شهادة للتاريخ: برزخ الصحو والغياب للمفكر الكبير!

 


 

يحي العوض
26 June, 2011

 


فى ستينيات القرن الماضى ,زارنى  صديق عزيز فى مكتبى  بجريدة "السودان الجديد" وابلغنى بانه تم ترشيحى لعمل انسانى  يتطلب  بعض التضحية لما يتضمنه من مخاطر !. مؤكدا: لولا ثقتنا ومواقفك المؤازة للقضايا التى  ندافع  عنها ,  لما تم اختيارك لهذه المهمة وفى كل الاحوال ,لك حق الرفض ,ولن يؤثر هذا فى علاقتنا بك !  واشعلت هذه المقدمة الغامضة , كل قرون الاستشعار الصحافية  وغرائز الاثارة  المتجزرة   فى مهنة "فردوس الحمقى ", لمعرفة هذه المهمة. ومضات من الاحتمالات , تتابعت فى ذهنى  , واجبته بحماس , تأكد بانى ساكون عند حسن ظنكم, ويسعدنى ويشرفنى  القيام  بواجب تكلفونى به , تكفى تضحياتكم من اجل الوطن , لا احد يستطيع المزايدة  على مواقفكم .. تنهد  وقال هامسا : تعرف (فلان) ومكانته  بيننا.. واجبته وهل يوجد من لا يعرفه على امتداد الوطن كله .؟  وحدق  فى عينى مليا وقال : قد لاتعرف ظروف الاختفاء  فهى اقسى من الاعتقال , يرافقك الشك والحذر المميت حتى من همس الريح على باب او نافذة غرفتك !  واستطرد قائلا: اطمئن  , صديقنا مختبىء فى مكان آمن  , لكن من  تجاربنا وتقاليدنا , اتاحة  مساحة محدودة  للقياديين  "المختفين ",  لمتابعة  الانشطة  الثقافية والفكرية والفنية  , لمحو صدأ  وعتمة  العزلة  , وهناك محاذير من  خروجهم بمفردهم , لا بد من  صحبة موثوق بها وغير مشبوهة أمنيا  , ترافقهم احيانا الى دور الرياضة و المسرح والسينما , وصاحبنا من عشاق المسرح والسينما  خاصة , بالطبع الامر لا يخلو من مخاطرة , لو كانت هناك متابعة وتم اعتقالكم  معا , بالتأكيد انهم سيعتبرونك صيدا ثمينا لانتزاع معلومات  عن اماكن اختفاء  قيادات اخرى,  ومايسمونه  اوكار الحزب واجهزته السرية !
وبدون تردد وافقت , ممتنا لاختيارى لهذه الرفقة الغالية وهذه الثقة التى حظيت بها , وطافت بخاطرى عدة   مشاهد  تدعم  اسباب  اختيارى, فقد كنت وبحق قريبا منهم فى الرؤية الكلية لقضايا بلادنا ,وتحالفنا سويا عبر كوادرهم الاعلامية فى انتخابات اتحاد الصحافة ونقابة الصحفيين, وفزت بدورتين فى انتخابات النقابة واخترت امينا عاما ونائبا للامين العام للاتحاد , بفضل التنسيق والتحالف معهم ,واذكر من الاصدقاء الأعزاء  من الاعلاميين : الاساتذة , الدكتور الطاهر عبد الباسط , التيجانى الطيب , عمر مصطفى المكى , احمد على بقادى ,  سمير جرجس , عبد الله عبيد , عبد الرحمن أحمد , ميرغنى حسن على , كمال الجزولى , مكى عبد القادر , الشيخ عووضة  وعوض برير, صديقهم وصديقى ,اضافة  الى  ذلك بجانب  شغلى  لموقع  سكرتير تحرير "السودان الجديد" , كنت فى الوقت نفسه مراسلا لوكالتى انباء" تاس" السوفيتية و "أ.د.ن " وكالة  انباء جمهورية المانيا الديمقراطية ,  وكنت منبهرا بشخصية الرجل, والذى ستمكنى صحبته  للاقتراب منه والاستفادة القصوى من تنوع معرفته ,فله  كتب وتراجم  لمؤلفات احتفت بها المكتبات,داخل وخارج السودان ,  وشكل ثنائيا مع الاستاذ هنرى رياض  وترجما معا  كتاب " الاولياء الصالحون والمهدية فى السودان ", تأليف ب. م . هولت وكذلك عدة كتب مرجعية كتبها بالانجليزية الاستاذ محمد عمر بشير , من بينها  كتاب " مشكلة جنوب السودان " و كتاب " التعليم ومشكلة العمالة فى السودان ", كما تعرف جيلنا  على المفكر الايطالى انطونيو قرامشى , مبدع مصطلح , المثقف العضوى ,عبر ترجمته  لكتابه "الماركسية  والفكر"  وله اسهامات ثرة فى معظم  قضايانا  الفكرية والثقافية ,تتسم بالرصانة  والعمق , مما أهله ليكون الرجل الثانى فكرا بعد الأمين العام,.ويسميه  الرفاق "سوسلوف الحزب ", تشبيها بالفيلسوف السوفيتى الشهير . وواصل  الصديق حسن شمت, عضو  اللجنة المركزية ,  حديثه موصيا : عندما تذهب معه  الى السينما والمسرح ودور الرياضة تجنب الدرجات الاولى ,حتى لاتلتقى بمن يعرفك ويعرفه , وليكن خيارك  المقاعد والمساطب الشعبية , وان يكون دخول  دور السينما والمسرح بعد اطفاء  الانوار  والخروج  قبل اضاءتها عند النهاية, وكذلك  فى دور الرياضة , الدخول بعد بداية المباريات والخروج قبل  نهايتها ! وسوف نوصله اليك حتى سيارتك ,وكذلك سنعيده الى مكان  اقامته  بطريقتنا , وحدد الاماكن التى سنلتقى فيها ..
وكانت سعادتى لا حدود لها فى اللقاء  الأول معه ,  الأستاذ الجنيد على عمر , فى مرحلة كمال الصحو , ومرافقته عند تخوم الغياب والمواقف التى لم استوعبها عندئذ ونحن فى أفق البرزخ الفاصل . وترددت طوال هذه السنوات من مقاربة هذه الذكريات واقتنعت اخيرا وبالحاح  بعض الاصدقاء الاعزاء, فتح هذه الصفحة الحزينة ,وهدفى شهادة للتاريخ , خاصة وهناك من ظلموا بانهم كانوا وراء هذه المأساة الانسانية .! كنت مزهوا بهذه  الثقة و الصحبة ,رغم الخواطر والهوجس التى نازعتنى , ونحن آنذاك, فى عهد رجل الأمن الفريق احمد عبد الله  أبارو   !                                                                    وكان فيلمنا الاول" شمس ساطعة "بسينما النيل الازرق  للممثل  الفرنسى ألن ديلون . وتتابعت اللقاءات والذهاب الى دور العرض المختلفة , واحيانا تمتد جلساتنا , فى حوارات  هادئة  فى الاركان المظلمة بحدائق" افريكانا ", شرق الخرطوم . وتعمدت فى لقاءاتنا , تجنب الحديث  فى شؤون حزبه ,وكنت اعلم معارضته  لقرار المشاركة فى انتخابات المجلس المركزى , وهو مشروع بادر به نظام الفريق عبود فى مطلع الستينيات , بزعم انه يمهد لانفراج ديمقراطى , كما قام الرئيس عبود  بزيارة الى موسكو  , ورد الزيارة ليونيد بريجنيف الامين العام للحزب الشيوعى السوفيتى ,واعلن عن انشاء مصانع سوفيتية فى السودان ,تتضمن مصانع  لتعليب الفاكهة والخضروات  وصوامع للغلال . وكان التيار الغالب فى الحزب الشيوعى يرى دعم  هذا التوجه , مستشهدا  بمساندة  فلاديمير لينين  لانتخابات  برلمان "الدوما" قبل نجاح الثورة البلشفية .
وأسأله , الاستاذ الجنيد على عمر , هل  يشهد  جيلنا  قيام نظام اشتراكى فى السودان ؟ ويجيبنى ضاحكا : سئل الفنان النعام ادم فى برنامج " من ربوع السودان",  عن عدد اغنياته ,واجاب على الفور ... "عييك " ! وهو تعبير بالعامية السودانية لرقم او تصور غير محدود , وواصل  بسخريته  اللازعة  مع ضحكاته  الخافتة  المتقطعة  :الأ ستاذ ابراهيم جبريل ,
المتميز  بلهجته المصرية ,عضو المكتب السياسى للاتحادى الديمقراطى, اكبر احزاب الوسط فى السودان , قال للرئيس اسماعيل الازهرى : ياريس كلمة الاشتراكية كثيرة فى برنامج الحزب , دول ياريس ياخدوا اللقمة من البق ! ويضيف  من اكبر اخطاء المثقفين المنتمين لاحزاب عقائدية ,الاعتقاد بان الصراع الدائر فى واقعهم يطابق مائة  فى المائة النصوص التى  تضمنتها  مرجعياتهم  من الكتب  , أو  بعبارة  أخرى "التضخم الايديولجى والبؤس المعرفى ."! .. كان شديد الحماس لدور المثقف العضوى فى مجتمعه , ويتحدث عنه باستفاضة .. .        ونواصل   معه , فى  برزخ   الصحو  وما قبل الغياب !
yahyaalawad@hotmail.com

 

آراء