فك طلاسم المبادرة الإثيوبية .. فى معالجة جذور أزمة جنوب كردفان
آدم جمال أحمد
28 August, 2011
28 August, 2011
بقلم: آدم جمال أحمد – سدنى - استراليا
أن الأزمة فى جنوب كردفان هى دون شك أزمة معقدة ، وخاصة بعد أن إستشعر الطرفان إنسداد الأفق للحل السياسى فى ظل تواتر أنباء فى عدم توصل الأطراف الى إتفاق حول مصير المبادرة الإثيوبية ، واستحالة استرداد الوضع السابق للولاية قبل إندلاع الحرب الأخيرة ، وكذلك استحالة العودة الى إتفاق أديس أبابا الإطارى ، الذى نسفه الرئيس البشير بتصريحاته الرافضة للإتفاق صراحةً ، وفى هذا الصدد هناك أشارت لمصادر مطلعة أنه لا صحة على الإطلاق لما يرتدد حول ان المبادرة الإثيوبية هى فى حقيقتها إتفاق أديس أبابا الإطارى ، فالمبادرة بداهة ما كانت تلقى هذا الترحيب من جانب الحكومة – من أول وهلة – لو كانت هى نسخة أخرى من إتفاق أديس أبابا ، وعلى قرار ذلك فان أول ما يُستفاد من المبادرة أنها تعتبر تجاوز علنى لإتفاق أديس وإنتقال من ذلك المربع الى مربع جديد ، ولكن ان إعلان الرئيس البشير وترحيبه بالمبادرة التى طرحها الرئيس الإثيوبى مليس زناوى لحل الأزمة الحالية فى جنوب كردفان والنيل الأزرق .. يعنى ضمناً أن المبادرة الإثيوبية تبدو أنها معقولة ومتسقة مع الموقف السياسى لقيادة حزب المؤتمر الوطنى ، كما أن المبادرة بهذه المثابة تعتبر أيضاً مخرجاً مناسباً للحركة الشعبية - قطاع الشمال من جانب ، والمجتمع الدولى الذى وجد نفسه فى مواجهة مع الحكومة السودانية جراء إصداره القرار (2003) بالتمديد لقوات البعثة الأممية الإفريقية المشتركة العاملة فى حفظ السلام فى دارفور (اليوناميد) ، وهو القرار الذى إعتبره العديد من خبراء القانون غير ملائم نظراً لكونه جاء فوق إرادة الحكومة ودون الحصول على موافقة السودان بما يفضى الى مواجهة على كل الأصعدة من شأنها إفساد أهداف العملية برمتها من جانب آخر.
وما من شك ان مالك عقار حين استجار بالرئيس الإثيوبى زناوى كان ذلك نوع من الذكاء السياسى لرجل فى قامته ، لأنه يعلم بان حضور إثيوبيا داخل الملف ضرورى لأى تفكير فى إتخاذ أى خطوة تمرد ضد الحكومة يستلزم وضع العامل الإثيوبى موضع الإعتبار، فلذلك تبيّن ان التعويل على المبادرة الاثيوبية من جانب عقار ورفقائه عرمان والحلو هى الحصول على مكاسب سياسية أكبر للحركة الشعبية وما له صلة بالواقع والوقائع فى جنوب كردفان بعد تصعيدها دولياً ، فقد كان من المحتم ان تجرى إعادة نظر وإعادة صياغة للمبادرة ؛ ولكن تبدو إشكالية الحكومة وقيادة حزب المؤتمر الوطنى فى انهم يتجاهلون ، أى لا يضعون اعتباراً لحجم الحركة الشعبية فى الشمال وطبيعة الملعب السياسى بحجة عدم تسجيلها كجزب سياسى ، فلذا بعد إنفصال الجنوب وفك الإرتباط سياسياً وعسكرياً بين الحركتين ، وبعد مرور أكثر من شهرين للحرب .. ما زال هناك ضبابية وعدم وضوح فى الخطاب السياسى للحركة وكذلك عدم وجود إستراتيجية لأى تغيير قادم فى الإطار القومى لنظام الحكم ، حتى تطمئن القوى السياسية الشمالية وبقية الأطراف بأن البديل وسلاح قوى الهامش لن يستخدم ضدهم أو ضد أهاليهم ومناطقهم ، فلذلك صار هناك إستحالة بأن تصبح الحركة الشعبية دون تقديم أى معطيات واقعية هى اللاعب السياسى الرئيسى المحاذى أو البديل لحزب المؤتمر الحاكم ، فأصبح هذا هاجساً للخوف فى معظم مجالس المدينة السرية على الدوام حتى وسط القوى التقدمية والمعارضة نفسها ، ولا سيما حينما كانت الحركة الشعبية بحجمها السابق - جنوباً وشمالاً- كانت تلعب فى (مساحة محدودة) حتمتها الأوزان ، أما الآن هناك إتهامات للحركة الشعبية فى جنوب السودان تحرك قِطَعْ الحركة فى الشمال بمنتهى الإستهتار السياسى ظناً منها أنها تستطيع ان تصنع منها حركة حاكمة أو شريكة فى الشمال تمرر سياسات عجزت عن تحقيقها الحركة الأم نفسها.
ولكن بالرغم لم تُعرف بعد حتى الآن ملاح وأهداف العملية العامة لطبيعة المبادرة الإثيوبية ، ربما لحاجة الأطراف كافة الى قدر من الهدوء والسرية لإستكمال الحوار حولها ، ومن ثم صياغتها صياغة نهائية تحوز على رضاء كافة الأطراف ، غير أنه من السهل إستكشاف ملامح عامة هى بالضرورة تمثل العمود الفقرى للمبادرة ، وإن كان من المستحيل أن ترحب بها الحكومة ممثلة فى الرئيس نفسه لو لم تتضمن مطلوبات سياسية مهمة لديها ولدى حزب المؤتمر الحاكم ، ولهذا فإن من المحتم أن تحتوى المبادرة على معالجة لجذور الأزمة فى ولايتى جنوب كردفان والنيل الأزرق .. وهى تسوية تتعلق بما تبقى من إتفاقية السلام الشامل لنيفاشا .. كالمشورة الشعبية للمنطقتين والترتيبات الأمنية وتسريح قوات الحركة الشعبية فى الشمال وإعادة دمجها بداية ومن ثم تقنين وضع الحركة بحيث تتحول الى حزب سياسى وفق مطلوبات مجلس شئون الأحزاب ، هى الخطوة الأساسية المفتاحية التى على ضوئها يمكن لطرفى النزاع التفاوض حولها وحول هذه القضايا المتمثلة فى المشورة الشعبية والشراكة السياسية ومعالجة الأوضاع الإنسانية التى خلفتها أحداث جنوب كردفان وتقصى الحقائق للإنتهاكات والسماح بدخول الغوث الإنسانى ، وخاصة ان إثيوبيا حاضرة على الأرض فى أبيى وقريبة جداً من معطيات النزاع.
من جانب ثانٍى فان المبادرة حتى دون الدخول فى خطوطها العامة او تفاصيلها تعنى فى حد ذاتها ان الطرفان الحكومة والحركة الشعبية فى الشمال فى حاجة ماسة وسريعة لمعالجة الوضع الذى أحدثته الحرب ، فهما يعلمان ان ما جرى فى جنوب كردفان خطأ استراتيجي كبير ، ومن شأن إصرار كل طرف على موقفه هذا ان يستعيد إستمرارية مناخ الحرب ، وهى حرب خاسرة دون أدنى شك بالنسبة لهما ، والذى يدفع الثمن هو المواطن المغلوب على أمره ، لأن الحركة الأم نفسها لم تدعى او تزعم حتى الآن ان ما حصلت عليه جاء نتاج حرب ، فهي نتاج تفاوض مضنٍ .. فالحرب وسيلة وليست غاية .. فالحركة الشعبية فى الشمال ايضاً صارت تستشعر مخاطر خلط الأوراق بفتحها الطريق لحركات دارفور المسلحة فى جنوب كردفان .. فلذا أن من المحتم ان تناقش المبادرة عملية فك الإرتباط بين الحركة الشعبية فى الشمال والحركة الحاكمة فى جمهورية جنوب السودان من جهة ، والحركة الشعبية فى الشمال وحركات دارفور المسلحة من جهة ثانية ، ولا سيما الحكومة ما زالت قلقة ينتابها الخوف من إعلان تحالف الجبهة الثورية السودانية بين الحركة الشعبية وجناحي حركة تحرير السودان ، لأن الحكومة تعتبر لا صلة لهما البتة بما يجرى فى جنوب كردفان من جانب الحركة لصب المزيد من الزيت وخلط المزيد من الأوراق وتأزيم الوضع ، إضافة الى ان الحركات الدارفورية المسلحة فى دارفور لم تعد بذات القدرات والبريق السابق بعد ما خسرت قواعدها التى كانت تنطلق منها في تشاد وليبيا ، وربما تجد الآن صعوبة فى الإنطلاق من الجنوب أو يوغندا نظراً للطريق الطويل الشاق وخطوط الإمداد البعيدة
أما الأمر الثالث فإن الحكومة قد تحاول أيضاً أن تتضمن آليات فى المبادرة متفق عليها مع الرئيس الإثيوبى لحفظ الأمن فى الولايتين – طوال فترة الترتيبات الأمنية – لمنع أى إتجاه لأى إستخدام لقوات دولية أو إنفاذ القرار 2003 ، لأنها تعتقد أن اليوناميد أصلاً عاملة فى دارفور ، فلذا أن هذا ملف مختلف .. حيث جرى إنجاز وثيقة الدوحة مؤخراً ، ولا سيما أن الحكومة وحكومة قطر والمجتمع الدولى يسعون بكل قوتهم من إعطاء الوثيقة الفرصة لتصبح القانون الأساسى لحل الازمة الدارفورية ، ومحاولة إقناع بقية الحركات الرافضة ومحاولة إلحاقها بوثيقة الدوحة ، وما نخشاه فى ظل تعدد المبادرات المطروحة الآن من أبناء النوبة والقوى السياسية لحل أزمة جنوب كردفان ، أن تحذو الحكومة ما جرى فى دارفور بالدوحة ، فى إجازة مؤتمر موسع لأهل المصلحة فى جنوب كردفان يعقد فى الدوحة كوثيقة سلام جنوب كردفان ، خاصة بعد تنفيذ مؤتمر الإدارات الأهلية فى كادقلى ، وذلك بحضور وفدى الحكومة وبقية أحزاب وتنظيمات جنوب كردفان وممثلين للقيادات السياسية والإدارات الأهلية للنوبة بالداخل وممثليين للمجتمع الدولى ، حتى تقر وثيقة تحوى محاور أساسية تضمن المشورة الششعبية وعودة النازحين وإقتسام الثروة ووقف إطلاق النار والترتيتبات الأمنية وغيرها ، وحتى لا تصبح الولاية وأهلها أمام سياسة الأمر الواقع .. فإن هذه المبادرة الإثيوبية على أية حال تبدو ضرورية للحركة الشعبية أياً كانت الصيغة التى سترد بها فى المبادرة ، ومن ثم فإن الحكومة نفسها ستجد من خلالها سانحة لتخرج من ورطتها فى جنوب كردفان ، وبذلك تعول أن المجتمع الدولى سيجد ان قراره الأخير صار تلقائياً عديم الجدوى إذا ما أغلقت صفحة النزاع فى جنوب كردفان والنيل الأزرق.
فلذا أن الحركة الشعبية فى شمال السودان تبدو فى حاجة ماسة لحل سياسى وليس عسكرى!!.. فقد كان واضحاً أن والى النيل الازرق مالك عقار يبدو ان حساباته السياسية هى الأخرى بدأت تدق ناقوس الخطر فى ذهنه السياسى ، فإستطاع عقار أن يحسب حساباته بدقة بعيداً عن الرؤى السياسية الفظة والغليظة ، لأنه لم يتجاهل طبيعة الأمور والمعطيات القائمة حالياً فى السودان!! فالرجل أمسك العصا من نصفها محاولاً لعب بولوتيكا من خلال سياسة الجزرة والعصا ملوحاً فيها بإستخدام القوة إذا حاولت الحكومة نزع سلاح جيشه ، وفى نفس الوقت يطمئن الحكومة سوف لن تنطلق طلقة أو تنفجر الأوضاع فى ولايته ، وصار وسيطاً للسلام فى جنوب كردفان وفى نفس الوقت منادياً بتغيير النظام الحاكم ، والمحافظة على ما تبقى من السودان وكيف يحكم السودان .. ولقد كان واضحاً أنها بولوتيكا غير واضحة المعالم ، فلا هو أوضح موقفه بجلاء بحيث يحترم التفويض الإنتخابى الحاصل عليه ، ومن ثم يشكل لبنة فى منظومة البناء الوطنى لدولة شمال السودان بما أثار شكوك الحكومة فى الخرطوم حوله ، ولا هو فى المقابل وقف موقفاً واضحاً بجانب رفقائه بقيادة عبدالعزيز الحلو الذين تمردوا ، وكان ذلك واضحاً فى الإنتقادات التى وجهتها له الحركة الشعبية الحاكمة فى جمهورية جنوب السودان ، بما زاد من إرتباك حسابات الرجل ، مما جعل عمليات التمرد فى جنوب كردفان تشهد تراجعاً عقب إضطرار القائد عبد العزيز الحلو اللجوء الى جمهورية جنوب السودان وعقب إتضاح تذمر بعض أبناء النوبة بالخارج من مواقف عقار .. وياسر عرمان الذى إستطاع مع بعض رفاقه من قوى اليسار تكوين جيش خاص بهم يتم تدريبه الآن فى إحدى دول الجوار الأفريقى ، دون علم أبناء أو قيادات النوبة لخلق نوع من التوازن والحسابات السياسية لأى تغيير قادم ، أو أى تسوية سياسية تتم على المدى القريب أو البعيد .. بالإضافة الى بعض الإنتقادات لعدم وضوح الخطاب السياسى للحركة فى جنوب كردفان وإنشقاق بعض القيادات التاريخية المؤسسة للحركة وتحرك بعض قيادات النوبة بالداخل ، فضاقت على الحلو مساحات الولاية الرحبة ولم يعد يقوى على العمل بمفرده إنطلاقاً من ما تم ذكره ، مما يتطلب منه إعادة ترتيب الأوضاع من جديد.
و أخيراً فان عقار على وجه الخصوص يتخوف من اى مواجهة مع حكومة المركز فى الخرطوم ، لأنه لا يملك عمقاً إستراتيجياً يتيح له مواجهة مطولة مع الخرطوم ، وخاصة بعد أن وصفت الولايات المتحدة على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند إعلان الرئيس البشير وقفاً لإطلاق النار من طرف واحد في جنوب كردفان لمدة أسبوعين ومنعه دخول المنظمات الأجنبية للمنطقة بأنه ( خطوة أولى إيجابية ) ، وإن الولايات المتحدة تدعو (بقوة متمردى النوبة) إلى القيام بالأمر نفسه ، وطالبت بإستئناف المفاوضات ، وأضافت المتحدثة: ( يجب أن تعود الأطراف فوراً إلى الحوار للتفاهم على وقف حقيقى للعمليات العدائية وإلى حلٍّ حول المستقبل السياسى لجنوب كردفان والنيل الأزرق ) ، ودعت واشنطن أيضاً الطرفين إلى (عدم انتهاز فرصة وقف إطلاق النار لتعزيز مواقعهما العسكرية) ، وطلبت من الخرطوم السماح بوصول المنظمات الإنسانية إلى المنطقة ، فلذلك ما وددنا قوله فإن إثيوبيا لن تسمح للجركة الشعبية فى النيل الأزرق بالإنطلاق منها لأسباب إستراتيجية وأمنية مع الخرطوم ، أى تقاطعات مصالح تربط بين هذه الدول بما فيها المجتمع الدولى مع حكومة الخرطوم ، كما أيضاً ان جمهورية جنوب السودان هى الأخرى لن تغامر بأن تصبح قاعدة انطلاق لعقار أو الحلو أو جتى الحركة الشعبية قطاع الشمال أو أى حركة مسلحة ، فهي مرتبطة مع إثيوبيا والسودان بحل نزاع أبيى ومن شأن دعمها لعقار أو حركته بان يفقدها اى مزايا فى حل نزاع أبيى بما يحقق لها ما تريده ، وهكذا فان المنطق السياسى والمعطيات فرضت على عقار والحلو البحث عن مخرج على يد إثيوبيا ، ولا سيما أن حمل السلاح ليست غاية بل وسيلة لتحيق أهداف من خلال الحوار والتفاوض.
آدم جمال أحمد – سدنى – استراليا
28 أغسطس 2011 م
Adam Gamal Ahmed [elkusan67@yahoo.com]