الثورات العربية وفزّاعة الإسلاميين
قال وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبية (19/4/2011م) وهو يشرح التغيير الذي طرأ على سياسة بلاده تجاه العلاقات مع الحركات الإسلامية في العالم العربي: إن الزعماء العرب خدعوا فرنسا عندما صوروا لها هذه الحركات على أنها الشيطان، وصدقناهم! وهذا يفسر بطء رد فعل فرنسا إزاء الانتفاضة الشعبية في تونس ومصر. وأشار بأن فرنسا منفتحة الآن للحديث مع أية حركة إسلامية في الخارج تنبذ العنف (آخر لحظة 21/4/2011). أياً كان الهدف من تصريح الوزير الفرنسي سواء كان وليد قناعة حقيقية أم أن القصد هو اللحاق بركب التعامل الإيجابي مع الحكومات الجديدة التي سترث الأنظمة الديكتاتورية المنقرضة وقد تضم إسلاميين في صفوفها، إلا أن مضمون حديثه يمثل حقيقة سياسية معلومة وهي كراهية الغرب لوجود الإسلاميين في السلطة، وأن كل الأنظمة المستبدة في العالم العربي التي اشتعلت فيها ثورات الحرية والتغيير استعملت الإسلاميين بتياراتهم المختلفة فزّاعة للغرب من التخلي عن مساندة أنظمتهم المنهارة. وهذا ما يفسر سكوت الدول الغربية المطبق _رغم دعواها العريضة في الدفاع عن حقوق الإنسان_ على ملاحقة واضطهاد الإسلاميين لعقود من الزمان بواسطة الأنظمة الاستبدادية في كثير من الدول العربية، ومنها مصر والجزائر وتونس وسوريا والمغرب والعراق. وبلغ بهم الحد أن شاركوا في مؤامرة حرمان الإسلاميين من حقهم الديمقراطي في الحكم في كل من تركيا (إسقاط حكومة أربكان الائتلافية عام 1997) والجزائر (انقلاب الجيش على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 1992 التي فازت بـ 188 مقعداً في الجولة الأولى مقابل 16 مقعداً فقط للحزب الحاكم) رغم فوز الحزبين في انتخابات ديمقراطية تعددية جرت تحت إشراف حكومات معادية للإسلاميين. قد تأخذ الحكومات الغربية على الإسلاميين بعض التصريحات المعادية لهم أو لإسرائيل أو لا تنسجم مع حقوق الإنسان (والأخيرة مقولة لا تحظى بمصداقية لأنهم يتغاضون عن انتهاكات فعلية لحقوق الإنسان من أنظمة غير ديمقراطية، فكيف يحاكمون الإسلاميين على تصريحات شاطحة؟)، ولا ينبغي لهذا السلوك غير الفطن من بعض الإسلاميين أن يحرمهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية في حرية التعبير والتنظيم وفي المنافسة الانتخابية الحرة عبر صناديق الاقتراع. وقد قبلت الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالأحزاب الشيوعية في بلادها لتمارس حقها في التعبير والتنظيم والمنافسة الانتخابية، رغم أنها تشك في التزامهم بالديمقراطية التعددية ورغم موقفهم الآيدولوجي والسياسي المنحاز لكتلة الأعداء (الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوربا).
وهذا المعيار المزدوج من الدول الغربية في معاملة الإسلاميين ينطبق كذلك على كثير من العلمانيين واليساريين في العالم العربي، الذين يصمتون صمت القبور عندما يضطهد الإسلاميون في بلادهم ويحرمون من أدنى حقوقهم السياسية في حين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حين يتم الاعتداء على حرياتهم أو حريات حلفائهم. ولو وجدنا العذر للأنظمة العربية المستبدة في تفزيع الغرب من الإسلاميين لأنهم يشكلون أرقاً لسلطتهم الفوقية المتجبرة، فما بال قبيلة اليسار والعلمانيين، الذين هم خارج النظام القائم وكثيراً ما يعانون أيضاً من جبروته واضطهاده، يعينون السلطة الظالمة على التنكيل بالإسلاميين. يدور في هذه الأيام جدل كثيف في وسائل الإعلام المصرية وفي الندوات السياسية حول قوة الإسلاميين (الأخوان المسلمون) واستعدادهم لخوض المعركة الانتخابية القادمة في سبتمبر المقبل، وأن ذلك يهدد المجتمع المصري بإقامة دولة دينية. والسؤال المشروع هو: لماذا كانت جماعة الأخوان المسلمين هي الأكثر استعداداً للانتخابات مع أنها ظلت محظورة النشاط لأكثر من خمسين سنة؟ ويقدم قادتها ونشطاؤها لمحاكم عسكرية فقط بتهمة الانتماء لمنظمة محظورة خاصة عند مواسم الانتخابات. ولماذا كانت الأحزاب القانونية (تزيد عن 20 حزباً أشهرهم الوفد والتجمع والناصري والغد والأحرار) أقل استعداداً لخوض الانتخابات رغم حريتها في العمل وعلاقتها السالكة مع السلطة القائمة؟ إنها أحزاب فارغة المحتوى، ضعيفة القيادة، غير متواصلة مع قطاعات المجتمع في أية صورة من الصور! لقد كسبت جماعة الأخوان المسلمين في انتخابات 2005 التي وجدت فيها انفراجاً نسبيا 88 مقعداً في مجلس الشعب (البرلمان) في حين حصلت كل أحزاب المعارضة القانونية على 10 مقاعد فقط كانت من نصيب الوفد والتجمع والغد والناصري. من الذي يلام على هذا التقاعس والفشل؟ ورفضت جماعة الأخوان المشاركة في انتخابات 2010 المزورة في حين خاضتها بعض الأحزاب القانونية أو انقسمت حولها دون أن تكسب شيئاً يذكر.
انبرت مجلة روز اليوسف الحكومية (المحسوبة على اليسار المصري) بإثارة الجدل حول قوة الإسلاميين وتخويف المجتمع من قيام دولة دينية في مصر تعيدها إلى القرون الوسطى، وقد كانت من أكثر المطبوعات المصرية دفاعاً عن خطايا وجرائم نظام حسني مبارك وارتباطاً بأجهزة الأمن سيئة السمعة إلى درجة استحى العاملون فيها من إدارتها السابقة قريبة الصلة بجمال مبارك فثاروا عليها وطالبوا بتغييرها حتى تركب موجة الثورة الشبابية. ورغم تغيير قياداتها إلا أنها احتفظت من تراثها القديم بمواصلة تهجمها على الإسلاميين. كتبت المجلة الحكومية في عددها بتاريخ 11 أبريل مقالين رئيسيين عن جماعة الإخوان أحدهما عن برنامج حزب «العدالة والحرية» الذي يعتزم الإخوان إنشاءه لخوض الانتخابات القادمة تحت عنوان «مشروع أمة إسلامية ودولة دينية» حاولت فيه الكاتبة فاطمة سيد أحمد إثارة كل من الجيش والأقباط والأمن المركزي والصحف القومية والمرأة ضد الإخوان، وأخذت على البرنامج أنه يريد إلغاء مجلس الشورى والأمن المركزي (مصر فيها عدة أجهزة أمنية) والصحف الحكومية التي تسمى قومية! وكان المقال الثاني للكاتب أحمد عبد اللاه عبارة عن استطلاع رأي لعدد من اليساريين والعلمانيين والأقباط في موضوع بعنوان: هل يخشى دعاة «المدنية» الدولة الدينية؟ التقطوا أنفاسكم .. «عمائم الملالي» احترقت في ميدان التغيير. فالعنوان يشي بقصد الكاتب غير البرئ واستهدافه للإسلاميين، وكان من ضمن من سألتهم المجلة الكاتب اليساري يوسف القعيد، والمفكر القبطي رفيق حبيب، والدكتور جابر عصفور، والكاتب القبطي كمال زاخر، والدكتور سامر سليمان أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، والدكتور عمار على حسن. ورغم أن هذه النخبة تمثل دعاة الدولة المدنية أو العلمانية الصريحة إلا أنهم لم يستجيبوا تماماً للطعم الذي قدمته المجلة الاستخبارية. أجانب القعيد أن ظهور السلفيين بهذه الصورة (في ميدان التحرير) يجعلنا نبكي على الإخوان، وقال المفكر القبطي حبيب بموضوعية ووعي ناضج إن الحركة الإسلامية حركة شعبية وسيكون لها نصيب بدرجة أو أخرى وفقاً للتأييد الذي تناله والفيصل هو قدرة كل التيارات السياسية الأخرى الموجودة على الساحة، وطالما أن الشعب هو الذي يختار ممثليه وحكامه فلا خوف من قيام أية دولة مهما كانت مرجعيتها السياسية. وقال الدكتور جابر عصفور المفكر العلماني المعروف الذي قبل المشاركة في حكومة اللواء أحمد شفيق وزيراً للثقافة لكنه سرعان ما استقال منها قبل سقوط كل الوزارة على يد ثوار ميدان التحرير، قال ليس هناك خوف من سيطرة الإخوان على الساحة السياسية وكل ما يحدث نوع من الحراك يعكسه واقع القوى السياسية المختلفة، أما الدكتور وحيد عبد المجيد مستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية فقد ذهب إلى أن الخوف من سيطرة التيارات الدينية على الساحة السياسية هو خوف مرضي وهي حالة موروثة من الأنظمة القمعية السابقة، وقال الدكتور سامر سليمان إن مصر على مر التاريخ لم تكن دولة علمانية أو دولة دينية وإن كان الإخوان قوة سياسية كبيرة إلا أنها لا تستطيع أن تنفرد بالساحة السياسية.
ولقد حاول الإخوان منذ بداية ثورة التغيير تطمين القوى السياسية والجيش والنخبة المثقفة والدول الغربية بأنهم لا يريدون الإنفراد بالساحة السياسية بل يسعون للتوافق الوطني لذلك لن يرشحوا أحداً منهم لرئاسة الجمهورية ولن يسعوا لكسب أغلبية برلمانية ولكنهم يرغبون في توافق مع القوى السياسية على مرشح مقبول للرئاسة وعلى قائمة موحدة منسجمة من عدة أحزاب لخوض الانتخابات البرلمانية. ورغم مشاركتهم المقدرة في مظاهرات ميدان التحرير إلا أنهم أحجموا من ترديد شعارات دينية خوفاً من إحداث شرخ في الصف الوطني الذي وقف في ميدان التحرير ينادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. إن الدولة الدينية التي يدعى القائمون عليها أن اختيارهم جاء من عند الله وأنهم يمثلون إرادته في الأرض، وأنهم لا ينطقون عن الهوى بل بتفويض من الله وأن عصيانهم خروج من الملة، مثل هذه الدولة لا وجود لها في الإسلام ولا في تاريخه الطويل ولا في واقعنا المعاصر بما في ذلك دولة الملالي في إيران التي تضرب بها روز اليوسف المثل، فهي على علاتها أكثر ديمقراطية من معظم البلاد العربية.
لقد أزف الوقت الذي ينبغي أن يتحاور فيه المثقفون في العالم العربي في صراحة ودون وجل أو خوف حول طبيعة الدولة التي يريدون، وما هو دور الدين في هذه الدولة دون التواري خلف شعارات مبهمة غامضة مثل وصف الدولة بالمدنية أو العلمانية أو الدينية؟ وأن يقبل الجميع حكم الشعب بإرادته الحرة في ترجيح هذا الخيار أو ذاك دون وصاية من أحد. إن ما تدعو له الحركات الإسلامية الحديثة من الناحية النظرية على الأقل في كثير من الدول العربية هو إقامة دولة ديمقراطية حديثة ذات مرجعية دينية، وقد تضطرها ظروف الواقع أحياناً أن تتجاوز عن استكمال النظام الديمقراطي مثل ما حدث لمعظم الأحزاب العربية قديمها وجديدها. ولكن من الأفضل للجميع أن يتوافق الناس على الاحتكام للديمقراطية التعددية وسيلة وحيدة لتداول السلطة سلمياً دون عزل لأي تيار سياسي، وعلى رعاية حقوق الإنسان الأساسية، وعلى حق كل القوى السياسية في مشروعية العمل والتنافس السياسي دون حجر على أحد. نحن في حاجة ماسة أولاً لزرع النظام الديمقراطي في الأرض العربية المجدبة قبل أن نختلف على طبيعة الدولة التي يلدها ذلك النظام! ,