بن لادن: ثقوب في جدار الرواية

 


 

 



MOHAMED MUSA GUBARA [mmusa25@hotmail.com]
في نهاية المطاف لا يكون المرء إلا قَدَرَه، وقد كان قدر أسامة بن لادن ابن الأسرة الموسرة أن يعيش حياته طريدا للقوة التي استدرجته بادئ الأمر ليصبح جهاديا في بلد يبعد عن موطنه آلاف الكيلومترات، ثم تُلقي القبض عليه حيا في بيت ريفي في ضاحية ابوت اباد بالقرب من العاصمة الباكستانية، ليصبح مصيره مجهولا كلحظات حياته الأخيرة...
أمه الزوجة العاشرة لمحمد عوض بن لادن رجل الإنشاءات السعودي المعروف...
الولد الوحيد لبن لادن من تلك الزيجة إذ لا يُعرف له أخوان من ذات الأم والأب...طلّق والده أمه وهو طفل صغير ومات عنه في حادث طائرة ولم يتجاوز الصبي العاشرة من عمره...
مأساة مركّبة تلحق بذلك الفتى الصغير الذي نشأ في بيت زوج أمه في جدة ونال تعليمه الأولي في مدرسة الثغر النموذجية، والعالي بجامعة الملك عبد العزيز...
”كان خجولا محبا لأصدقائه" حسب وصف زميله وجاره في السكن وقتذاك د. خالد باطرفي...بل كان لا يحب العنف ويجنح للسلم حسب رواية ذات الصديق الذي ذكر إن مشادة حدثت بين أسامة وأحد لاعبي حي بني مالك، تدخّل باطرفي لنجدة أسامة ودفع الخصم وابعده عنه...عاتبه أسامة على تدخله العنيف بقوله: "كنت سأحل هذا الإشكال دون اللجوء إلى العنف"...
في 27 ابريل 1978 قاد نور محمد تراقي سكرتير الحزب الشيوعي الأفغاني انقلابا على داود خان الذي كان قد اطاح في وقت سابق بالملك محمد زافر شاه...تبع ذلك عدة انشقاقات وتصفيات داخل الحزب الشيوعي الأفغاني مما أدى في نهاية المطاف إلى تدخل السوفييت لمساندة انقلاب بابراك كارمال على حفيظ الله أمين بموجب اتفاقية صداقة مع افغانستان تم توقيعها في ديسمبر 1978...السوفييت كانوا يبحثون منذ القِدَم عن موطئ قدم يقودهم شرقا إلى مياه دافئة تجنبهم زمهرير الشتاء الروسي...
المخابرات الأمريكية المنهزمة في حرب فيتنام وجدت الفرصة سانحة لتمريق انف السوفييت في الوحل كما حدث لها في فيتنام، لكنها لم تشأ أن تدخل في مواجهة مع ذلك المارد العملاق في بلد لم يستنجد بها مما قد يقود إلى حرب نووية تجنَّب العملاقان الاندفاع نحو هاويتها منذ رؤيتهما لحجم الدمار الذي حدث في هيروشيما وناجازاكي...
حسب رواية روبرتس غيتس مدير المخابرات المركزية وقتذاك ووزير الدفاع الأمريكي الحالي في مذكراته، فإن تدخُّل أمريكا السري في الشأن الأفغاني ودعمها للمعارضة بدأ قبل ستة أشهر من دخول السوفييت افغانستان...وقد أكد تلك الرواية زبغنيو بريزنسكي مستشار الأمن القومي على عهد الرئيس كارتر في لقاء مع المجلة الفرنسية Le Nouvel Observateur في عددها الصادر في 15 يناير 1998 حيث ذكر بأن الحقيقة التي لم يتم نشرها في ذلك الوقت هي أن الرئيس كارتر قد وقع على أول توجيه Directive بالدعم السري لمناهضي النظام الشيوعي في افغانستان في 3 يوليو 1979 بينما كان الغزو السوفيتي في 24 ديسمبر 1979. وقد ذكر إن الغرض من ذلك كان جر الاتحاد السوفييت إلى الفخ الأفغاني...ثم مضى في القول بانه كتب للرئيس كارتر يوم غزو السوفييت لأفغانستان بأن الفرصة قد حانت لخلق حالة فيتنامية للاتحاد السوفيتي...We have now the opportunity of giving USSR its Vietnam War
ومن سخريات القدر أن أمريكا وقعت في نفس المستنقع الأفغاني الذي جرّت إليه الاتحاد السوفيتي في العام 1979 وما زالت تكافح على مدى عقد من الزمان للتخلص من ذات الفيروس الذي خلّقته في لانغلي بولاية فيرجينيا...
تفتقت عبقرية السي آي أيه ووجدت الحل في تأليب المسلمين على الشيوعيين الملاحدة الذين احتلوا بلدا إسلاميا...منظمة المؤتمر الإسلامي رفعت الأمر للجمعية العامة للأمم المتحدة فحاز الاقتراح 104 صوت مقابل 18 صوت كانت معظمها من الدول السائرة في فلك الاتحاد السوفيتي الذي اعترض على مناقشة الأمر في مجلس الأمن الدولي...
هل كان الأفغان يحتاجون تلك التعبئة الإسلامية لمحاربة السوفييت؟
صديق إسلامي عمل في منظمة طوعية هناك ذكر بأن الأفغان تعايشوا مع انقلاب حفيظ الله أمين فترة من الزمن، ولم يرفع أحدهم راية الجهاد إلا بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السوفييت وافغانستان في العام 1978 ودخول القوات السوفيتية في العام الذي تلاه استنادا على تلك الاتفاقية...
ذلك الصديق ذكر أن المسألة بالنسبة للأفغان لم تكن مسألة دينية، كانت مسألة اجتماعية في المقام الأول...فقد ارتكب نظام بابراك كارمال الذي أعدم حفيظ الله أمين غلطتين ألّبتا عليه القبائل الأفغانية المحافظة...
كانت الغلطة الأولى التي لم يغفرها الأفغاني العادي الذي يعيش في الأرياف هي تحرير المرأة وتغيير قوانين الأحوال الشخصية...فقد كان دون ذلك خرط القتاد في مجتمع يعيش ما قبل التاريخ...المرأة فيه متاع يمتلكه الرجل ويتصرف فيه كيفما اتفق...
وكانت الغلطة الثانية مصادرة اراضي كبار الملاك وتحويلها إلى تعاونيات للعمال الزراعيين المزدرَى بهم اجتماعيا والغاء ديون المزارعين...إلا أنهم لتخلفهم لم يقفوا إلى جانب من أراد أن يحررهم من ربقة الإقطاع فلبوا نداء الجهاد وانطبق عليهم الوصف الماركسي اللينيني: "البروليتارية الرثة التي لا تعرف مصالحها" واصبحوا وقودا في ماكينة السي آي أيه العسكرية...
والحقيقة التي لا بد من الإشارة إليها هنا، أن المجتمع الأفغاني لم يكن في أية درجة من درجات التطور تسمح بقيام مجتمع اشتراكي يقوده حزب شيوعي...لذا شكّل التخلف والدين العامل المشترك الأعظم في محاربة الوضع الذي تأزم بدخول السوفييت...
المخابرات الأمريكية المتحالفة مع المخابرات السعودية في هذه الحرب الجهادية كانت تحتاج لشخص ثقة يمرر مليارات الدولارات المجمّعة لنصرة المجاهدين في افغانستان...
كان مناخ المملكة العربية السعودية مشحونا حتى التشبع بالفكر الجهادي ومعاداة الشيوعية...فقد كانت تلك عقيدة استخبارات المملكة في ذلك الوقت لدرجة ابلسة كل ما هو متقدم أو ذي فكر غير سلفي...وظلت وسائل الإعلام تضلع بدور كبير في تأليب الرأي العام مستعينة بمعينات المخابرات الأمريكية في الدعاية المضادة للشيوعية، حتى استسلم الكثيرون لذلك الخدر وامتطوا صهوات الخيال إلى جنات تجري من تحتها الأنهار وحور عين مهرهن رصاصة شيوعية في جوف مجاهد تطير به شهيدا إلى جنات الخلد...
أسامة محمد عوض بن لادن لم يكن نشازا في ذلك اللحن الجنائزي، بل تميّز على أقرانه كونه ابن رجل ثري ويمكن أن يؤدي عملا لا يستطيع الآخرون إنجازه بالأمانة المطلوبة...فارغ العين مهما كان ادعائه بالإيمان لا يؤتمن على المال السائب، وقد كان مال الجهاد سائبا كمال الشعب السوداني في عهد الإنقاذ...
فكرة الجهاد في الأصل كانت فكرة المخابرات الأمريكية التي استغلت عبد الله عزام في نشرها بين الشباب المسلم...
باستثناء ثورة عمر المختار لم تُرفع راية جهاد في القرن العشرين على صارية أي من حركات التحرر الوطني في الفضاء العربي الإسلامي  ضد مستعمر أو معتدي غربي صليبيا كان أم شيوعيا أم وثنيا...كل تلك الحركات كانت حركات وطنية محض ولم يكن الإسلام جزءا من أدبياتها، بما في ذلك انفصال باكستان عن الهند في العام 1947...
المخابرات الأمريكية كان لها باع طويل في استغلال الموروث الحضاري للمجتمعات في حربها ضد الشيوعية...والحرب النفسية من أهم الأسلحة لدى المخابرات الأمريكية...
في العام 1954 صعد الشيخ الغبشاوي منبر الأنصار في جامع ود نوباوي وحذر في خطبة الجمعة من الانتماء للحزب الشيوعي السوداني، لأن الشيوعيين حسب قوله "ملحدون ويتزوجون أمهاتهم وأخواتهم"...
هذا المفهوم لم يكن ضمن أدب الاختلاف السياسي السوداني المعروف وقتذاك وقد كان صادما للوجدان السوداني السليم، لذا تصدى له من هو أعرف بالسودان والمجتمع السوداني، ولم يكن ذلك الشخص سوى الأمام عبد الرحمن المهدي الذي أعتلى منبر الجمعة التي تلت ونبه انصاره بأن الشيوعيين "ابناء وبنات هذه البلاد، إنهم ابناؤنا وما يقال عنهم كيد سياسي"...
كشفت المعلومات لاحقا إن هذه الفرية كانت صناعة أمريكية لقنتها السي آي أيه لحركة الإخوان المسلمين في حربها ضد الشيوعية، وكذا كان الأمر في حادثة معهد المعلمين العالي...
اشياء مماثلة حدثت في الهند الصينية حسبما اورد الآن غيران في كتابه "رجالات السي آي أيه" Alen Guerin "Les gens de la CIA" من معلومات ثرية عن استغلال وكالة المخابرات الأمريكية للموروث المحلي في حربها على الثوار في فيتنام وكمبوديا ولاوس حيث استغلت الأسطورة في تنفير الشعب من اللون الأحمر الذي يتماهى في ثقافات تلك الشعوب مع حال الزوج المخدوع...
إلى وقت قريب وقر في عقلي أن سياسيي الولايات المتحدة بصورة خاصة والغربيين على وجه العموم يملكون عقول منظمة سياسيا ترقى لمستوى التقنية التي وصلت إليها دول الغرب وأمريكا...غير أن تداعيات الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط وردّة فعل الغرب حيالها أثارت كثيرا من الشكوك حول تلك القدرات المفترضة في رجل السياسة الغربي...
قوة خاصة مدربة تدريب عالي، تدخل مخدع رجل مطلوب للاستخبارات لما يزيد على العقد من الزمان وتجده غير مسلح ولا يستطيع الوصول إلى سلاح يدافع به عن نفسه بل تدعي إنه احتمى بزوجته التي اصيبت في رجلها وليس في صدرها وهي تحمى بعلها...رغم ذلك يقولون إنهم قتلوه!!
ثم ماذا؟ يقتلون الرجل الذي يعتبر كنز معلومات في حد ذاته ثم يبحثون عن تلك المعلومات لدى زوجاته ربات الخدور المعتقلات لدى المخابرات الباكستانية!!!...
هل هذا غباء أم استغباء لعقل العالم بأجمعه؟
بن لادن كان يتمنى أن لا يكون اسيرا لديهم، وهم يعرفون هذه الحقيقة، لماذا إذن يحققون له مراده بالموت شهيدا إذا كانوا بالحق قد قتلوه؟
ثم لماذا رميه في البحر إن لم يكن في الأمر إنّة ونحن نعرف قدرة المخابرات الأمريكية في إخفاء الحقائق في باطن الأرض بما في ذلك جثة عدوهم اللدود المناضل ارنستو تشي جيفارا؟ كانت الفرية أنهم لا يريدون أن يكون مرقده مزارا لأتباعه...
بن لادن يتبع السلفية الجهادية وهم يعرفون جيدا أن هذه الفئة من المسلمين لا تؤمن بزيارة القبور أيا كان مقام الشخص الذي يحتضنه ذلك القبر...
المخابرات الأمريكية تعرف أيضا أن بحر عمان به من الحيتان ما يمحي من الوجود أي أثر للشخص الذي تم رميه فيه أيا كان الـ DNA الذي تم تعريفه به...علما بأن الـ DNA يثبت هوية الشخص في حال تطابقه مع العينة الأصلية المأخوذة من الشخص نفسه، ولم نسمع من قبل أن لدى المخابرات الأمريكية عينة من DNA أسامة بن لادن، بل هي عينة مأخوذة من أخوته أو أقربائه، وهذا يعني أن الشخص الذي تم القبض عليه في ابوت اباد ينتمي إلى شجرة عائلة بن لادن لكنه لا يُحدد أو يجزم بأن ذلك الشخص هو أسامة محمد عوض بن لادن أم حمزة ابن اسامة بن لادن الذي لا ندري أين دُفن، أم أي ورقة من غصون شجرة تلك العائلة...لهذا السبب لم تكتف الاستخبارات الامريكية بالـ DNA وحده بل لجأت لقياس الجثة لتحديد طول الرجل الذي قالت إن وجهه كان مشوّها بصورة بشعة بحيث لا يمكن النظر إليه ناهيك عن معرفة صاحبه...
ألم تكن صورة الشيخ ياسين التي بثتها الفضائيات الأمريكية مشوهة لدرجة تثير الغثيان؟
ثم تكر مسبحة الكذب لنكتشف أن الرجل الذي قالوا أنهم قتلوه لأنه لم يعد الموجِّه لعمليات القاعدة، يخزّن بمنزله كنز من معلومات تثبت أنه ما زال يدير أعمال القاعدة من مخدعه ذاك وبصورة يومية...
هل يمكن أن يكون رجل بهذا القدر من الخطورة على تلك الدرجة من السذاجة التي تجعله يحتفظ في ذات المكان الذي يتواجد فيه بكل تلك المعلومات التي ذكرتها الاستخبارات الأمريكية؟
أخذ هذا الأمر إلى نهايته المنطقية سيؤكد بأن العمل المتقن الذي تم في 11 سبتمبر 2001 ليس من صنع شخص بهذا القدر من السذاجة...
هل كان الرجل الذي وجد في ذلك المنزل هو اسامة بن لادن؟ قد يكون الجواب نعم، استنتاجا من نعي تنظيم القاعدة له...قيادة القاعدة بلا شك تعرف مكان وجود بن لادن...
لكن هل تم قتله؟
ذلك أمر اشك فيه كثيرا لأنه يقدح في سمعة السي آيه أي التي اصبحت تلهث بحثا عن حقائق كان من السهولة أن يزودهم بها لو تم القبض عليه حيا...
أسامة بن لادن ميتا الآن او بعد حين، لأنهم لن يجعلوه يخرج مرة أخرى إلى الوجود، قاده قدره من شارع فلسطين بجده إلى جبال افغانستان الوعرة حيث تخلى عنه رجل الاستخبارات السعودي الذي جنده لتلك المهمة التي لم تتعدى نقل الأموال، ثم إلى الاستثمار المضروب في وادي العقيق حيث تحالف المافيا والدين في السودان، وإلى طالبان وتورا بورا والمولا عمر، ومن ثمّ إلى تلك الفيلا بالقرب من اسلام اباد التي قيل أنه قد قُتل فيها وهو في حضن زوجته أمل السادة...
أمينا مع نفسه، صادقا مع مبدئه، ملتزما الطريق التي وجد نفسه فيها، لقد كان أسامة ضحية لعبة وضع أصولها الكبار ولم يستوعبها عقله البدوي المحدود...


18مايو 2011

 

آراء