قصة سلاطين باشا ومهرب بجاوي … بقلم: جعفر بامكار محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
jbamkar@yahoo.com
سلاطين باشا هو ضابط نمساوي ولد سنة 1857م في فيينا وجاء الى مصر سنة 1878م ودخل في خدمتها فعينه غردون باشا حاكماً لدرافور سنة 1884م ولكن لم يمضي عليه في منصبه هذا قليل حتى اعتقلته جيوش المهدى فبقي اسيراً يدعي الاسلام والايمان بالمهدية الى سنة 1895م وحينئذ فر الى الجيش المصري واشترك في استرداد دنقلة وام درمان .
بقي سلاطين بعد ذلك موظفاً في حكومة السودان مابين 1900م وسنة 1914م ثم اعلنت الحرب العالمية الاولى فترك الخدمة في السودان وعاد الى النمسا ودخل في خدمة الصليب الاحمر . لما عقدت الهدنة سنة 1918م انتدب عضواً في بعثة الصلح في باريس .
لقد مر سلاطين باشا في حياته بظروف غريبة وعجيبة فمن قمة السلطة الى درك الاسر في براثن المهدية وتحت سمع وبصر الخليفة التعايشي ثم قصة هروبه العجيبة من الاسر ثم عودته مرة اخرى لقمة السلطة في الحكم الثنائي تم استقالته بسبب حرب بلاده مع الحكومة التي هو في خدمتها وهي بريطانيا . قصة حياة سلاطين باشا في السودان سطرها في كتابه الهام المسمى (السيف والنار في السودان) وانا في هذا المقال سوف اركز على الجزء المتعلق بقصته مع مهرب بجاوي نقلاً حرفياً من الكتاب وبدون تعليق من جانبي. يقول سلاطين باشا :
(عند غروب الشمس حضر الرجل الجديد وهو من قبيلة العامراب (بشاريون بجا) واسمه حامد جارحوش البالغ من العمر اكثر من خمسين عاماً . عندما حياني حامد هذا قال لي : (يسعى كل رجل لمصلحته الخاصة فمرشداك ابراهيم ويعقوب اللذان اعرفهما معرفة تامة يرغبان في ان ادلك من مكاننا هذا الى اسوان وتاكد اني مستعد للقيام بذلك ولكني اريد ان اعرف على ما سأحصل عليه إزاء هذا العمل الشاق فأجبته على الفور (سأعطيك يوم وصولنا الى اسوان مائة وعشرين ريالاً من عمله ماريا تريزا علاوة على هدية خاصة اقدمها تبعاً لما تقوم لي به في هذه الرحلة الجديدة ) .
قدم لي حامد بعد ذلك يده وقال لي : (اني مرتاح الى ذلك واتقبل المهمة فان الله ونبينا شاهدان على صدق ما اقول واما عن وعدك فاني اعرف عنصرك واثق ان الرجل الابيض لا يكذب واذن سأسير بك الى عشيرتك في طريق جبلية غير مطروقة باقدام الآدميين ولا يعرفها من مخلوقات الله سوى الطير الذي يحلق في المعمور دون ان ينقل اسرار الناس الى الناس فاستعد للرحيل لانا سنواصل عملنا باذن الله بعد غروب الشمس) .
اخترت اقوى الجمال الثلاثة واخذت قربتين مملوءتين بالماء والقسم الاكبر من البلح وكمية من الذرة وعندما خيم الليل وصل حامد الى المكان المعد لابتداء السفر.
بعد ان واصلنا سيرنا يومين اجتزنا اثنائها تلالاً صخرية . وصلنا في صباح الاحد الى بئر صغيرة تكاد تكون خالية من الماء واسمها (شوف العين) وعلى الرغم من ظهور ابتعاد القادمين اليها بقيت تبعاً لرغبة مرشدي في مكان يبعد ساعة عن هذه المنطقة .
كان طعامنا عبارة عن التمر وكمية من الخبز صنعناها بايدينا واقصد بذلك ان هذا الخبز كان لوقايتنا من الهلاك جوعاً فان أي مخبز اوروبي يعرض للخطر العام اذا وجد بين جدرانه رغيفاً من الارغفة التي نعملها لانها في مجموعها كريهة في منظرها وطعمها ، فطريقة صنع الخبز التي قام بها مرشدي هي جمع كمية من الحجارة حجم كل واحدة منها لا تزيد عن حجم بيضة الحمامة وبعد تكوينها نضع عليها قطعاً صغيرة من الخشب ثم يعجن الذرة في الماء ثم يشعل النار في الحطب والحجارة الصغيرة بواسطة حك الزناد على حجر الصوان بعد اشتعال النار في الحطب ينزع حامد الحجر من الحجارة الملتهبة ليضع عليه العجين وبعد ذلك يرد الجمر الى الحجارة . بعد ان اينتهي من ذلك التقليب الناري بضرب العجين بالعصا الصغيرة حتى يزيل ما عليه من الرماد وآثار الحجارة الصغيرة .
هذ هو الخبز الذي نأكله فإن لم نكن مدفوعين لاكله بلذة النظر اليه فليس اقل من ان يدفعنا الى تناوله جوعنا الشديد .
بعد ان ارتحنا قليلاً علىمقربة من البئر واصلنا السير بضع ساعات حتى انتهينا الى المنحدرات الاولى لجبال العيتباي الممتدة بين البحر ونهر النيل والتي يسكنها في ناحية الجنوب عرب البشاريين العامراب وفي ناحيتها الشمالية العبابدة تتفرع من بعض تلك النواحي الخالية من النبات اودية مملوءة بالغابات يسكنها رعاة الجمال التابعون للقبائل السالفة الذكر .
كنت شديد الرغبة في مشاهدة اعزائي في اقرب وقت ممكن اضمن في نهايته السلامة من اخطار رحلتنا المتعبة المفزعة رغم كوننا ناجين من كل خطر لانا تركنا الحدود المهدية ةصرنا على الاراضي المصرية رغم ذلك اصر مرشدي على البقاء بعيدين عن عيون بعض التجار الذين يتعاملون مع السودان .
ربما ان منزله قائم على الحدود وانه كان مضطراً لاسباب مختلفة الى الذهاب الى بربر فمن الواجب على ان اقدر خدمته لي – في موقفه الخطير هذا حق قدره .
في الحق لم اجد بين من شاهدت في السودان رجلاً اقوى عزيمة واسمى روحاً من صديقي الاخير هذا على الرغم من ضعف جسمه . لا ريب في ان الطعام غير النظامي والسير المتواصل في كثير من الاحايين اثر أثراً سيئاً في صحته هذا المتقدم في السن . علاوة على ذلك شعر صاحبي حامد بالبرد الشديد الذي اوقعه اخيراً في حبائل المرض فاضطررت اشفاقاً عليه اعطاءه جبتي لتدفئه وابقيت على نفسي الفردة والحزام الصوفي الكبير وقد وصلت بي الرغبة في سرعة الوصول لاسوان ان اعطيه جملي واسير على قدمي العارية فوق الاحجار اربعة ايام ولا ريب ان هذه الفترة اشق مراحلي من الوجهة الصحية .
آخر الامر قدر الله اللطيف بعباده ان ننزل صباح السبت 16 مارس من اعلى منحدرات طريقنا فنشاهد نهر النيل السعيد ومدينة اسوان الممتدة على شاطئه وبطبيعة الحال اقر بالعجز الكلي عن وصف السرور الذي ملأ قلبي بعد الشكر لله إزاء النجاة والشعور بتحريري من العبودية فقد انتهت آلامي ووفقنى الله على مصائبي ونجوت حقاً من ايدي البرابرة الشديدي التعصب ووقعت عيناي اول مرة على شعب متمدن يخضع للقانون والنظام ويأتمر حكامه باوامر العدالة
واتجه ساعة وصولي الى اسوان قلبي الطروب الى عرش الله الاسمى شاكراً لجلالته حمايته ويمينه المرشدة .
قوبلت باعظم مظاهر الترحيب من معسكرات الضباط الانجليز الخاضعين لصاحب السمو الخديوي وفي مساكن الضباط المصريين الذين لم يعلموا الا عندما التقوا بي انباء رحلتي المدهشة وقد تسابق كل من اولئك الضباط الكرام في التفريج عن كربي القديم وجلب السرور الذي ينسيني الامي ونكباتي السابقة . كان المحافظ العسكري في ذلك الحين في اسوان الكولونيل هنتر باشا اما عن صديقي حامد جارحوش فقد دفعت له مائة وعشرين ريالاً من عملة ماريا تريزا وقدمت لحامد علاوة على ذلك هدية مالية وبعض الملابس والاسلحة وفوق هذا وذاك قدم له هنتر باشا عشرة جنيهات انجليزية تذكاراً لوصولي سالماً الى اسوان وبعد ذلك ودعني وداع الاخلاص وعاد الى قبيلته مسروراً مبتهجاً.