المسلك المأفون للنَيَّل أبي قرون
د. محمد وقيع الله
12 July, 2011
12 July, 2011
كنت في أواسط سبعينيات القرن الماضي أرتاد مكتبة كلية القانون بجامعة الخرطوم، وكنت آتيها خصيصا لأطالع أعداد صحيفة (الشِّهاب) الأسبوعية التي كان يصدرها من لبنان سيدنا الإمام فتحي يكن، رحمه الله، ويكتب فيها سيدنا الأستاذ إبراهيم المصري، حفظه الله، وسيدنا الإمام فيصل مولوي، الذي بارح دنيانا الأسبوع الماضي، رحمه الله.
وهنالك كنت أرى شخصا ذا أطوار غرائب، فقد كان يطيل شعره بجدائل تكاد تصل إلى منتصف ظهره، ويُجيل كحلا كثيفا على مقلتيه، ويتعطر بروائح قوية نفاذة، ثم يدلف ليؤدي صلواته بمصلى كلية القانون - الذي ما أدري إن كان قائما أم زال - بحذائيه النظيفين اللامعين جدا على غير الظاهر من سائر أحذية الناس بخرطوم ذلك العهد.
ومع ذلك الشخص تابع يقتفي أثره حذو القذة بالقذة، يبدو أنه مريد له أو حواري أو عضو في جماعة تنظيمية باطنية مبتدعة تحت الإنشاء.
وذات يوم زارنا هذان الشخصان المريبان المتربصان بجامعة ام درمان الإسلامية الزاهرة، وأرادا اقتحام المصلى الذي كان قائما قريبا من كلية الشريعة بحي العرضة، فاعترضهما سيدنا الدكتور العالم الداعية الغيور الشيخ بشير محمد بشير، رحمه الله، وصدهما صدا عنيفا عن الدخول بهيئتهما المصطنعة المتكلفة تلك، وأبطل تذرعهما الذي أشهراه وتعللهما الباطل القائل بأن تلك هي السنة النبوية المشرفة، التي وجهت المسلم أن يصلي في نعاله.
فقد قال صلى الله عليه وسلم :" صلوا في نِعالكم فإن اليهود لا يصلون في نعالهم" .
وقال صلى الله عليه وسلم:" صلوا في نِعالكم ولا تشبَّهوا باليهود".
وقد واجههما الشيخ الدكتور بشير بمنطق سديد قائلا لهما: إن السنة النبوية المشرفة تطبق تطبيقا صحيحا بتعقل ووعي وإخلاص ونظر فاحص رشيد إلى واقع الحال المعيش.
وبهذا النظر يمكن القول إن المسجد النبوي الذي أمر المسلمون أن يصلوا فيه بنِعالهم لم يكن مفروشا بالسجاد الذي يتعذر تنظيفه إذا اتسخ، وإنما كانت أرضه حصى يسهل كنسه وتنظيفه في دقائق معدودات.
وبحجة العالم الحجة الثقة انقهر المبتدع الضال النيل أبو قرون وانكسر صلفه وصلف حواريه، وخنسا وتقهقرا، وقهقه الناس وسخروا منهما، ومضيا مدحورين مخذولين.
وكانت مواجهة حامية وكسفة خطيرة ربما لم يتطاول ذلك الداعية المضلل وتابعه أو يتنطعا بعدها في استخدام حجتهما الداحضة تلك في التسنن بهذا الوجه الذي يغيظ جمهور العامة ولا يستطيعون مقارعته الحجة بالحجة.
وقد سبب لي موقف هذا الشخص الضال المتحذلق وسبب للكثيرين شديد الغيظ الكظيم، ولكنه كان يجابه الناس بأنه ليس بمبتدع وأنه متبع لا يأتي إلا ما ورد به نص صحيح من السنة النبوية، حيث ثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يطيل ذوائبه، وثبتت عنه صلى الله عليه وسلم سنة الكحل، وثبت وذاع أمر حبه صلى الله عليه وسلم للطيب.
وكان بعض من يتجرأون على الرد عليه يجابهونه ساخرين: ألم تجد في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما تتبعه إلا هذه المسائل الثلاث التي راقتك من قضايا الزينة والتجمل، ولم تعجبك غيرها من سنن الرجولة والفحولة التي رصدتها ذات الكتب التي وجدت بها هذه السنن؟
ولم تجد من سنن الصلاة وآدابها ما تتبعه إلا الأمر بالصلاة في النِعال، لتضايق بذلك جمهرة أهل المساجد وتستفزهم؟!
وربما لم يكن ذلك النقد مقنعا تماما،على الرغم من اعتماده على منطق صائب، وانطوائه على رأي ذي قيمة ملحوظة.
ومضى ثلث قرن أو نحو ذلك إلى أن وقفت أخيرا على رد فقهي مؤصل على مثل هذه الحذلقات والتخرصات التي بدأ بها المدعو النيل أبو قرون سبيل انحرافه عن مقررات المذهب المالكي ومُتَبنَيَات منهج أهل السنة والجماعة، حتى صبأ إلى مذهب أهل الخبث الروافض، ووظف نفسه لديهم واجتهد في نشر بدعهم وهرطقاتهم بالبلاد.
فقد حكى الشيخ الإمام المالكي الصوفي المغربي عبد الله بن محمد العياشي، في كتابه (الرحلة العياشية) من الفوائد الفقهية الكثيرة التي ذكرها في سياق معلوماته ومشاهداته وتأملاته أثناء رحلته إلى الحج في القرن الحادي عشر الهجري، أن أحد فقراء المالكية المغاربة وصل إلى الشام، ودخل قرية من قرى أهل السنة والجماعة، فلما قام إلى الصلاة رأوه سادلا يديه فظنوا أنه رافضي خبيث، لأن الرفضة تسدل في الصلاة، فقال لهم إني سني مالكي وتبرأ من بدعة الرفض فلم يصدقوا دعواه.
وقالوا له كذبت فليس أحد المالكية ولا أحد من أهل السنة والجماعة يسدل في صلاته، وإنما هذا فعل الروافض، قبحهم الله، وهموا به ليؤذوه ويبطشوا به، وما نجاه منهم إلا رجل منهم ذهبوا إليه به، وكان عالما بمذهب سيدنا الإمام مالك وما فيه من السدل.
وقد عقب الإمام العياشي على القصة، فقال:" فانظر إلى هذه الحيرة التي ألقى فيها هذا المسكين نفسه، فلو أنه إذا أفضت به الحال إلى هذه البلاد التي صار مذهبه فيها غريبا لا يعرف، ترك ما يُشين عرضه، ويؤدي إلى حصول الضرر له في بدنه، مع أنه لا ضرر عليه في دينه، لسلم وسلم غيره من إساءة الظن به.
كيف وقد جوَّز كثير من الأئمة ترك كثير من السنن التي صارت شعارا للمبتدعة، بل استحبوا تركها لأنا نهينا عن التشبه بأهل الأهواء والبدع، فكما كره بعضهم لبس الخاتم في هذه الأزمنة لكونه من شعار أهل المجون مع أنه سنة ثابتة قولا وفعلا، وكرهوا تطويل اللحية وإعفائها فوق المعتاد لأنه شعار الوهبيبة كما قال الشيخ زروق، مع أن إعفاءها قد قيل بوجوبه. فليكن السدل أيضا كذلك مكروها في البلاد التي صار فيها شعار الروافض، مع ان خلافه الذي هو القبض ثابت أيضا في السنة قولا وفعلا لثبوت الأرسال وأزيد ".
فمن هذا النص الثمين المطمور في كتاب من كتب أدب الرحلات، اطمأن قلبي إلى الإجراء الحاسم الذي اتخذه شيخنا الفقيه الدكتور بشير محمد بشير، وكفت على قبره مزن الغفران.
وقد بقيت مذ وقعت تلك المواجهة العنيفة بين الفقيه الصوفي السني العابد الشيخ بشير محمد بشير، وبين هذا الصوفي المبتدع الضال النيل أبي قرون، أحمل في قلبي شكا مترددا حول مدى سداد الفقه المقاوم الذي اتبعه الشيخ السني العابد البشير.
كما ظل بعض الحرج يرادوني حول جواز التغاضي عن الحجة التي أشهرها الصوفي المبتدع والرافضي الضال المضل النيل أبو قرون، والقائلة بأنه ما جاء إلا بما روي من السنن الصحاح عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فهذا القول الحصيف الذي سجله هذا الإمام المالكي الصوفي الفقيه المجتهد، عبد الله بن محمد العياشي، هو أفضل الحجج التي يمكن استخدامها لتقويض دعاوى المتحذلقة، من عشاق المخالفة والظهور والتعالي على الناس، من أمثال النيل أبي قرون وأشباه وأتباع وأشياع له من المتفيقهين المتشيعين.
والحمد لله أنه قد اعتزل وقبيله مساجدنا فلا يقربها ولا يقربونها بحذاء ولا بحفاء، وذلك منذ أن اتبعوا مذاهب الرافضة الذين يسبون أبابكر وعمر وعثمان، ويقولون قولا منكرا في القرآن.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]