عيد عدت بأية حال والحرب الجديدة (1)
د. محمد الشريف سليمان
8 September, 2011
8 September, 2011
كنت وكلي أمل، وقد هل العيد علينا لنفرح، ويتم إيقاف السيل السياسي الهادر الذي جرف البلاد نحو الهاوية، وأن يتجه النظام لحل مشاكل البلاد الحقيقية والملتهبة: دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، وأبيي والخروج بحلول جذرية توقف الدماء التي تنزف، والإمكانات المهدورة في تجارة الحرب لتذهب نحو النمو المتوازن وإعادة البناء والتعمير، و توقف رائحة استمرار تشرذم الوطن التي تحلق كل يوم في السماء، بل حل العيد وجلب معه حربا جديدة للبلاد، حاملا معه راية مثلث عبدالرحيم حمدي لتجزئة ما تبقى من المجزأ، معلنا بذلك قيام الجمهورية الإسلامية الثانية. هذه الأزمات الدائمة الملتهبة ـ المتفاعلة مع السياسة المتبعة من أصحاب القرار وسيطرت عليها منهج التدويل لحل مشاكل السودان، أدت إلى شل قدرة وفعالية الدولة، وبالتالي الحد من تنفيذ أي صلاح فعلي في النظام، يتشوق إليه المجتمع السوداني للمحافظة على ما تبقى من تراب الوطن الغالي.
نعم لقد حل العيد هذا العام على النازحين واللاجئين وأيضا عامة المواطنين من سكان اقليم دارفور الجريج وكذلك ولاية جنوب كردفان الجريحة، والسودان عموم، ليس باليمن واليسر وإنما بالعسر والحزن والخوف، بل أتى ليغرق السودانيين مرة أخرى في الحزن العميق بقتل بعضهم البعض، و ليظهر كل فريق من فرقاء القتال شيئا من الابتهاج الوحشي عند تساقط الضحايا لدى الفريق الآخر... ولم ينتبه الجميع إلى أنهم ينتحرون وينحرون وطنهم عبر مباراة التقتيل الجماعي، التي يندفعون إليها خارج الوعي الذهني. هذه اللوحة القاتمة تعكس حلول عيد الفطر المبارك في السودان، الذي شكل ويشكل فيه الصراعات السياسية تهديدا مستمرا له بالتمزق في أتون الحروب الأهلية، والتحول إلى دويلات.
وقبل الدخول في أتون الحرب الجديدة، لقد أدى سكان مخيمات النزوح واللجوء على سبيل المثال وليس الحصر: كلمة في جنوب دارفور، أبوشوك في شمال دارفور، الحميدية في غرب دارفور، بردجن في شرق تشاد، وسامونجا في أفريقيا الوسطى، أدوا فريضة شهر رمضان المعظم في بلاء وجوع وفقر مدقع والحال ليس بأفضل في جبال النوبة. وجاءت الطامة الكبرى من قبل " برنامج الغذاء العالمي" الذي ساهم بقوة في تجويع النازحين، بتمليك التجار الجشعين توزيع الحصص الغذائية، لتصبح سلعة تباع في الأسواق بدلا من توزيعها على أصحابها المحتاجين، وبذلك استخدمت المنظمة أيضا سياسة ـ الغذاء كسلاح ـ ضد النازحين الفقراء في المعسكرات(السياسة المطبقة من قبل الدولة)! ويسيطر سوء التغذية على أطفال مخيمات الذين اجبروا على النزوح، الذين لم يرى أسرهم حصصهم التموينية لمدة تجاوزت الستة أشهر، وخلقت بذلك نقص حاد في الغذاء(كانت توفرها لهم المنظمات الإنسانية التي طردت من البلاد)، وفي نفس الوقت تقوم الدولة السودانية بالتبرع السخي بمئات ألوف الأطنان من الذرة والدخن للصومال، وإثيوبيا، واللحوم للشعب المصري، والشعب هنا يموت جوعا! بل نزل البلاء أيضا على ساكني العراء مع هطول الأمطار الغزيرة هذا العام، وجرفت السيول معها مساكنهم المشيدة من الكرتون والسعف والخيش، وتركهم في العراء والنوم على طين الوحل. كما اختلطت مياه الشرب مع مياه القاذورات الإنسانية والحيوانية، بل تراكمت جميعها في البرك لتجلب الروائح الكريهة والناموس والحشرات الناقلة للأمراض الفتاكة. يضاف إلى كل هذا الانفلات الأمني ، والاعتداء على النساء، وعمليات النهب والسلب ، والمستوطنون الجدد الذين تم جلبهم من خارج البلاد، الذين استولوا بقوة السلاح على الحواكير والأراضي. والأدهى وأمر ، تحليق مقاتلات الأنتنوف والميراج وبشكل يومي منتظم على ارتفاع منخفض فوق معسكرات النازحين، ليصاب الأطفال والنساء والعجزة بالخوف والهلع بإمراض الإضطرابات العقلية والهستريا النفسية( لا أتحدث عن ٌالفوبيا ٌ وانم عن واقع حقيقي). نعم، وعندما يخيم الظلام ، تكتمل المسرحية وتدخل حيز التنفيذ، حيث يطلق الرصاص الحي في الهواء وبشكل كثيف عشوائي حتى مطلع الفجر من قوات ابوطيرة...، ويُشبه الوضع بيوم القيامة كقوله تعالى في سورة الحج: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. صدق الله العظيم). هكذا انقضى شهر رمضان، واستقبل العيد الفطر المبارك بالحزن والبكاء، واليد قصيرة لا تملك حتى قيمة رطل البلح، الذي لم يتذوقوا طعمه طوال شهر رمضان الكريم...
هذه الصورة المحزنة للأوضاع الإنسانية المذرية لنازحي ولاجئي دارفور، والحال كذلك في جبال النوبة ، وليس أقل اليوم في النيل الأزرق، يواكبها سياسة الدولة الخارجية ضد أبناء دارفور وكردفان في ليبيا، والذين يشكلون السند لأهلهم في المعسكرات والبوادي والحضر. فعند اندلاع الثورة الليبية ضد العقيد القذافي، خرجت وزارة الخارجية بتصريحات تتعارض مع الأعراف الدبلوماسية، التي تقوم على حماية مواطنيها في العالم الخارجي. لكن الدبلوماسية السودانية قدمت مواطنيها قربانا للذبح، والقتل، والنهب، وإنتهاك حرمات نسائهن، بتصريح الوزارة القائل: حركة العدل والمساواة تقاتل بجانب القذافي! وسبق ذلك يوسف القرضاوي(رئيس هيئة اتحاد المسلمين، الذي يقتضي وظيفته حماية المسلمين بدون تمييز في اللون والعرق)، بتصريح فتح باب قتل جميع أصحاب البشرة السوداء والسمراء ، وشمل ويشمل ذلك حتى اليوم الليبيون أنفسهم من المناطق الجنوبية. وزاد الموقف سوءا، وزير الخارجية السودانية بالرد على مساءلته في المجلس الوطني حول تصريحات وزارته عن أوضاع السودانيين في ليبيا، ليؤكد من جديد ما قالته وزارته، ثم أتت قناة الجزيرة "القطرية" لتردد نفس نغم وزير الخارجية السودانية.
نعم، دخلت البلاد منعطفا خطرا بالحرب الجديدة( الحرب الثالثة) التي انطلقت في الأول من سبتمبر الجاري في ولاية النيل الأزرق المتاخمة للجارة إثيوبيا، ودولة جنوب السودان( هناك الحرب الدائرة في دارفور، وأيضا الجارية في جنوب كردفان). لقد أضاعت الدولة السودانية فرصة لا تعوض برفضها وساطة رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي، الذي أتى الخرطوم برفقة مالك عقار، الوالي المنتخب، ورجع إلي أديس أبابا خالي الوفاض، كما رجع من قبله رئيس جنوب أفريقيا السابق، ورئيس لجنة حكماء الإتحاد الأفريقي أمبيكي. وللمرة الثانية يصاب الاثنين بمرارة خيبة الأمل، حيث أشرفا على اتفاقية نافع ـ عقار، وبوجود وزيرة الخارجية الأمريكية هالري كلينتون في العاصمة الإثيوبية آنذاك، هذه الاتفاقية التي كانت من الممكن أن تجنب البلاد ويلات ما تواجهه اليوم داخليا وخارجيا، والتي كانت أيضا وبالدرجة الأولى ستجنب إراقة الدماء التي تسيل الآن في النيل الأزرق. نعم، ان سياسة الأخطاء القاتلة، والجهود المبددة، والفرص المضيعة، وعدم الالتزام بالاتفاقيات، واتخاذ القرار الأحادي، أدت جميعها إلى الوضع الخطير المتربع اليوم على صدر ما تبقى من أرض السودان، والمجتمع الدولي بفصله السابع ينتظر على كل مداخل البلاد!
أنتهز هذه الفرصة لتهنئة الأخ والزميل جعفر ابراهيم السبكي بخروجة من ظلام أنفاق معتقلات النظام إلى نور الحياة والعمل، التهنئة موصولة لأسرته الكريمة التي عانت غيابه الطويل ظلما وبلا محاكمة وبلا تهمة، وأتمنى له النشاط الدافق في متابعة مشواره الصحفي، والحياة الكريمة مع أسرته، وكذلك نفس صيغة التهنئة للزميل الصحفي أبو ذر علي الأمين.
نقلا عن الصحافة
ـ يتبع ـ