البحث عن الحرية: عرض وتقديم زعيمة المعارضة البورماوية أونج سان سو تشي
رئيس التحرير: طارق الجزولي
20 July, 2011
20 July, 2011
ترجمة: غانم سليمان غانم
G.Ghanim@hotmail.com
أن أتحدث إليكم الآن عبر تلفزيون البي بي سي له معني خاص بالنسبة لي. إنه يعنى مرة أخري إنني رسميا إنسانة حرة، بينما فى واقع الأمر إنني نظاميا لست بحرة. هذا يعنى القول إنني عندما كنت فى الاعتقال التحفظي فى المنزل كان تلفزيون البي بي سى هو الذي يحادثني وقد استمعت إليه. وبالطبع فإن الاستماع يعطيني نوعا من الحرية: حرية الوصول إلي عقول الآخرين. علي كل، الاستماع ليس مثل الحوار الحضوري المتبادل ولكنه نوع من التواصل الإنساني. إن حرية القيام بالاتصال بالأشخاص الآخرين الذين ترغب فى أن تتبادل معهم أفكارك وآمالك وضحكاتك وفى بعض الأوقات حتى غضبك وسخطك حق يجب أن لا يتم انتهاكه علي الإطلاق. وبالرغم من ذلك، إنني لا استطيع التواجد معكم شخصيا اليوم وإنني سعيدة بهذه السانحة لأنها مكنتني من القيام بممارسة حقي الإنساني للتواصل معكم بتبادل أفكاري معكم فيما يتعلق بمعنى الحرية بالنسبة لي والآخرين علي نطاق العالم والذين هم فى وضع سيء بما يمكن أن أصفه بانعدام الحرية.
إن أول سيرة ذاتية قرأتها، كانت لمحاسن الصدف أو للعناية الإلهية أو لكليهما معا، هي:"سبع سنوات العزلة" التي كتبتها امرأة بلغارية كانت منشقة من الجناح المعارض في الحزب الشيوعي فى الخمسينيات من القرن العشرين. وقتها كنت أنا فى الثالثة عشر من عمري ولقد أثار ذلك الكتاب مشاعري بسبب تصميم وإرادة وعبقرية امرأة وحيدة استطاعت جعل ذهنها متوقدا وروحها وثابة طوال السنوات التي كانت إمكانية التواصل الإنساني الوحيدة المتاحة لها تتم فقط عبر الرجال الذين كانت مهمتهم الرئيسية هي تحطيمها وإذلالها.
إن أحد المتطلبات الأساسية بالنسبة لأولئك الذين يقررون الاشتغال بالمعارضة هي أن يكونوا مستعدين للحرمان. وفى واقع الأمر، إن الحرمان يمثل الجزء الأكبر فى حياة المعارضين. من هم أولئك الأشخاص الذي يختارون عن قصد السير فى طريق الحرمان؟ حدد عالم الاجتماع ماكس ويبر ثلاثة خصائص رئيسة ذات أهمية قصوى بالنسبة للسياسي وهي الإخلاص وروح المسئولية وروح التصالح والصدق مع النفس. ويفسر العالم ماكس ويبر الإخلاص بأنه الإخلاص والاهتمام بقضية سياسية معينة. إن الإخلاص مهم جدا بالنسبة لأولئك الذين يشتغلون بأخطر أنواع العمل السياسي ألا وهو المعارضة السياسية. يجب أن يكون الإخلاص نابعا من قلب وضمير كل فرد يتخذ قرارا، معلنا أو غير معلن، للعيش فى عالم بعيد عن بقية مواطنيه الآخرين. إنه عالم المعارضة الخطير الذي له قوانينه وأنظمته الخاصة غير المكتوبة.
لا توجد هناك علامات بارزة تميز مواطني هذا العالم الغريب. تعال فى أي يوم من أيام الأسبوع إلي المقر الرئيسي "للرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية (NLD)" وهي مظلة متواضعة ومتداعية للسقوط معدة لاستقبال العناصر الصلبة من أعضاء الحزب وقد تم وصفها كثيرا بأنها زريبة و حظيرة الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، وحيث أن هذا الوصف يتم عادة فى شكل مزحة فنحن لا ننزعج منه وفوق كل ذلك ألم تنطلق أكثر الحركات السياسة تأثيرا فى العالم من حظيرة أبقار؟
فى مكتبنا المتواضع والمزدحم تجد كل أصناف البشر العاديين ومن بينهم ذلك الرجل الكهل بشعره المتهدل غير الأنيق وهو صحفي مخضرم ومن رموز المعارضة والذي عندما تم الإفراج عنه بعد عشرين (20) سنة من الاعتقال ألف كتابا عن تجربته المريرة أسماه: "هل هذه جهنم البشر؟" وهو دائما يرتدي قميص السجن ذي اللون الأزرق حتى يحيى ذكري آلاف سجناء الضمير فى بورما. وتجد كذلك تلك المرآة الأنيقة المحترمة ذات الوجه الذي يخلو من علامات اليأس والقنوط وهي طبيبة قضت تسعة (9) سنوات فى المعتقل ومنذ الإفراج عنها قبل ثلاث سنوات وهي منخرطة فى المشاريع الاجتماعية والخدمات الإنسانية لحزبنا. كما تجد كذلك سيدات مسنات وظريفات فى الثمانينات من العمر وهن يأتين بانتظام وبشكل دائم إلى مكتبنا منذ سنة 1997م التي كانت احدي سنوات التسونامي بالنسبة لنا عندما ساقت موجة كبيرة من التسلط والقهر أعدادا كبيرة من ناشطينا الديمقراطيين إلى السجن.
فى احدي اجتماعات حزبنا، دعوت زوجات وأبناء وآباء أولئك المعتقلين من حزبنا للقيام بمظاهرة فيما يتعلق بمسألة الحريات لنظهر للطغمة العسكرية بأننا لن ننهزم وأن من بقي منا حرا سيأخذ الراية من أولئك الذين حرموا من حرياتهم بالاعتقال وكانت السيدات المسنات الظريفات من بين أولئك الشجعان الذين رفعوا الرايات وما زلن يمسكن بها بكل ثبات.
وستري كذلك فى مكتب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" نساءً ورجالا يطلق عليهم البورماويون "العمر الطيب" بما يعنى أنهم فى الأربعينيات والذين عندما انضموا لحركتنا كانوا فى العشرينات أو أواخر مرحلة المراهقة بوجوه طلقة وعيون مشعة ومتحمسين للقضية، وهم الآن هادئون وأكثر نضجا وأكثر تصميما وإرادة وقد صقلت المحاكمات التي واجهوها إخلاصهم، لا تسألهم هل سجنتم؟ بل أسألهم كم مرة سجنتم واعتقلتم؟
هناك العديد من الشباب الصغار لكنهم لم يكونوا صغارا فى حالات الاستجواب والاعتقال تشع وجوههم بالأمل وهم صبورون وأحرار من وهم الخداع والإضلال وهم يعرفون قضيتهم جيدا كما أنهم يرتدون قفازات التحدي بعيون مفتوحة للمستقبل. أسلحتهم تتمثل فى إيمانهم بقضيتهم ودروعهم الواقية تتمثل فى إخلاصهم وإخلاصنا. ما هو الإخلاص؟ وما هي القضية التي نحن مهتمون بها بإخلاص للمدى الذي نضحي مقابلها بمباهج الحياة؟ وبالرجوع إلي تعريف الرئيس التشيكوسلوفاكي السابق فاسيلاف هافيل المرتبط بالمهمة الأساس للمعارضين فإننا مهتمون بحماية حق الأفراد في ممارسة حياة حرة وكريمة. بعبارة أخري فإن اهتمامنا وقضيتنا الكبرى هي الحرية.
الاهتمام يعنى المعاناة وإنني يمكن أن أضيف أنه فى السياق السياسي وكذلك السياق الديني فهو يعنى المعاناة بالاختيار وهو قرار مقصود للامساك بالكوب بدلاً من أن نتركه ينسكب. إنه ليس قرارا سهل الاتخاذ، نحن لا نستمتع بالمعاناة. نحن لسنا مرضى نفسيين ولكن بسبب القيمة العالية التي نضعها بالنسبة لموضوع اهتمامنا فإننا نستطيع بعض الأحيان - رغما عنا – تحمل المعاناة.
فى عام 2003م كان هناك موكب سيارات ضخم يضم أعضاء ومناصرين للرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية رافقني فى جولة سياسية إلى مدينة "دابيان" وهي مدينة صغيرة فى شمال بورما، وقد تم محاصرة الموكب والهجوم عليه بواسطة مجموعة معتدين مجهولين يعتقد بأنهم كانوا يعملون بناء علي توجيهات وأوامر الطغمة العسكرية، وحتى هذا التاريخ لم يعرف مصير هؤلاء المعتدين ولكن نحن ضحاياهم تم وضعنا فى المعتقلات. وقد تم أخذى إلى سجن سيء السمعة، كما تم توقيفي لوحدي ولكن ينبغي علي الاعتراف بأنه تم التحفظ علىّ فى بيت صغير بعيدا عن زنازين السجناء الآخرين.
فى صبيحة أحد الأيام وبينما كنت أمارس تماريني الرياضية اليومية للمحافظة على لياقتي بأكبر قدر ممكن حيث أنه بحسب رأيي يجب أن تكون التمارين الرياضية احدي واجبات السجين السياسي وجدت نفس أفكر بأنني لست أنا!!! لأنني لم أكن استطيع المضي هادئة بهذا الشكل، وكان ينبغي لي أن أكون متقوقعة في سريري بحالة من الوهن ودماغي مشغول بمصير أولئك الأشخاص الذين كانوا فى رفقتي فى الجولة السياسية إلى دابيان. كم منهم تم ضربهم بقسوة؟ كم منهم تم أخذه بعيدا إلي آماكن لا أعرفها؟ كم منهم ماتوا؟ وماذا حدث لبقية جماهير الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية؟ ربما كنت جالسة علي السرير بسبب القلق والشك؟ هذه ليست أنا الموجودة هنا والتي تمارس الرياضة بحماس مثل أي رياضي متحمس للمحافظة علي لياقته.
فى ذلك الوقت لم أتذكر قصيدة الشاعرة الروسية الأوكرانية آنا أخمتوفا: "لا! هذه ليست أنا، هذا شخص آخر يعاني. لا يمكنني مواجهة ذلك إطلاقا وقد حدث كل ذلك". فقط لاحقا وفي منزلي وكنت وقتها فى الاعتقال التحفظي استرجعت هذه الأبيات من تلك القصيدة الملحمة وفى لحظة تذكر الأبيات شعرت وبإحساس قوي بالرابطة المتينة التي تجمعنا نحن الذين نمتلك مقدرات داخلية نتكئ عليها عندما نكون فى أمس الحاجة إلي قوة وثبات وتحمل.
الشعر عنصر توحيد كبير لا يعرف حدودا للمكان أو الزمان. يونتين، صاحب قميص السجن الأزرق، كان يستلهم قصيدة "المنتصر" للشاعر الفيكتوري ويليام ارنست هيلي لتحمل جلسات الاستجواب القاسية. هذه القصيدة كانت مصدر الهام لأبي ورفاقه خلال مرحلة كفاح الاستقلال، كما أنها كانت كذلك مصدر الهام لكثير من المناضلين فى سبيل الحرية فى أماكن أخرى وأزمنة أخرى. الكفاح والمعاناة والرأس الدامي غير المستسلم وحتى الموت كلها تضحيات من أجل الحرية.
ما هي هذه الحرية التي تمثل محور اهتمامنا؟ إن أكثر المعارضين المتحمسين لا يبالون كثيرا بالجانب النظري والأكاديمي للحرية. وإذا طلب منهم أن يفسروا ماذا تعني لهم تلك الكلمة فهم سيدلون بقائمة من الاهتمامات التي تشغل قلوبهم وعقولهم تتضمن مثلاً: أنه يجب أن لا يكون هناك سجين سياسي واحد بعد الآن، يجب أن تتاح حرية التعبير وحرية الاجتماع، يجب أن نختار الحكومة التي نريدها أو يقولون - بكل بساطة وإجماع كامل - يجب ان نكون قادرين علي انجاز ما نريد القيام به.
قد يبدو ذلك نوعا من السذاجة بل ربما سذاجة خطيرة ولكن كل هذه الإفادات تظهر جوهر الحرية باعتباره شيء ملموس يجب تحقيقه عبر الممارسة الفعلية وليس كمفهوم يتم إدراكه من خلال الجدل الفلسفي.
عندما يتم سؤالي بعد كل اعتقال تحفظي عن كيفية شعوري بالحرية؟ تكون إجابتي: لا أشعر بالفرق لأن عقلي كان حرا دائما. لقد تحدثت كثيرا عن الحرية الوجدانية التي تأتي من إتباع مسار منسجم مع ضمير الفرد. لقد حذر المفكر والفيلسوف البريطاني أشعياء برلين من إضفاء الذاتية علي الحرية وقد أوضح بأن: "الحرية الدينية أو الروحانية مثل الانتصار الأخلاقي يجب أن يتم تمييزها من كونها مجرد إحساس أولي بالحرية أو مجرد إحساس عادي بالانتصار وبخلاف ذلك فسيكون هناك خطر الالتباس بين النظرية وتبرير القهر والاضطهاد عند التطبيق باسم الحرية نفسها".
بكل تأكيد، هناك خطر قبول واعتبار الحرية الدينية كبديل مرضى لكافة أنواع الحريات الأخرى ويمكن أن يؤدي ذلك إلي الاستسلام والسلبية. ولكن الإحساس الوجداني بالحرية يمكن أن يعزز المحفز التطبيقي لمزيد من الحريات الأساسية المتمثلة فى حقوق الإنسان وحكم القانون. تعلمنا البوذية أن الحرية الكاملة هي الحرية والتخلص من جميع الرغبات. يمكن الجدال بناء علي ذلك بأن تعاليم بوذا منافية للحركات السياسية التي تناضل رغبة فى الحرية المتمثلة فى حقوق الإنسان والإصلاح السياسي. فعندما سار الرهبان البوذيين فى بورما فى مسيرة "أميتا" السلمية فى عام 2007م كانوا يتظاهرون ضد الارتفاع المفاجئ في أسعار المحروقات التي أدت إلى الارتفاع الكبير فى أسعار الأغذية وكانوا يستخدمون سلطتهم الروحية لتحقيق الحق الأساسي للناس فى الحصول علي غذاء بأسعار معقولة. إن الاعتقاد بالحرية الدينية ينبغي أن لا يعني عدم الاهتمام بالحاجة الضرورية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تعتبر بشكل عام ضرورية لأن يعيش البشر كبشر.
أحد حقوق الإنسان الأساسية الذي أقدره كثيرا هو الحرية من الخوف. منذ بدايات نشوء الحركة الديمقراطية فى بورما، لمسنا شعور الخوف الذي ينتشر فى عموم المجتمع البورماوي. زوار بورما الأجانب يلاحظون سريعا حرارة ودفء استقبال البورماويون لهم ولكنهم يعلقون بأسى بأن البورماويين بشكل عام يخافون من مناقشة المسائل السياسية. الخوف هو العدو الوحيد الذي يجب أن نتجاوزه عندما نستعد لمعركة الحرية، وهو فى الغالب يبقى إلى نهاية المعركة. قد لا تكون الحرية من الخوف كاملة، ولكن يجب ان تكون كافية لمساعدتنا فى السير والمضي قدما بالرغم من أن الخوف يتطلب شجاعة خارقة.
"لا، أنا لست خائفة، بعد استراحة عام من ليالي السجن هذى، سأهرب من الحزن والكآبة ولن أبين لك طريق الهرب. هذا ليس صحيحا، أنا خائفة يا حبيبي ولكن تظاهر بأنك لم تلاحظ ذلك". نعم، لقد جسدت قصيدة الشاعرة الروسية الرائعة ايرينا بوريسوفانا راتوشينسكايا الحياة اليومية بالنسبة للمعارضين فهم يتظاهرون بأنهم غير خائفين عند أدائهم لمهامهم ويتظاهرون بأنهم لا يرون رفاقهم يتظاهرون كذلك. هذا ليس نفاقا، هذه شجاعة يجب تجديدها باستمرار ومن يوم لآخر ومن لحظة لأخرى. هذا يبين كيفية خوض معركة الحرية إلي حين الحصول علي حق التحرر من الخوف المفروض بالممارسات القمعية الوحشية والقهر والإذلال.
إن الشاعرة آنا أخمتوفا والشاعرة ايرينا بوريسوفانا راتوشينسكايا روسيتان والشاعر ويليام ارنست هيلي انجليزي ولكن النضال للتحرر من القهر والاستبداد وقضية تحديد المرء لمصيره وتوجيه ذاته هي قضية عامة لكل الأجناس والشعوب.
إن التطلع الإنساني العالمي بأن نكون أحرارا جاءنا فى ديارنا بالتطورات والمستجدات الزاهية للثورة فى الشرق الأوسط. لقد هزت هذه الأحداث والتطورات البورماويين كما هزت الناس فى بقية أنحاء العالم. إن اهتمامنا بهذه التطورات والمستجدات كبير بسبب أوجه التماثل الملحوظ بين ثورة 10 ديسمبر 2010م فى تونس وانتفاضتنا فى عام 1988م، نظرا لأن كليهما اشتعلتا بما بدا فى ذلك الوقت أحداثا غير مهمة. لقد قدم بائع الخضار والفاكهة فى مدينة تونسية غير معروفة للعالم مثالا لا ينسى لأهمية حقوق الإنسان الأساسية. رجل واحد بسيط أظهر للعالم أن حقه فى الكرامة الإنسانية أكثر أهمية من حياته نفسها، وهذا أشعل الثورة فى تونس. وفى بورما، فإن الشجار الذي حدث فى مقهى فى رانجون بين طلاب جامعيين ورجال محليين وتم معالجته بواسطة الشرطة بطريقة جعلت الطلاب يشعرون بأن المعالجة غير منصفة أدي إلى إشعال المظاهرات التي نتجت فى موت الطالب بو ماو مما زاد لهيب الانتفاضة لتعم المظاهرات عموم البلاد ضد الاستبداد العسكري لحزب البرنامج الاشتراكي البور ماوي.
قالت لي صديقة ذات مرة أنها تعتقد أن القشة التي قصمت ظهر البعير أصبحت غير محتملة بسبب أن ذلك الحيوان شاهد نفسه فى المرآة ذات مرة وأدرك أن الحمولة التي يحملها فوق ظهره غير محتملة وأن انهياره كان بسبب رفضه تحمل تلك الحمولة الجائرة.
فى تونس وبورما كان استشهاد الشابين مثل المرآة التي جعلت الشعوب تدرك مدى أحمال الظلم والقهر والاستبداد غير المحتملة التي تحملوها. من الطبيعي أن يسعي الشباب لنيل الحرية. إن الرغبة فى نشر أجنحة التحرر والإنعتاق من الاستبداد رغبة قوية وغريزية. لم تكن مفاجأة بالنسبة لنا فى بورما أن الشباب هم طليعة الثورة التونسية. كما لم تكن مفاجأة بالنسبة لنا أن الثورة الشعبية انطلقت من أولئك الذين طالبوا بأن يقرروا بأنفسهم مصيرهم وشكل وجودهم.
فى بورما اليوم، الثوار الشباب هم فى طليعة الثورة وهم يمثلون تنظيما غير رسمي ملتزم بشدة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد سجن العديد منهم بعد انتفاضة سافرون التي فجرها الرهبان البوذيين، وهناك حوالي 15 منهم معتقلين اليوم. إن الحكومة البورماوية مثل الحكومة التونسية المطاحة غير راضية عن الشباب الثائر غير التقليدي، وهي تراهم عنصر خطر للنظام الذي تريد فرضه علي البلاد. وبالنسبة إلى أولئك الذين يؤمنون بالحرية فإن الثوار الشباب يمثلون المستقبل غير المقيد بالقوانين والأنظمة الاستبدادية المجحفة وغير المقيد بالظلم والقهر والاستبداد.
إن أوجه التماثل بين تونس وبورما هي نفس أوجه التماثل الذي يربط الناس الذين يتوقون للحرية علي نطاق العالم، وبالطبع توجد هناك أوجه اختلاف كذلك ويتمثل الاختلاف الأول فى أن الجيش التونسي لم يقم بإطلاق النار علي شعبه بينما قام الجيش البورماوي بإطلاق النار علي شعبه. ووجه الاختلاق الثاني، وهو الأكثر أهمية، يتمثل فى أن الثورة التونسية استفادت من مزايا ثورة الاتصالات وهذا لم يساعد الثوار التونسيين فقط فى تنظيم وتنسيق تحركاتهم بشكل أفضل بل جعل اهتمام المجتمع الدولي مركزا ومنصبا عليهم.
أن أي حالة موت أو إصابة بجرح أصبح من الممكن الآن معرفتها بواسطة المجتمع الدولي فى كافة أنحاء العالم خلال دقائق. فى ليبيا وسوريا واليمن يقوم الثوار الآن وبشكل مباشر بإخطار وإحاطة المجتمع الدولي بالانتهاكات التي يقوم بها من هم فى السلطة. إن صورة الطفل ذي الثلاثة عشر ربيعا والذي تم تعذيبه حتى الموت فى سوريا أثار غضب وسخط قادة العالم الذين رفعوا أصواتهم بالإدانة والشجب. إن الاتصالات تعنى التواصل، وفى سياق ثورات الشرق الأوسط كانت تعني تواصل الحرية.
هل نحن نغبط الشعب التونسي والشعب المصري؟ نعم إننا نغبطهم فى تحركهم السريع والانتقال السلمي للسلطة فى بلدانهم، ولكن ما هو أكثر من الغبطة هو روح التضامن والالتزام المتجدد بقضيتنا التي تعتبر قضية جميع النساء والرجال الذين يقدرون الكرامة الإنسانية والحرية. فى سعينا للحرية نحن نتعلم بأن نكون أحرارا و يجب علينا ممارسة حريتنا وتعزيز إيماننا بالحرية، هذا ما قاله الرئيس التشيكوسلوفاكي فاسيلاف هافيل فى كتابه :"العيش فى الواقع". يجب أن نؤدي مهامنا وواجباتنا بإرادتنا الحرة رغم المخاطر الكامنة فى محاولة العيش كأحرار فى وطن غير حر. نحن نمارس حريتنا باختيارنا وإرادتنا وذلك بالقيام بما نعتبره صحيحا حتى إذا أدي اختيارنا إلي تقليص الحريات الأخرى نظرا لأننا نعتقد أن الحرية تجلب المزيد من الحريات.
المعارضة شعور وتوجه ذاتي بحسب مرئيات عالم الاجتماع ماكس ويبر عند تحليله للسياسة باعتبارها شعور وتوجه ذاتي نابع من صميم النفس. إننا نشتغل وننخرط فى المعارضة لأجل الحرية ونحن مستعدون لأن نحاول – المرة بعد الأخرى - بإخلاص وبروح المسئولية وبروح التصالح والصدق مع النفس - تحقيق ما يراه الآخرون مستحيلاً. نحن نناضل بعيون مفتوحة لتحويل أحلامنا المرتبطة بالحرية إلي واقع ملموس.
أولئك النساء المسنات وأولئك الشباب يأتون إلي مقر رئاسة الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية لأداء مهامهم بغير مقابل وهم يمارسون حقهم باختيار الطريق الشاق للحرية. وفى حديثي إليكم أنا أمارس حقي في حرية التواصل، وواقع ممارستي لهذا الحق يجعلني أشعر بأنني إنسانة أكثر حرية.
أود أن اختم هذه المحاضرة بأبيات من قصيدة الشاعر روديارد كيبلنج "حصار الجنيات" المفضلة لدي، والشكر موصول للسيد تيم جارتون أش الذي زودني بها:
"أنا لا أبالي بإمبراطور،
أنا لا أتزحزح عن طريقي لملك،
أنا لن اركع لصاحب تاج،
لكن هذا شيء مختلف،
أنا لا أحارب طواحين الهواء،
وليترك الحراس الحراسة،
فليسقط الجسر المتحرك،
إنه سيدنا جميعا - ذلك الحالم الذي تتحقق أحلامه".
* محاضرة قدمتها زعيمة المعارضة البورماوية أونج سان سو تشي فى تلفزيون البي بي سى فى برنامج محاضرات ريث ليلة 28 يونيو 2011م.