ـ عمرك الآن أكثر من (79) عاماً فيما أعلم، ألم تُفكِّر في اعتزال السياسة؟
أجاب باندهاش:
- أعتزل؟
ثم استدرك قائلاً:
ـ إلاّ أن أموت.
شدّتني هذه المحاورة بين الصحفي النابه فتح الرحمن شبارقة وبين الشيخ حسن الترابي أطال الله عمره ومتعه بالعافية. وأظن أن الشعب السوداني غير سعيد برؤسائه (المزمنين) الذين لا يعتزلون إلا أن يموتوا!
المصادفة أنني أقرأ هذا بعد أن أنهيت خطبة جميلة للرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل الذي انتهت مدة رئاسته الثانية والأخيرة، فتقاعد عن السياسة ليعود إلى مهنته الأصلية الثقافة.
وقد تعلمت كثيراً من هذا السياسي وخطبته بعنوان «وداعاً للسياسة» لا سيما من قوله : (في فترة رئاستي هذه، أصبحت أقل ثقة في نفسي ، ومتواضعاً أكثر من ذي قبل. قد لا تصدقون ذلك، ولكن كل يوم يمر كنت أعاني من رهبة الجماهير، كل يوم أصبح أكثر خوفاً ألا أكون أهلاً لعملي، أو أنني سوف أشوه صورة الرئاسة. كل يوم تصبح كتابة خطبي أكثر صعوبة، وعندما أكتبها أكون خائفاً جداً من تكرار نفسي، كنت خائفاً من الإخفاق الذريع في تحقيق التوقعات، ومن أن أكشف وجود خبرة لديّ للرئاسة، ومن أنني ـ رغم نيتي الحسنة ـ سوف أرتكب أخطاء لا مثيل لها ، ومن أن أصبح غير جدير بالثقة، وبالتالي أفقد الحق في ممارسة الرئاسة) .
لماذا نذهب إلى تشيكيا وفي عالمنا الإسلامي أمثلة لهذا النوع من التقاعد الحميد من السياسة. قلت ذات مرّة للبروفيسور غلام أعظم أمير الجماعة الإسلامية في بنجلاديش : قمتم بعمل فريد عندما تقاعدتم عن السياسة واعتزلتم قيادة الجماعة الإسلامية . رد الرجل بعد أن ارتسمت على ثغره ابتسامة : (نعم قررت التقاعد عن النشاط السياسي Pure Politics ، ولكني لم أتقاعد عن العمل الوطني والإسلامي. وما فعلته هو أنني تركت المجال لقيادات جديدة، على أن يقتصر إسهامي في العمل الفكري، وبالتحديد تدريب القيادات الجديدة في الجوانب الحركية والأخلاقية والروحية) . ومضى أمير الجماعة الإسلامية السابق يقول : (أنا مثَلي في ذلك مثل شخص أنشأ مصنعاً وأداره، وحرص على أن يرى أبناءه يديرون المصنع ويتقدمون للمستقبل ، مقدماً ما يرى من المشورة والخبرة ، وعندئذ يشعر بالاطمئنان على هذا المستقبل) .
وقابلت بعد ذلك أمير الجماعة الإسلامية الحالي في بنجلاديش مولانا مطيع الرحمن ـ فك الله أسره ـ وذكرت له ما سمعت من سلفه مستفسراً إن كان سيتبع نفس النهج ويعيد الأمانة إلى أهلها عند انقضاء رئاسته؟ وكان رد الأمير : هذه قاعدة أرساها أول أمير للجماعة الإسلامية في باكستان الشيخ أبو الأعلى المودودي .
وقرأت مرّة لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص مقالاً يذكر فيه أن السياسة أضحت في حياته من الماضي الذي طوى صفحته إلى غير رجعة. ورسم الرئيس الحص خطاً فاصلاً بين العمل الوطني والعمل السياسي أو بدقة أكثر الاحتراف السياسي ، فالعمل السياسي هادف للوصول إلى موقع سياسي ، مقعد نيابي أو موقع رئاسي أو منصب وزاري ، إذا لم يكن هذا هدفك ، فأنت لست محترفاً للسياسة. أما العمل الوطني المجرد ، فهو ذلك الذي ينأى عن أي مأرب سياسي ، ويرمي فقط إلى المشاركة في الساحة السياسية بالرأي والفكر وإبراز الثوابت الوطنية.
والملاحظ أن الزعماء الذين تقاعدوا عن السياسة البحتة ظلوا حاضرين في السياسة ، بل اكتسبوا مكانة خاصة في قلوب مواطنيهم وبقوا مصدر حكمة وإلهام وأثر ، في حين أن التشبث بالموقع ربما صار سبباً لإعاقة السياسي عن بلوغ هدفه أو حتى فقدان مكانته السياسية في قلوب أتباعه وبني وطنه.
والأمثلة كثيرة على هؤلاء وهؤلاء ، ونكتفي بمثالين ظاهرين جدا في تاريخنا ؛ الشيخ محمد عبده الذي ابتعد في سنواته الأخيرة عن النشاط السياسي ، وكان ذلك سبباً في توهج شخصيته وارتباط الناس به ، بل في تأثيره غير المباشر في السياسة ، حتى ليقال إن رئيس الحكومة البريطانية والخديوي ما كانا يبرمان أمراً يخص مصر دون الرجوع إلى (الإمام).
ونختم بالزعيم التركي نجم الدين أربكان ونترحم عليه ، فقد ظل متشبثاً بالنشاط السياسي حتى آخر عمره . والرجل كان لا يستطيع أن يمشي أو يقف بمفرده ، وكان معه رفيقان يسندانه ، ومع ذلك جاب المدن التركية وخطب في الجماهير ساعات طويلة يدعو لحزبه حزب السعادة ، ولا يتوانى من كيل الانتقادات القاسية والجارحة لتلاميذه في الدولة التركية .
وواجب الاحترام للزعيم أربكان ولكل (أربكاني) في هذا البلد ، فهم كبارنا وقدموا الكثير من جهدهم وفكرهم ، ويزيد احترامنا لمن يتخلى عن كرسيه وهو (صحيح شحيح) .
osman abuzaid [osman.abuzaid@gmail.com]