسى حينما قام بثورته البلشفية من السيد الترابى!!
لقد تولد عن تلك المجزرة سوء إدارة لجهاز الدولة و تدنى فى أداء الخدمة المدنية لم يسبق له مثيل فى تاريخ السودان الحديث. و حينما إرتبط سوء الإدارة و تدنى الأداء بغياب القوانين التى تضبطها، لم يكن هناك من سبيل آخر سواء إستشراء الفساد كأسلوب أداء داخل المؤسسات العامة. لذلك شكل الفساد الإدارى و المالى النهج الإنقاذي المعتمد لقضاء حوائج الناس، و فتح الباب على مصراعيه لنهب ثروات و مقدرات الشعب السودانى من قبل كوادر الإنقاذ التى أجادت فى هذا الميدان.
لقد صحب تفكيك جهاز الدولة من قبل الترابى تدنى مستويات التعليم و الخدمات الصحية، و غياب حكم القانون، و التشكيك فى نزاهة القضاء. لذلك لم تأت كل تلك المصائب من فراغ و لكنها أتت كنتاج طبيعي لفلسفة الإنقاذ فى إدارة شؤون البلاد. إن قادة وسدنة الإنقاذ لم يدفعوا ثمن هذا التدني و الإنهيار فى الخدمات الأساسية، و إنما من قام بدفعه هم بنات و أبناء الفقراء و الغلابة من عامة الشعب. إننى لا أتجنى على أحد من "هؤلاء الناس" حينما أقول ذلك. فالشواهد كثيرة و متعددة، لكنني سأكتفى بمثالين فقط لأدلل بهما على صحة ما أقول. إن سفر السيد الجنرال وزير الدفاع، و على جناح السرعة، الى المملكة السعودية لتلقى العلاج جراء الوعكة الصحية البسيطة التى ألمت به قبل فترة و جيزة يقف دليلا دامغا على سوء الخدمات الصحية فى البلاد. كما أن تصريح السيدة عقيلة السيد وزير الزراعة الذى أدلت به لصحيفة الرأي العام قبل يومين تفيد فيه بأن إبنها البكر يدرس الهندسة فى جامعة لندن يدل على مدى الإنهيار الذى حاق بنظام التعليم العالى فى السودان. نعم يخربون مؤسساتنا الصحية و التعليمية و لايكتون بنار ذلك الإنهيار.. أليس هذا هو أحد "عبقريات" الإنقاذ؟!
إن تطبيق الترابى لنظرية لينين حول جهاز الدولة إمتدت لتشمل القوات النظامية بجميع أفرعها. بل إن هجمة السيد الترابى على القوات النظامية قد كانت الأسوأ، و بالأخص داخل القوات المسلحة. و أعتقد أن له فى ذلك أكثر من سبب. فقد كانت القوات المسلحة هى الوسيلة التى أوصلته الى سدة حكم البلاد. لذلك كان لا بد من تطهيرها من جميع العناصر التى يشك، مجرد الشك، فى ولائها لنظامه الجديد. ليت الأمر وقف عند هذا الحد، لكن أخطر ما إرتكبه الترابى و نظامه فى حق القوات المسلحة، بصورة خاصة، و السودان على وجه العموم، هو تغيير عقيدة الجيش السوداني. لقد تحولت عقيدة الجيش من الدفاع عن الدستور و حماية تراب الوطن الى الدفاع عن نظام الإنقاذ و حماية قياداته. بمعنى آخر تحول الجيش السوداني من جيش وطني الى جيش حزبي. لقد حول الترابي القوات المسلحة من جيش له عقيدة وطنية الى جيش له عقيدة آيديولوجية حزبية. من جيش يدين بالولاء للوطن الى جيش يدين بالولاء الى نظام الإنقاذ وحزبه و شيوخه و مشايخته...فتأمل!!
من هنا جاء إنهيار القوات المسلحة التى فشلت فى عهد الإنقاذ ليس فى الدفاع عن أرض الوطن فقط،، و إنما فشلت حتى فى معرفة من أين تأتي الإعتداءات التى تستبيح ترابه، كما حدث فى الإعتداء الإسرائيلي الغاشم على مدينة بورتسودان مؤخرا، حيث تنازل السيد وزير الدفاع عن أبسط واجباته المهنية فى توضيح ما حدث للسيد نائب والى ولاية البحر الأحمر من جهة، و الناطق الرسمى بإسم قوات الشرطة، من جهة أخرى! فإذا لم يظهر السيد وزير الدفاع، بكل النياشين التى تغطى صدره و كتفيه، على مسرح الأحداث فى مثل هذه الظروف الحرجة، ترى لمثل ماذا من المواقف تدخره دولة الفساد و الإستبداد؟
إن "عبقرية" الإنقاذ فى شئون حكم البلاد قد تجلت فى إختلاط حابل الخدمة المدنية بنابل القوات المسلحة فى دولة التوجه الحضارى، حيث يصعب على المرء أن يفرق بين الوزير و الخفير، وبين اللواء و الجاويش، و بالأخص فى عشرية الإنقاذ الأولى! نعم هذا كان واقع الحال أثناء تلك الفترة حيث كانت الحكومة الخفية التى يترأسها الترابى هى التى تصوغ الخطط، و تضع السياسات و تعتمدها، بينما تقوم حكومة العلن، التى يترأسها البشير بتنفيذها. لذلك كان كل من لديه أدنى صلة قربى بالشيخ يعتبر أكبر نفوذا حتى من الرئيس الرسمى المعلن للبلاد. و إلا كيف يمكن تفسير تنفيذ إجراء بسيط كمنح قرض لأحد متعاملى البنوك بصور تجافى جميع قوانين و أعراف أجهزة المصارف فى العالم. إن الإجراء الطبيعى لمثل هذا الأمر هو أن يقدم العميل الضمانات الكافي لسلطات البنك التى تقوم بدراستها و تقديرها ومن ثم تتخذ الإجراء المناسب بشأنها. لكن يختلف الأمر داخل أروقة دولة الفساد و الإستبداد التى أسسها الترابى، حيث أصبحت قصاصة من الورق ممهورة بإمضاء سيادته تشكل ضمانا كافيا ليمنح أحد البنوك مليارا كاملا من الجنيهات كقرض لأحد أعوانه، دون أدنى إعتبار لأنظمة البنك أو أدنى رقابة من سلطات البنك المركزى للبلاد. بربكم دلوني على "عبقرية" أكثر من تلك فى إدارة شؤون البلاد؟!
ليت الأمر وقف عند هذا الحد. لكنه تجاوزه نحو الأسوأ، حيث تعتبر العلاقة طردية بين عمر الإنقاذ وحجم فسادها و سوء إدارتها. بمعنى أنه كلما زاد عمر دولة التوجه الحضارى، كلما زاد الفساد و تضخم حجمه، و بالأخص فى شقيه المالى و الإدارى. ليس هذا فحسب، بل إنني لم أجد أدق من كلمات أسامة بن لادن لوصف "خلطة" الإنقاذ لتأسيس دولتها الحضارية، فى شقيها المدنى و العسكرى، حيث وصفها بأنها،"خليط بين الدين و الجريمة المنظمة". نعم إنها بالفعل خليط بين الدين و الجريمة المنظمة. إن هذا الخليط هو الذى أعطى الحق لقادة الإنقاذ فى أن يتملك حزبهم، المؤتمر الوطنى، جهاز الدولة بأكمله، و بكل موارده. بل أصبح يعتبر جهاز الدولة إقطاعية خاصة و خالصة لكوادره و أعضائه، و حتى شريحة المؤلفة قلوبهم، يستثمرون موارده وفقا لما تقتضيه مصالحهم الخاصة، و ليس وفقا لما تقتضيه مصلحة الوطن. بمعنى آخر فقد حولوا جهاز الدولة من دولة الوطن الواحد الى دولة الحزب الواحد، و بالتالى أصبح المؤتمر الوطنى ليس بمثابة الحزب الحاكم، كما يزعم قادة الإنقاذ، و إنما حزب الحكومة، و بدرجة فارس!!
لكن أسوأ ما أنتجته خلطة الدين و الجريمة المنظمة ليس إمتلاك الحزب لجهاز الدولة فقط، و إنما إمتلاك أسر قادة الإنقاذ للحزب و جهاز الدولة معا. لذلك إستشرى أسوأ أنواع الفساد المالى و الإدارى. سندلل على ذلك بممارسات أسرة رأس النظام فقط، لأن السمكة تفسد من رأسها. فإذا فسد الراس، فسد الجسم كله حتى الذيل. و سنسأل السيد الرئيس سؤالين فقط فى هذا الشأن: الأول، بأي صفة رسمية قام شقيقك اللواء طبيب بجلب رجال المال و الأعمال الأجانب ليستثمروا فى السودان، و ما هو حجم "العمولة" الذى تقاضاه جراء أتعابه و تقديم خدماته الجليلة لدولة الفساد و الإستبداد. أما السؤال الثاني فيتعلق بحرمكم المصون وهو، بأي صفة قامت سيادتها بالإجتماع بحكومة ولاية كسلا عند زيارتها الأخيرة لها؟ لو كان السيد الرئيس صادقا فى إجابته على هذين السؤالين لما إحتاج أصلا الى تكوين مفوضية لمحاربة الفساد، و إن لم يكن صادقا فى إجابته فإننا نطلب من تلك المفوضية، إن قدر لها مزاولة نشاطها، أن تبدأ عملها برأس النظام و بتوجيه هذين السؤالين الى سيادته. عندها لن يسمع الشعب السودانى مرة أخرى عن هذه المفوضية، و سيكفى المولى عز و جل أعضائها الكرام شر القتال!!
أختم فأقول إن نظرية الدولة و الثورة التى صاغها لينين، و طبقها إستالين من بعده، قد نجحت فى تأسيس و تطوير دولة عظمى، من الناحيتين الصناعية و العسكرية، بغض النظر عن التكلفة البشرية لتك التجربة، و بغض النظر عن تقييمها، فماذا أنتجت نظرية "الدولة و الثورة" التى طبقها الترابى غير دولة الفساد و الإستبداد التى صنفت على أنها دولة فاشلة، و غالبا ما تأتى فى ذيل معظم دول العالم من حيث الشفافية و الحكم الراشد. دولة أصبح يمتلكها حزب واحد، و حزب أصبح يمتلكه مجموعة من الأسر النافذة و المتنفذة، و ما على السودان و شعبه الصامد الأبي سوى السلام!!
13/4/2011م
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]