حينما تكون العودة الى النبع الحالم وقوفا على الاطلال (1-2)

 


 

 


abdelsalamhamad@yahoo.co.uk
-1-
مبارك حسن خليفة :الاكاديمي الاديب  وام البنين  لبني الخطيب
الحوارات  والمقالات  التي أجرتها واضأءتها  الصحافية الحصيفة  لبني الخطيب  مع وحول الشاعر والاكاديمي   الاستاذ مبارك حسن خليفة ( 1931) الذي استقبلته عدن قبل ثلث قرن  من الزمان (1977)باحضانها وتودعه اليوم مغادرا الى بلاده بدموعها   جديرة  أن يقف عليها  السودانيون  واليمنيون  معا لعمق  مراميها وابعادها  في وجدان  ومستقبل الشعبين وخليق أن يتأمل  في دلالاتها  كل من يطربه   أن يشاهد  المحبة والوفاء "بيانا بالعمل"  قيما لا تزال حية  في عدن  رغم الاحن والمحن  التي تتعرض لها هذه المدينة "بنلوب الصابرة"  منذ بضع سنين  ومع ذلك لم تقعد بها تلك المزعجات من النوائب أن تعبر عن جزيل شكرها واحساسها بالعرفان  لكل من اشعل  شمعة من معرفة في خليجها  في صورة تقديرها وتكريمها  الآسر للاستاذ مبارك حسن خليفة    .
لابد أن نذكر بكثير من الأجلال  أن الودودة   "عدن" ترعى  بوجدان السيدة  لبنى الخطيب أم البنين "السومانيين"  ما فات على  الدولتين من دين مستحق  عليهما لمبارك حسن خليفة شاعر الاغنية    والقصيدة الكلاسيكية  والناقد الادبي واستاذ الادب العربي والعدني -الامدرماني "وجسر الوجدان بين اليمن والسودان".
حينما كانت  لبني الخطيب وكان نزار غانم بن الشاعر المسرحي والموسيقي والاكاديمي الاريب –أول خريج للجزيرة العربية  في الجامعة الامريكية في بيروت  1936 محمد عبده غانم (1912 -1994 ) الصديق الحميم  لحبر السودان عبداللة الطيب والاستاذ والصديق للقاص والترجمان والكاتب  الروائي  على المك ولكثر آخرين -  حينما كانا في ضمير الغيب( 1948 ) وكان كاتب هذه السطور يتلمس اعتاب  الخامسة من عمره او كاد  قد  هز الطرب الشاب مبارك حسن  خليفة (17 عاما ) فرمح   واخترق حلبة رقص في أمدرمان  فنال "شبالا" من الفتاة  اليانعة نفيسة محمد الامين  لما قد  صدح  الفنان  ذو الصوت  الوريق المغموس في شجن الأحزان  سيد خليفة  في محفل عرس بهيج وكانت  الغراء الفرعاء  مصقولة العوارض "عديلة "   بنت سيدة الموانئ والبحارآنئذ  التي اكملت تدريبها في كلية المعلمات   بأمدرمان   في طريق عودتها  الى حديقتها  عدن  فشق  ذلك على الشاعر صلاح أحمد محمد صالح  الذي اضناه الغرام والبين وخشي أن يظل كل العمر حزين أن فارقت عديلة أرض النيل.
يامسافر وناسي هواك    

ارواحنا وقلوبنا معاك

اضناني الغرام والبين

ياروحي الفراق لمتين

قضيت عمري كلو حزين

وعايش على ذكراك

عديت انا نجوم الليل

وفي خدودي الدموع بتسيل

ويا الفارقت ارض النيل

يرعاك الاله يرعاك
**
-2-
ودع عديلة أن الركب مرتحل
أيهما اكثر ملامسة لشغاف القلب الموموق والوامق–عديلة بيومي العدنية التي فارقت ارض النيل  وحملت معها  الى المعلا والتواهي وكريتر والطويلة والخساف وخورمكسر  قلب ابن أم درمان  صلاح أحمد محمد صالح أم هريرة  ميمون بن قيس الاعشى  التي همست  في اذن صاحبها  بغنج  لما جاء زائرها"ويلي عليك وويلي منك يارجل"
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... و هل تطيق وداعاً أيها الرجل
غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها ... تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريثٌ و لا عجل
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريحٍ عشرقٌ زجل
يكاد يصرعها لولا تشددها ... إذا تقوم إلى جاراتها الكسل
صفر الوشاح و ملء الدرع بهكنةٌ ... إذا تأتى يكاد الخصر ينخزل
هركولةٌ ، فنقٌ ، درمٌ مرافقها ... كأن أخمصها بالشوك ينتعل
إذا تقوم يضوع المسك أصورةً ... و الزنبق الورد من أردانها شمل
ما روضةٌ من رياض الحزن معشبةٌ ... خضراء جاد عليها مسبلٌ هطل
يضاحك الشمس منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزرٌ بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... و لا بأحسن منها إذ دنا الأصل
فكلنا مغرمٌ يهذي بصاحبه ... ناءٍ و دانٍ و مخبولٌ و مختبل
صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليدٍ حبل من تصل
أ أن رأت رجلاً أعشى أضر به ... ريب المنون و دهرٌ مفندٌ خبل
قالت هريرة لما جئت طالبها ... ويلي عليك و ويلي منك يا رجل
يبدو أن شاعر الاغنية السودانية واستاذ الادب العربي بجامعة عدن وحده  الأكثر تأهيلا بين الجميع لاجابة هذا السؤال لانه طوف وجاب الافاق كصاحبه صناجة العرب وحاضر في عدن وحضرموت  عن الحامدي و لطف  جعفر أمان  وعلي أحمد باكثير وجرتلي ووصل العلائق بين امير الشعر الغنائي اليمني حسين ابوبكر المحضار "الشحري" وبديع السودان الحضرمي  حسين بازرعة  واستعاد كثيرا سيرورة  عديلة العدنية في محافل الصبا ومراتع الارام في أمدرمان في خواتيم عقد الاربعين (1948) ثم جاء العدني اللقماني القرشي (بكسر القاف وتسكين الراء) الدكتور نزار محمد عبدة غانم   من أقصي صنعاء والخرطوم  فعزف على مزهره وسطر على دفتره  واحيا  وأنار وقائع السودانيين   وايامهم  في "غيل باوزير" وسعاد وفي حاضرة السلطنة القعيطية والكثيرية    وأطلق مصطلحه الاثير السائر "السومانية " ( السوداني اليماني)
ما اشبة السودانيين- الشيخ سعيد القدال ومحمد سعيد القدال –فريجون –سيد أحمد الحردلو –الطيب عبدالرازق –باب اللة - التجاني السيوفي –تاج السر الحسن- جيلى عبدالرحمن-أسامة عبدالرحمن النور-عباس الامين- ومبارك حسن خليفة والعشرات من الراكزين والاخرين الهائمين كاشباح توماس سينيرز اليوت  في طوافهم  الذي كما يبدو لا نهاية له  في قري واحقاف  ومدن الجزيرة والخليج وقد بذل الدكتور نزار غانم  المتولة بعوالمهم  التي يضوع منها "بخور التيمان"  والمسك  والخمرة والزعفران جهودا لترسيم  مساراتهم في العربية التي كانت يوما سعيدة –ما اشبههم بهذا  المغني الاعشى الجوال ميمون بن قيس .
قد طفت للمال آفاقه****************** عمان  فحمص  فأورشلم
أتيت النجاشي في أرضه******************** وأرض النبيط وأرض ألعجم
فنجران فالسرو من حمير*****************    فأي مرام  له  لم      أرم
ومن بعد ذاك الى حضرموت *************   فأوفيت  همي وحينا   أهم
-3-
هب أن جنة الخلد اليمن
يبدو أن لم يرق لابن  قرية "ودالماجدي"( بالقرب من "ابوعشر") مؤلف كتاب "السواد الأسود" الاستاذ   بشير الخليفة قسم السيد  ألمحامي  أن يري  صديقه ابن كردفان  قد  علق  جامعة صنعاء عرضا  وعاد اليها أكثر من مرة  وكان يريد  لأقدامه  أن تتوطد في جامعة الخرطوم التي لا يلقاها  الى ذلك العهد الا ذو حظ عظيم  وكان هذا قبل ربع قرن من الزمان  فأثار فيه مآثر الاوطان وأياديها التي سلفت  على طريقته البديعه  " هب أن جنة الخلد اليمن فلاشئ يعدل الوطن " من رائعة أحمد شوقي التي  حفظها  وانشدها  على ايام الصبا الباكر. 
عاد ابن كردفان  الى أنشودة " عصفورتان في الحجاز "وذكريات الساحل التهامي  من "ميدي" الى عدن  والى ايام فيها الهوي بصنعاء والألم في سجنها الذي شاده شيطان الانس والجن"محمد خميس"  في أصل  الجحيم وأحتفى به الأمن الخاص بعلي عبداللة صالح  بوصفه  المكان اللائق بكل اليمنيين   الذين  يصمونه ويضعونه في خانة   شذاذ الافاق  وبأصدقائهم من أمثالهم.
سال ابن كردفان  نفسه : ما الوطن؟ أجاب الشاعر المتنبئ ( 303 -354 هجرية)الذي لم ينتم يوما لغير نفسه  وفي لحظات جد قصار  لاولياء نعمته في ثنايا صليل الدنانير التي تفر من بنانه فيقتنصها بأصابعه العشر    "كل أمرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب"  ولا يعني  ابوالطيب بالعز سوى ما تدفق صوبه من العطايا وأجاب الشاعر الامريكي روبرت فروست(1874 -1963 ) :الوطن هو المكان الذي اذا عدت اليه كان لزاما أن يقبلوك.
أمر لا يخلو من  قلق ضارب في  شعاب الميتافيزيقا  أن يفضل كثير من السودانيين  الذين أمعنوا في الهجرات وهم أحياء يرزقون  ان يعودوا  الى  باطن تراب الوطن والاستقرار فيه  الى الابد  وقد فارقت الروح منهم البدن  أما الاستاذ مبارك حسن خليفة فقد كان خياره الحر مختلفا.
-4-
العودة الى النبع   الحالم
واقعة  شاخصة تدفع الي غير قليل من الحيرة  واستفسار الذات  ولا تنتظر جوابا حاسما أو سريعا-  عودة الاستاذ مبارك حسن خليفة  الى السودان  وقد بلغ من العمر الثمانين بعد عطاء ثر في جامعة عدن – محاضرا وبروفسيرا ومشرفا على أطروحات الماجستير والدكتوراة بلغت العشرين  وقد تمتع برؤية بعض طلابه الذين استقبلهم في سنواتهم الاولى يافعين  في قاعات التحصيل  ينتقلون ويقفون الى جانبه  زملاء محاضرين ومشرفين على الدراسات العليا  وبعضهم عمداء كليات ورؤساء جامعات  ولم يحصر الاستاذ مبارك حسن خليفة  عطاءه داخل الباحات  المغلقة للاكاديميا   ولكنه  قد أسهم  أيضا بدأب لا ينقصه الحماس في الحياة الثقافية  والاجتماعية في اليمن وعلى وجة خاص في عدن   فارتاد وقارب في منتدياتها وكتب في صحائفها  وبحث في  فصلياتها  واصدر كتبا من  من دور نشرها وحاور في مذياعها وناظر في تلفازها  وتحلق حوله الشعراء والكتاب والتشكيليين  وليس من قبيل  المجاملات ان يقال أن قد كان الاستاذ مبارك  من أعلام مدينة عدن وعمدة السودانيين بها  كما قد كان الشيخ سعيد القدال في المكلا   في عقد الاربعين وحتى نهاية النصف الاول من الخمسين( 1939 -1956) أليس من الطبيعي والشأن كذلك  أن يظل  الاستاذ مبارك في المدينة التي منحها من عمره وجهده  وعلمه وثقافته   أكثر مما وهب  وطنه  الأول  الذي لبث فيه منذ  أن تخرج من القاهرة عام 59 19 وحتي سجنه وهجرته منه 14 عاما  وبالخليج  3 سنوات  ولبث بعدن 34  عاما وبها ولد  له بعض بنية الذين  شبوا في احيائها وتعلموا  في مدارسها ومعاهدها العليا  وتشربوا ثقافتها و تحدثوا لهجها ونطقوا نبرها و وشاع فيهم حسها ومزاجها فكانوا يمانين عدانية بالميلاد والهوية والهوي .
صحيح أن الوطن هو المكان الوحيد في العالم الذي يتعين فيه على الناس أن يقبلوك حينما تعود اليه  ولكن المسالة التي تجابه شاعرا ووجيها أجتماعيا من الطراز الاول وعلى وجة خاص من أمضى  مثل الاستاذ مبارك  الغالب من عمره الفاعل في حاضرة صغيرة  كعدن تعرفه  بشخصه واسمه وصوته  وتجله  وتحبه وتضع ما تيسر لها من  خدمات  بين يدية أيان سار وانتقل  أن يبدأ حياة جديدة بعد أن أطل على سني  الثمانين  في مدينه  قد غابت عنه وغاب عنها  لأكثر من ثلث قرن من الزمان على مستوى المس والجس والفكر اليومي وقد تبدلت تلك المدينة في طولها وعرضها وعقلها وحسها ومزاجها  ومهما  يكن من أمر ورغم كل تلك التحديات على مستوي الروح والبدن  تظل عودته  للسودان  حيث تتمرأى له  حاضرتها  الخرطوم  في عصرها الذهبي "بضفافها السحرية المورقة   يخفق قلب النيل في صدرها" كما قد بدت للتجاني يوسف بشير(1912 -1937 )  قبل أكثر من سبعين  عاما  وفي أعماق  تلك الحاضرة  حي الموردة العريق الذي انبثقت أولى اضواء  الحياة على عيني الاستاذ  مبارك  وكان بها  السيد الفيل  ومن تحلق حول اطروحاته  الاتحادية من "الفيلاب" وقد شمخت في ربوع الحي  منارات مسجد السيد الادريسى والوطني خلف اللة خالد  وابنه الشاعر الثائر  بابكر  والعشريين  عبداللة ومحمد عشري الصديق وابناء الموردة من  المغنيين  وعصفور السودان ابراهيم عبدالجليل  وشقيقه التوم  عبدالجليل  وفريق الحي الرياضي الصاعد وعدد لا حصر له من مشاهير الظرفاء والفتوات  ككبس الجبة وذاك الذي  اطلق على نفسه اسم الجلالة وله مع الاستاذ مبارك معارضات ومناظرات  وقد أمتازت الموردة ايضا بمحاسن حسن حدائق شاطئها  التي لا تنزل الاحزان ساحتها اذ ضمت اليها  الريفيرا والجندول وحديقة النيلين.
انها بحق عودة الى النبع الحالم والى تلك المواطنة التي لا وجود لها    الا في وطن   الطفولة الاولى والصبا الاول  والخلوة الاولى  والفتوة الاولى والشبال الاول والحب الاول والجسد الاول  والجرعة الاولى  والقصيدة الاولى  والخلية الاولى ولون السماء وصوت المطر  بكلمة واحدة :الوطن أو النبع الحالم .
السؤال الاخرالذي يشق  على الاستاذ الشاعر أن يتقيه بيديه أو بعقله   وقد عاد والعود مبارك  هل لذلك النبع الحالم  الذي حمله في قلبه وبين جوانحه  تاريخا وجغرافيا –انتسابا وهوية وتمثله  حقيقة ومجازا –واقعا وحلما –  مايقارب سبعة وثلاثين عاما حسوما –من دبي الى عدن (1974-2011 )  هل لذلك النبع  الحالم وجود بالفعل  يعادل ذلك التمثل  الذي صاحبه ولازمه  واستغرقه كل ذاك الوقت؟
الذي لا مراء فيه  أن  المدينة عدن  التي يغادرها الاستاذ مبارك حسن خليفة ليست في احسن أحوالها المعيشية والامنية وقد  نزعت لباس  الخوف وكل ما ضربه نظام علي عبداللة صالح عليها  من أغلال   فهبت  تدق ابواب الديمقراطية والمجتمع المدني والتنمية المتواصلة غير عابئه بردود افعال النظام الذي وطن نفسه أن يجثم على صدرها  الى الابد   فهل  سيعثر  على ذلك النبع الحالم  الذي في طريقه اليه .وكيف  تتبدى لعينيه  حال الاحوال في حي الموردة  العريق وأم درمان وكل السودان الذي فقد ثلثه؟
**د-عبدالسلام نورالدين
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

 

آراء